القديس يوحنا الذهبيّ الفم ومسيحيُّو القرن الحادي والعشرين

الفئة:رعائيّات

القديس يوحنا الذهبيّ الفم ومسيحيُّو القرن الحادي والعشرين

الأب يوشيَّا ترينهام

نقلها إلى العربيَّة الشماس مكسيموس سلُّوم

 

القسم التالي من المحاضرة (التي أوصي بقراءتها بالكامل) التي ألقاها الأب يوشيَّا ترينهام (Josiah Trenham) في عام 2007 مفيدة للغاية حول كيفيَّة إمكانيَّة المسيحيين من تطبيق بعض نصائح القديس يوحنا الذهبيّ الفم على الأقل في حياتنا اليوم. بالطبع، هذه النصائح ليست شاملة بأي حال من الأحوال، لكنها تمنحنا ما يكفي للتفكير فيه وتشجِّعنا على التعمُّق أكثر في الكنوز الغنيَّة لأحد آباء الكنيسة الأرثوذكسيَّة العظماء.

في هذا القسم الأخير من محاضرتي، أود التركيز على عدَّة مجالات من حياة القديس يوحنا الذهبيّ الفم وتعليمه أتصوَّر أنَّها تُقدِّم مساعدة معيَّنة لمسيحيِّي القرن الحادي والعشرين. تجد الكنيسة نفسها في هذه الألفيَّة الجديدة وهي تواجه خصوصيات فريدة من نوعها، تتطلَّب كلمة واضحة من الآباء القديسين لتوجيهنا عبر التحدِّيات الفريدة للحياة ما بعد العصرنة.

 

تقديس حياة المدينة في عصر التمدُّن العالميّ

إنَّنا نعيش في فترة مميَّزة في التاريخ. ففي وقت ما خلال الأشهر القليلة المقبلة يتوقع خبراء الديموغرافيا (علم السكان)، ولأول مرة في التاريخ المسجل، أن يعيش أكثر من نصف سكان العالم في المدن. ومن المتوقع أن تشهد السنوات الخمس والعشرون المقبلة زيادة جذريَّة في التمدُّن السريع الذي كان قد بدأ منذ عقود من الزمن. وستكون هذه الزيادة أكثر حدَّة في البلدان النامية، وسوف يكون معظمُها انتقالاً إلى مدن يبلغ عدد سكانها 500 ألف نسمة أو أقل، وليس إلى المدن الكبرى. ومع مثل هذه الانتقالات السكانيَّة المكثَّفة وازدياد عدد المدن في العالم وأهميتها، تأتي عواقب اجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة هائلة. وهذا صحيح بشكل خاص إذا كان النمو غير مخطَّط له، كما يحدث في دَكا في بنغلاديش - حيث يعيش 3.4 مليون من سكان المدينة البالغ عددهم 13 مليون نسمة في الأحياء الفقيرة. لقد قمتُ بزيارة دَكا في العام 1987 وشهدت الأضرار الهائلة الناجمة عن الفيضانات والدمار البشريّ الذي كان ثمرة التمدُّن الجذريّ وغير المخطَّط له. إنَّ الأزمات الصحيَّة، والقدرة على الوصول إلى المياه، والفقر، كلها تتركَّز في المدن، ومع ذلك فإنَّ هذه المدن نفسها هي السبيل للخروج من هذه المحن بالنسبة لمعظم الناس. إنَّ التمدُّن هو أحد القضايا المركزيَّة في القرن الحادي والعشرين. والآن يُعطى الكثير من الاهتمام للحقائق الماديَّة للتمدُّن، ولكن لا يزال هناك القليل من الاهتمام للحقائق الروحيَّة. فالكنائس، والإكليروس، والموارد الروحيَّة والخيريَّة، كل هذه هي احتياجات فوريَّة وملموسة للتمدُّن.

هنا تتألَّق شهادة القديس يوحنا الذهبيّ الفم بشكل ساطع وتكتسب أهميَّة كبيرة بالنسبة لنا اليوم. وُلد الذهبيّ الفم في المدينة. وُلد ونشأ في أنطاكية، إحدى المدن الرائدة في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وأنهى حياته في القسطنطينيَّة. لم يعش حياة منفصلة عن حشود المدينة المتصاعدة. لقد كان ملمًّا بالزحمة البشريَّة. لقد أحبَّها وسعى لإنقاذها. اعتبر القديس يوحنا المسيحيين مخلِّصين للمدينة وحراسًا ورعاةً ومعلِّمين لها.1 بالإضافة إلى خبرته العمليَّة الخاصة بالمدينة، امتلك القديس يوحنا من ميراثه الفكريّ اليونانيّ تقديرًا هائلاً للمدينة باعتبارها مركز الحضارة.2 لم يترك لنا أي من آباء الكنيسة رؤية أكثر وضوحًا لتقديس المدينة من القديس يوحنا الذهبيّ الفم. ومن واجبنا كمسيحيين أن نسبر أغواره في صياغة رؤية مسؤولة للخدمة المسيحيَّة في هذا السياق التمدُّنيّ.

وبينما نفعل ذلك، ينبغي لنا أن نلاحظ عدَّة أمور. كان القديس يوحنا الذهبيّ الفم يؤمن أنَّ الكنيسة تقدِّس الجميع. وينبغي أن تمتلئ المدن بالكنائس. وقد بنى القديس يوحنا الذهبيّ الفم هذه الكنائس وخدم فيها، وكان يعتقد أنَّه لا يوجد بديل على الإطلاق للمسيحيِّين الحضريِّين (أي الذين يعيشون في المدن) الذين يشاركون بانتظام في الخدم الإلهيَّة الكنسيَّة. إنَّ الفوضى والصخب في حياة التمدُّن تُنظَّم وتُقدَّس وترتقي من خلال المشاركة في الصلوات السحريَّة والمسائيَّة التي تُقام في هياكل الله. كان القديس يوحنا الذهبيّ الفم يتوقع أن يرى شعبه في الكنيسة عدة مرات خلال الأسبوع، والعديد من عظاته الشهيرة لم تُلقى في اجتماعات يوم الربّ (أي يوم الأحد) بل خلال صلوات أيام الأسبوع. وكان الذهبيُّ الفم يعتقد أيضًا أنَّ المفتاح لتقديس المدينة هو تقديس المنزل. إن جودة الحياة المنزليَّة ستحدِّد جودة الحياة في المدينة. كل عمل قانونيّ يجب أن يُعتَنق كمهنة حقيقيَّة، ومن واجب الإكليروس مساعدة المؤمنين على تقدير عملهم الذي هو خدمة الربّ الإله.

وفقًا للقديس يجب على المسيحيِّين في المدينة أيضًا، أن يقوموا بالحجِّ بانتظام خارج صخب المدينة إلى ضريح الشهداء القديسين، ومساكن الرهبان القديسين في الصحراء. إنَّ ممارسة الحجّ المنتظم لها أهميَّة كبيرة لأولئك الذين يعيشون في مساكن المدينة المزدحمة والمليئة بالضغوط. وبالرغم أنَّه يتعيَّن علينا زيارة النساك خارج المدينة، فيجب علينا أيضًا أن ننشئ داخل المدينة حضورًا رهبانيًّا قويًّا. كان تحويل المدينة إلى دير حلمًا للقديس يوحنا الذهبيّ الفم. ورغم أنَّ لدينا عددًا صغيرًا من الأديرة في بلادنا، إلاَّ أنَّ معظمها بعيدًا عن المدينة. لقد اختبر القديس يوحنا شيئًا مختلفًا وتقليديًّا تمامًا. لقد روَّج الذهبيُّ الفم واستثمر في كمال الرهبنة في المدينة. أين كان دير القديسة أوليمبياس؟ ألَم يكن في وسط القسطنطينيَّة؟ أين كان دير الراهب إسحق؟ ألَم يكن في وسط القسطنطينيَّة؟ إنَّ الرهبنة في المدينة تقدِّم لسكان المدينة تذكيرًا منعشًا بطموحاتنا السماويَّة، كما أنَّها تشكِّل قوَّة متينة في التعبير الملموس والسياسيّ عن المسيحيَّة في أوساطنا التمدُّنيَّة. لقد بذل القديس يوحنا الذهبيّ الفم جهدًا عظيمًا لمحاربة ما اعتبره ثقافة مدنيَّة شيطانيَّة وحسِّيَّة ولمسحنتها. ولم يكتف القديس يوحنا الذهبيُّ الفم بمراقبة أو المشاركة في المجرى اللامتناهي من وسائل الترفيه غير المشروعة والتشتُّتات الروحيَّة التي تنتجها حتمًا المدن الكبرى في هذا العالم الساقط بل هاجم الأشكال الوثنيَّة لحفلات الزفاف، والمسارح اللاَّأخلاقيَّة، والتجاوزات العامة، وحلبة السباق، ووقاحة الحمامات الرومانيَّة.3 يستطيع القديس يوحنا الذهبيّ الفم أن يساعدنا كثيرًا في سعينا إلى تقديس حياة المدينة في عصر التمدُّن الجذريّ هذا.

 

الأهميَّة القصوى للعمل الجماعيّ الكنسيّ في عصر الفرديَّة الراديكاليَّة (المتطرِّفة)

لقد علَّم القديس يوحنا أنَّ كينونة الكنيسة هي معجزة عميقة. ما هو أصل الكنيسة؟ من أين نشأت جماعتنا المقدَّسة أيها الإخوة والأخوات؟ هي ليست مجرَّد مؤسَّسة بشريَّة. لم يجتمع الرسل ببساطة معًا وتوصَّلوا إلى فكرة تأسيس هذه المنظمة، بأهداف وأعضاء ومستحقات معيَّنة. على الإطلاق. الكنيسة هي استمرار لمعجزة ميلاد المسيح. لقد تجسَّد ابن الله في رحم العذراء القديسة، وولد في العالم. يتجسَّد ابن الله تدريجيًّا في تأسيس الكنيسة وامتدادها في العالم. الكنيسة هي جسده، أي الانتشار المعجزيّ لتجسُّده في العالم. إنَّ مصدر الكنيسة ما فوق الطبيعة وفقًا للقديس يوحنا الذهبيّ الفم، يتجلَّى في المعجزة التي حدثت على الصليب الكريم والواهب الحياة. عندما كان مخلِّصنا معلَّقًا على الصليب، طُعن بحربة، وفجأة خرج دم وماء من جنبه المقدَّس. هذا الدم والماء هما المعموديَّة المقدَّسة التي بها ينضم الإنسان إلى الكنيسة، والإفخارستيَّا المقدَّسة التي بها ينمو الإنسان في الكنيسة. خرجت هذه الأسرار المقدَّسة من جنب مخلِّصنا بنفس الطريقة التي أُخِذَت بها حواء من جنب آدم. الكنيسة هي عروس المسيح، ولذلك أُخِذَت من جنبه أثناء ارتفاعه على الصليب كثمرة كفَّارته المقدَّس. إنها معجزة الخليقة الجديدة.

إنَّ وحدتنا في الكنيسة، بحسب القديس يوحنا الذهبيّ الفم، هي عجيبة ما فوق الطبيعة. ففي الكنيسة نختبر اتِّحادًا صميميًّا مع يسوع المسيح. هذه الحقيقة المتمثلة في كوننا "في المسيح" هي الصورة الأكثر استخدامًا من قبل الرسول العظيم بولس في وصف الحياة المسيحيَّة. إنَّ الحياة المسيحيَّة هي حياة الكنيسة، لأنَّه من خلال المعموديَّة المقدَّسة نتَّحد في المسيح وكنيسته. وكمسيحيين، فإننا نمتلك وحدة أعظم بكثير من وحدة المنظمات الدنيويَّة. فنحن نشترك في رحم مشترك، وأم مشتركة في الكنيسة، وأب مشترك في الله، ومائدة مشتركة نتناول منها طعام الحياة الأبديَّة، ولغة مشتركة في التمجيد، وسعي مشترك، وروحٌ مشتركة، وأخلاق مشتركة، ومصير مشترك. تتجلَّى هذه الوحدة في كل قداس إلهيّ، بحسب القديس يوحنا الذهبيّ الفم، في مشاركتنا في الإفخارستيَّة المقدَّسة حيث نصبح متَّحدين معًا كجسد المسيح. ولهذا السبب نحتفل بالقداس الإلهيّ بكأسٍ مقدَّسةٍ واحدةٍ. والكأس المقدَّسة الواحدة تشهد على وحدتنا. حتى لو قمنا بتوزيع المناولة المقدَّسة في كؤوس متعددة فإنَّنا لا نبارك كؤوسًا متعددة، بل نقدِّس كأسًا واحدةً فقط، ثم نحضر كؤوسًا فارغة أخرى ونملأها من الكأس المقدَّسة الواحدة.

إنَّ خبرتنا في الكنيسة هي تحوُّلاً. إنَّ قداسة مجتمعنا تُشهَد عليها في ما نقوم به عندما نجتمع معًا حول المذبح المقدَّس. إنَّ الخدم الإلهيَّة هي العامل الأكثر قوَّة في القداسة الشخصيَّة. "لا شيء يساهم في أسلوب حياة فاضلة وأخلاقيَّة مثل الوقت الذي تقضيه هنا في الكنيسة".4 هناك نعمة وراء كل عمل في القداس الإلهيّ. غالبًا ما يتحدث الذهبيّ الفم ببلاغة عن الحركات الليتورجيَّة للخدمة. عندما يهتف الشماس "لنقف حسنًا"، فإنه يخاطب أرواحنا في المقام الأول، وليس فقط أجسادنا. الوعظ يُقدِّس. الإقخارستيَّة المقدَّسة تُحيي وتُطلق اللهب من أفواهنا، ويُرسَم الدم على عتبات أبواب أجسادنا ويمر ملاك الموت من فوقنا. لا يوجد ما هو أكثر قيمة ومركزيَّة وتحوُّلاً وعجائبيًّا في وجودنا الإنسانيّ من الحياة في الكنيسة.

مع هذه الهبة للجماعة المقدَّسة تأتي إلتزامات مقدَّسة لكل مسيحيّ. الرفقة المقدَّسة الحقيقيَّة هي قوَّة الكنيسة. اسمعوا إلى كلمات القديس يوحنا الذهبيّ الفم:

"فلنفضِّل الوقت الذي نقضيه هنا في الكنيسة على أي عمل أو اهتمام. أخبرني بهذا. ما هو المكسب الذي قد تجنيه والذي يمكن أن يفوق الخسارة التي تجلبها على نفسك وعلى أسرتك بأكملها عندما تبتعد عن الخدم الدينيَّة؟ لنفترض أنَّك وجدت بيتًا كاملاً مليئًا بالذهب، وكان هذا الاكتشاف هو سبب ابتعادك. لقد خسرت أكثر مما وجدته، وخسارتك أعظم بقدر ما تكون الأمور الروحيَّة أفضل من الأمور التي نراها. يشجِّع الحضور إلى الخدم الإلهيَّة إخوتك وأخواتك بشكل كبير في الإيمان والحرب الروحيَّة ... انتقلت الكنيسة من 11 إلى 120 إلى ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف إلى العالم كله وكان سبب هذا النمو أنهم لم يتركوا اجتماعهم أبدًا. كانوا دائمًا مع بعضهم البعض، يقضون اليوم كله في الهيكل، ويوجِّهون انتباههم إلى الصلاة والنصوص المقدَّسة. هذا هو السبب في أنَّهم أشعلوا نارًا عظيمة. يجب علينا نحن أيضًا أن نحاكيهم".5

لقد علَّم القديس يوحنا الذهبيّ الفم أنَّ المسؤوليَّات الجماعيَّة للشعب المسيحيّ تتجاوز إلى حدٍّ كبيرٍ مجرَّد حاجتهم إلى أن يشاركوا بإخلاص في الخِدم الإلهيَّة. لقد دعاهم إلى تحمُّل المسؤوليَّة عن بعضهم البعض، والعمل كأسرة حقيقيَّة. إذا كان المسيحيُّ المؤمن صديقًا لمسيحيّ كسول، فيجب على المؤمن أن يذهب إلى الكسول يوم الأحد، ويجرُّه حرفيًّا إلى القداس. في تعليقه على المزمور 50، ذكر القديس يوحنا الذهبيّ الفم أنَّه إذا رأى المُصلُّون الآخرون مسيحيًّا لاأخلاقيّ يدخل في طابور المناولة، فيجب على المؤمنين إبلاغ الكاهن على الفور حتى يتمكَّن من استبعاده من المناولة. إذا سمع المسيحيّ المؤمن أخاه يجدِّف، فيجب أن يضربه على فمه، "ويقدس يمينه" (أي أن يقدِّس يده الذي ضرب فيها فم المجدِّف). إنَّ صورة المسؤوليَّة الجماعيَّة واضحة، وفي سياقنا الفرديّ -عِش ودع غيرك يعيش-، تبدو متطرِّفة. لكن القديس يوحنا الذهبيّ الفم يعتبر العضويَّة في الكنيسة مهمَّة جدًّا ويفترض أنَّ هناك العديد من المسؤوليَّات الجماعيَّة المرتبطة بها والتي صمَّمها إلهٌ محبٌّ ويعمل من أجل خلاص الجماعة بأكملها. إنَّ المسئوليَّة لا تقع على عاتق العلمانيين فقط بل يجب على الإكليروس أن يكونوا رعاة رصينين ولا يجب أن يتركوا خرافهم مريضة أو معرَّضة للخطر. ويمكننا أن نجد مثالاً على هذه الرعاية الرصينة في حياة القديس يوحنا الذهبيّ الفم عندما كان كاهنًا في زمن أعمال الشغب الضريبيَّة في أنطاكية. لقد ألقى القديس يوحنا سلسلة من 21 عظة خلال الأيام المتوترة التي أعقبت أعمال الشغب. وخلال هذه السلسلة سعى الذهبيُّ الفم إلى إصلاح شعبه من عادة ذمِّ الآخرين. لقد تناول القديس يوحنا هذا الموضوع ما لا يقل عن 15 مرة في فترة أسابيع قليلة، عظة تلو الأخرى. لقد كان يَعلم أنَّ شعبه قد سئم من وعظه بالوتيرة نفسها، ومع ذلك لم يتوقفوا عن عادتهم السيئة ورفض القديس يوحنا الذهبيّ الفم التظاهر بأنَّهم قد توقفوا عن هذه العادة السيئة والمضي قدمًا. وأخيرًا، اعترف بمظالمهم وأكَّد لهم أنَّه يستطيع المضي قدمًا بسرعة كبيرة إذا أرادوا. كل ما عليهم فعله هو التوقف عن الشتائم ثم سيمضي قدمًا. لقد كان الأمر في أيديهم تمامًا. لقد كان طبيبًا أمينًا، وليس محترفًا أو ممثلًا. لقد أصرَّ على تحسين حالة مرضاه. وكانت النتيجة أن تقلَّص استخدام الشتائم، ومضى قدمًا الذهبيّ الفم، ولكن القديس عبَّر عن نقطة بالغة الأهميَّة حول الحياة في الكنيسة. إنَّ الحياة التي نعيشها في الكنيسة هي حياة تركِّز على التغيير الشخصيّ.

أيها الإخوة والأخوات، إنَّ العديد من أبناء شعبنا الأرثوذكسيّ لا يملكون خبرة أصيلة عن ماهية الحياة الكنسيَّة الحقيقيَّة. فنحن لا نقدِّر معجزة الحياة في الكنيسة، ونكتفي بفرديَّة فارغة ومنفِّرة. لقد تغلغلت روح شريرة تقول "أنا ويسوع فقط يا حبيبتي" في المسيحيَّة الأمريكيَّة اليوم على حساب أمَّتنا. إنَّ إيماننا يعلِّمنا أنَّه لا يوجد انقسام بين يسوع والكنيسة. إنَّ مخلِّصنا ليس رأسًا عائمًا نشترك فيه بمعزل عن جسده المقدَّس. لقد وصلت الجماعة الكنسيَّة إلى أدنى مستوياتها في عصرنا. يقف القديس يوحنا الذهبيّ الفم عند عرش الله مستعدًّا لإرشادنا وإرشاد شعبنا حول معجزة الجماعة المقدَّسة، وإنقاذنا من موت عبادة الذات.6 إنَّ عصر الفرديَّة واللعبة الدينيَّة هذا هو وقت الرعاية الجادَّة، وإحياء الجماعة الكنسيَّة، والطاعة المقدَّسة للكنيسة.

 

الدعوة إلى الثقة في الربِّ في عصر القلق العصيب

بالإضافة إلى كونها عصر التمدُّن والفرديَّة المتطرفة، فإنَّ الحياة المعاصرة هي عصر القلق العصيب. أطلق بعض المثقَّفين على القرن العشرين لقب "عصر القلق". إنَّ الزيادة الملحوظة التي شهدتها المئة عام الماضية في مستويات القلق والعديد من الأمراض، مثل الاكتئاب، التي تنبع من القلق الحاد هي حقيقة علميَّة. في مقال موثوق ومنتشر على نطاق واسع بعنوان "عصر القلق؟ تغيُّر مجموعة المواليد في القلق والعصبيَّة"، 1952-1993،7 ونُشر في مجلة علم النفس الشخصيّ والاجتماعيّ، توثق أستاذة علم النفس بجامعة Case Western Reserve، جان إم توينج (Jean M. Twenge)، من خلال تحليلين تلويين (علم الإحصاء) لمجموعات اجتماعيَّة مختلفة في أمريكا تأثير الأوقات الثقافيَّة المتغيِّرة على تطوُّر الشخصيَّة. توثق توينج الزيادة في مستويات القلق في ثقافتنا في نصف القرن الماضي، وتزعم أنَّ التغييرات في البيئة الاجتماعيَّة الثقافيَّة الأوسع كانت السبب الرئيسيّ: تغييرات مثل زيادة الجرائم العنيفة، والقلق بشأن الحرب النوويَّة، والخوف من الأمراض مثل الإيدز، وتحصيل النساء على التعليم العالي وأماكن العمل (مكان التوتر الشديد). تتفاقم هذه العوامل المساهمة بسبب التغطية الإعلاميَّة، مما يؤدي إلى إدراك أكبر للتهديد البيئي الشامل.

إنَّ عدد الأشخاص الذين يراجعون الأطباء بسبب القلق أكبر من عدد الأشخاص الذين يراجعون الأطباء بسبب نزلات البرد. القلق عامل مهيِّئ للإصابة بالاكتئاب الشديد ومحاولات الانتحار. وهناك مجال آخر يمكن من خلاله قياس مستويات القلق وهو انتشار العلاج الدوائيّ للقلق والاكتئاب. والاستخدام الشائع لعقار بروزاك (Prozac)، الذي أصبح شائعًا إلى الحد الذي جعل ربع سكان أميركا البالغين يتلقون العلاج به في الآونة الأخيرة، يشكِّل إشارة مهمة. إنَّ الاكتئاب وباء في مجتمعنا. ونحن نعيش في عصر الكآبة.

لقد تناول العديد من شيوخنا الروحيين المعاصرين، مثل الشيخ (القديس) باييسيوس الآثوسي، قلق الإنسان المعاصر. لقد علَّم الشيخ باييسيوس أنَّ الإنسان المعاصر يعاني من ثلاثة آلام فريدة: الطلاق، والسرطان، والقلق والمرض العقليَّين. ومن شدَّة حبِّه لأخيه الإنسان، رغب الأب باييسيوس في تحمُّل بعض العبء. فلم يكن بوسعه أن يتحمل ألم الطلاق لأنَّه لم يكن متزوِّجًا، ولم يكن يريد أن يعاني من القلق والمرض العقليَّين لأنَّ ذلك قد يؤثِّر على صلاته. لذا فقد صلَّى من أجل السرطان وناله، وعلَّم الرجال المعاصرين كيف يتحمَّلونه من أجل الله. وكتب أنَّ السرطان، بعمليَّة قتله الطويلة المعتادة لضحيته، قد قاد أعدادًا لا حصر لها إلى التوبة وملأ الفردوس.

لقد أصبحنا شعبًا قلقًا لأنَّ خطايانا تزايدت، وإيماننا تضاءل. لقد كان القرن العشرون قرنًا من القلق العصيب لأنَّه كان قرنًا من العنف البغيض والفجور الجامح. قبل عدَّة سنوات، وفي محاولة لفهم القرن العشرين بشكل أفضل، قرأت كتاب السيد مارتن جيلبرتSir Martin) (Gilbert المؤلَّف من ثلاث مجلَّدات بعنوان تاريخ القرن العشرين. لقد ترك لي عمله الرائع وعيًا عميقًا بأنَّ القرن العشرين كان القرن الأكثر عنفًا في تاريخ البشريَّة. وهذا الحكم الذي صدر هكذا بسبب الحربَين العالميَّتَين والفظائع ضدَّ حقوق الإنسان التي ملأت القرن. عندما نأخذ في الاعتبار محرقة الإجهاض الجديدة، التي أودت بحياة أكثر من خمسين مليون طفل لم يولدوا بعد في السنوات الأربع والثلاثين الماضية، يصبح العنف هو الدافع المحدد للقرن. كان العنف هو الخطيئة الخاصة في عصر نوح التي أثارت غضب الربُّ الإله الذي جلب الطوفان العالميّ على الجنس البشريّ. من المؤكَّد أنَّ الله الكليّ القدرة لا يستطيع أن يرضى عن المئة عام الأخيرة، وهو القرن الذي يودُّ كثيرون أن ينسوه.

يجب علينا نحن المؤمنين المسيحيِّين أن نتعامل مع قلق ثقافتنا وجهًا لوجه. لقد دعانا يسوع المسيح للشهادة بثقتنا وإيماننا فيه في عصر مضطَّرب.8 يجب أن نعيش حياة ثقة هادئة في الربِّ، حياة الإيمان، وندعو إخواننا البشر إلى مثل هذه الثقة. يمكن للقديس يوحنا الذهبيّ الفم أن يكون عونًا كبيرًا لنا في هذه الدعوة. كانت حياة الذهبيّ الفم مليئة بالأحزان الأرضيَّة: فقدان والده وهو طفل، ووالدته وأخته وهو شاب؛ الأمراض الجسديَّة؛ العواطف المعذبة؛ الأخلاق المدنيَّة والكنسيَّة المضطربة وغير المستقرَّة؛9 الخطف والتشرُّد؛ المسؤوليَّات الرعويَّة الهائلة؛ المعارضة المستمرَّة؛ الاتِّهام الكاذب من قبل إخوته الأساقفة في مجمع السنديان؛ الخداع الإمبراطوريّ؛ النفي والموت في المنفى. نعم، يبدو الأمر وكأنَّه حياة قديس، أليس كذلك؟ صليبٌ كبيرٌ قرَّر القديس البقاء عليه.

في وسط هذه الأحزان وجد القديس يوحنا الذهبيّ الفم فرحًا عظيمًا، وعاش من خلالها جميعًا بالثقة في إرادة الله. لا شكَّ أنَّ أعظم كتاباته عن موضوع الإيمان في زمن القلق هي تلك التي كتبها أثناء وجوده في المنفى. وهنا نجد كلمات صيغت بحرارة كحرارة الفرن، ونرى انتصار إيمانه. أودُّ أن ألفت انتباهكم إلى مقالتين على وجه الخصوص. وقد ألَّف القديس يوحنا الذهبيّ الفم هاتين المقالتين في المنفى، قبل وفاته بفترة وجيزة، من أجل مواساة صديقته العزيزة الشماسة القديسة أوليمبيا، التي كانت تعاني من اكتئاب شديد بسبب نفي أبيها الروحيّ.

أوَّل عمل صغير للقديس يوحنا الذهبيّ الفم كان حوالي خمس عشرة صفحة، بعنوان "لا أحد يستطيع أن يؤذي الإنسان الذي لا يؤذي نفسه". في هذا العمل الجميل، يعلِّمنا أنَّ هناك شيئًا واحدًا فقط في الحياة يجب أن نخافه، شيء واحد فقط يجب أن نقلق بشأنه. هذا الشيء الوحيد هو الخطيئة. إنَّه الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه، وإذا كنَّا نخافه، فلن نضطر أبدًا إلى الخوف من أي شيء آخر على الإطلاق لأنَّ الله الصالح سيحرص على ألا يؤذينا أي شيء إن كنَّا قد وضعنا ثقتنا فيه. أوصي كل واحد منكم بقراءة هذه الرسالة العميقة. العمل الثاني أطول، ربما مئة صفحة بعنوان "عن العناية الإلهيَّة". في هذه الرسالة الموسَّعة، يقدِّم القديس يوحنا الذهبيّ الفم مبرِّرات عدَّة من المنطق والخليقة ليضع المرء الثقة الكاملة في حِكم الربِّ الإله، ويذكِّر قرَّاءَه بالأمان الذي يشعر به المرء عندما يكون ابنًا للإله الواحد، الذي هو الآب القدير. لدى الله قلب الأب بالنسبة لنا، وثروة القدير هو أن يضع قلب الأب موضع التنفيذ. لا يوجد معاناة يتحملها المؤمن في الإيمان لن تكون خلاصيَّة. وأخيرًا، يدعو القديس يوحنا الذهبيّ الفم المؤمنين إلى الصمت المهيب أمام النتائج والتطورات البشريَّة التي تتجاوز فهمنا. الصمت المهيب هو أفضل استجابة للأحداث التي لا نستطيع فهمها. بهذا الإيمان وبهذه الثقة الهادئة في الربِّ الإله وصل القديس يوحنا الذهبيّ الفم إلى نهايته، فاستلقى على الأرض، وتلقى الأسرار المقدَّسة، ورسم صليبه، ونطق بكلماته الأخيرة التي سأختتم بها محاضرتي: "المجد لله على كل شيء".

 

https://www.johnsanidopoulos.com/2009/11/saint-john-chrysostom-and-21st-century.html?m=1


 

1 Homily 1 on the Statues, NPNF, p. 343.

كان يتوقع من المسيحيين بحماستهم لله وشريعته أن يزرعوا الخوف في نفوس مواطنيهم المنحرفين. كان الذهبيّ الفم يتوقع أن يرتعد اليهود واليونانيون (الأمم) في ظلال المسيحيين خوفًا من أن يوبخوا تجديفهم وفسادهم.

2 وهذا واضح بشكل خاص في عظاته عن التماثيل التي ألقاها سنة 387م في وقت ثورة الضرائب. ففي كل هذه العظات يناشد الذهبيّ الفم جماعته افتخاره بانتمائه إلى مدينة موقَّرة، ويذكر التاريخ المميَّز لمدينة أنطاكية، ويدعو مستمعيه إلى إثبات جدارتهم بعظمة المدينة من خلال فضيلتهم.

3إنَّ استبدال الحمامات العامة بالحمامات الخاصة هو في الأساس ثمرة للرؤية المسيحيَّة وعظات القديس يوحنا الذهبيّ الفم وغيره من الآباء القديسين في عصره.

Ward, Roy Bowen (1992). ‘Women in the Roman Baths,’ in Harvard Theological Review, 85:2.125-47.

ينبغي تطبيق اليوم المبادئ المستمدة من مسحنة الحمامات العامة على صالات الألعاب الرياضيَّة المختلطة، والتي تشترك في العديد من سمات الحمامات العامة الرومانيَّة القديمة.

4 العظة 12 في طبيعة الله غير المدرَكة

5 العظة 11 في طبيعة الله غير المدرَكة

6 بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في استكشاف المزيد من المعرفة الكنسيَّة للقديس يوحنا الذهبيّ الفم ورؤيته الواسعة لحياة الكنيسة، فإنني أوصي بقراءة كتاب المتقدِّم في الكهنة جوس جورج كريستو (2006)، هوية الكنيسة التي تأسست من خلال الصور وفقًا للقديس يوحنا الذهبي الفم، رولينغسفورد، نيو هامبشاير: معهد البحوث الأرثوذكسية.

Protopresbyter Gus George Christo’s (2006), The Church’s Identity Established through Images according to Saint John Chrysostom, Rollingsford, New Hampshire: Orthodox Research Institute.

7 Twenge (2000), Journal of Personality and Social Psychology, Vol. 79, No. 6, 1007-1021

8 ربما الآن أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الكنيسة، تتردَّد طلبات السلام الثلاثة المذكورة في الطلبة السلاميَّة الكبرى في بداية القداس الإلهي بقوة كبيرة بين المؤمنين.

9 في بداية كهنوتي كنت منزعجًا من الأحزان العديدة التي أصبحت على دراية بها، كانت راهبة تقيَّة، وهي الأُم فيكتوريا رئيسة دير القديسة بربارة، تنصحني قائلة: "يا أبتي، إذا كان بوسعنا أن نعيش في أنطاكية في القرن الرابع، فبوسعنا أن نعيش في أي زمن". كان ذلك تشجيعًا كبيرًا لي.



آخر المواضيع

القديس يوحنا الذهبيّ الفم ومسيحيُّو القرن الحادي والعشرين
الفئة : رعائيّات

الأب يوشيَّا ترينهام 2025-11-12

سرّ التسبيح والترتيل
الفئة : رعائيّات

الأب سمعان سمعان 2025-01-29

رسالةٌ من أبٍ روحيٍّ إلى كاهنٍ بعد سيامته
الفئة : رعائيّات

الأب سمعان سمعان 2025-01-07

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا