تأمّل في الموت


تأمّل في الموت

القدّيس إغناطيوس بريانتشانينوف

 

الموت، إنه مصير جميع البشر على الأرض، مصيرٌ مُحَتَّمٌ! نهرب منه وكأننا نهرب من أشرس عدوّ. ننوح بمرارة على الذين استولى عليهم الموت. ومع ذلك، فإنّنا نعيش حياتنا كما لو أنّه غير موجود، كما لو أنّنا نعيش إلى الأبد على الأرض.

يا قبري! أوّاه، لماذا أنساكَ؟ أنتَ تنتظرني، أنتَ تنتظر - ولا شكّ بأنّكَ ستصبح مَسكني. أوّاه، لماذا أنساكَ؟ ولماذا أتصرّف كما لو أنّ القبر هو من نصيب الآخرين فقط وليس من نصيبي أبدًا؟

لقد جرّدتني الخطيئة، ولم تزل تجرّدني من معرفة وإدراك كلِّ حقيقةٍ. إنّها تمنعني من تذكّر الموت وتُقصي أفكاري عنه، ذلك الحدث الحقيقي شديد الوضوح والأهمّ بالنسبة لي.

ومن أجل تذكّر الموت، يجب على المرء أن يسلك في حياته وِفقًا لوصايا المسيح. وصايا المسيح تُطهّر الذهن والقلب، وتُميتُهُما عن العالم، وتُجدّدهما للمسيح. ما أن ينفصل الذهن عن الأهواء الدنيويّة، فهو يبدأ بتوجيه نظره مِرارًا نحو عبوره السريّ إلى الأبدية، نحو الموت. فالقلب النقيّ يستشعر بأوان موته.

يصبو الذهن والقلب نحو الأبدية عندما ينفصلان عن العالم. بمجرّد أن أحبّا المسيح، يشعران بظمأ لا ينضب ليمثلا أمامه، ومع ذلك يرتعدان ساعةَ الموت، متأمّلَين عظمة الله ولاشيئيّتهما وإثمهما. بالنسبة إليهما، يبدو الموت حَدَثًا مُخيفًا (صِراعًا روحيًّا) وفي الوقت نفسه يبدو أنه الخلاص المبتغى من الأسر الأرضي.

إذا وجدنا أنفسنا غير قادرين على اشتهاء الموت بسبب بُرودتنا تجاه المسيح ومحبّتنا للأشياء الفاسدة، فلنلجأ على الأقلّ إلى تذكّر الموت كدواء مرّ ضدّ إثمنا بما أنّ «ذكر الموت»، _ هكذا يُسمّيه الآباء القديسون- حالما يلتصق ذكر الموت بالنفس، تنقطع أُلفتُها مع الخطيئة وكلّ ملذّاتها.

يقول أحد الآباء القدّيسين: وحده من يَعتاد على فكرة تذكّر موته، يستطيع أن يضع حدًّا لخطيئته. «فِي جَمِيعِ أَعْمَالِكَ، اذْكُرْ أَوَاخِرَكَ؛ فَلَنْ تَخْطَأَ إِلَى الأَبَدِ» (سيراخ40:7).

اِنهض من سريركَ كما لو أنّكَ تقوم من الموت. استلقِ عليه كما لو كنتَ مُستلقيًا في قبرك. النوم هو رَسمٌ للموت، وظلمة الليل نَذيرٌ بظلمة القبر تلك، التي سيُضيء بعدها نور القيامة، نورٌ مُبهِجٌ لخدّام المسيح، لكنّه نورٌ مَهولٌ لأعدائه.

بالرغم من أن السحابة الكثيفة لا تتكوّن سوى من طبقات رقيقة من الرطوبة، إلّا أنّها تحجب نور الشمس. كذلك الشهوات الجسدانيّة، شُرود الفكر، والاهتمامات الدنيوية التافهة، فهي تحجب الأبدية بكلّ جلالها عن نظر النفس.

عبثًا تشرق الشمس في سماء صافية وترسل أشّعتها لِعيون أصابها العمى. هكذا أيضًا، يبدو الأمر كما لو أنّ الأبدية لا وجود لها عند قلب مشغوف بالشهوات الأرضيّة، بكلّ شهوة تتعلّق بالعظمة، والمجد الباطل، وما هو فاتنٌ على الأرض. "موت الخطأة شريرٌ" (مزمور 33: 22 الترجمة السبعينيّة). يأتي الموت عليهم بشكل فجائيّ. يأتي إليهم من دون أن يكونوا مستعدّين لا للموت ولا للأبديّة، حتى من دون أن يكون لديهم أي تصوّر واضح لأيٍّ من هاتين المسألتين. ينتزع الموتُ الخطأةَ غير المستعدّين من على وجه الأرض حيث أنّهم لم يغضبوا إلّا الله، ويرسلهم إلى زنزانات الجحيم إلى الأبد .

هل ترغب في تذكّر الموت؟ حافِظْ على الاعتدال الصارم في الطعام، واللباس، وكافّة ممتلكاتك المنزلية؛ احترز ألّا تصبح الأشياءُ الضروريّة أغراضًا للتَّرَف. تأمّل في ناموس الله ليل نهار، أو كلّما أمكن ذلك، وهكذا ستتذكّر الموت. إن ذكر الموت يصحبه دموعًا مدرارة، وتوبةٌ عن الخطايا، نيّةٌ لتقويم النفس، والكثير من الصلوات الحارّة.

مَن مِن الناس بقيَ على الأرض ليحيا إلى الأبد؟ لا أحد. وفي هذه أيضا سأتبعُ آبائي وأجدادي وإخوتي وأقاربي. سينكفئ جسدي في القبر الأسود، وسيخفى مصيري عن أولئك الذين يزالون على الأرض بِسِرٍّ غامض.

أقاربي وأصدقائي سيحزنون عليّ، وربما حتى ينوحون بمرارة. ومع ذلك، سوف ينسون فيما بعد. كذلك هناك آلاف لا تُحصى من الناس حُزِنَ عليهم ثم نُسِيوا فيما بعد. وحده الإله الواحد والكامل الذي يُحصيهم ويذكرهم.

ما إن وُلِدتُ، وما إن حُبِلَ بي، حتّى وضع الموت ختمه عليّ. قال: «إنه لي»، وعلى الفور أعدّ منجله ليحصُدَني. إنه يُلوّح بمنجله منذ لحظة ولادتي. في أيّة لحظة يمكن أن أكون ضحيّة الموت! لقد نجوت من الموت في عدّة حوادث وشيكة، ولكن لا مفرّ من الضربة القاضية، الموت المحتّم.

يتطلّع الموتُ بابتسامةِ ازدراءٍ إلى كلّ أعمال البشر على الأرض. يبني البنّاءُ عَمارته الضخمة، والرسام يحاول إتمام تحفته. يبتكر العبقري مشاريع باهرة، ويرغب في تحقيقها. في تلك اللحظة عينها يأتي الموت، بشكل فجائيّ ودون رحمة، ليحوّل كلّ مُخَطَّطاتهم إلى عدم.

الموت العديم الشفقة، الذي غلبه المسيح، لا يوقر إلّا خادم المسيح؛ لا يحترم إلا تلك الحياة التي بالمسيح. يحصل في الكثير من الأحيان أن يعلن رسولٌ من السماء لخدّام الحقيقة عبورَهم القريب إلى الأبدية والغبطة التي سينالونها هناك. أولئك الذين كانوا مستعدين للموت في حياتهم للموت، يرقدون رقاد الموت الطويل بسلامٍ وبابتسامة على ثَغرِهم وجهوهم يرقدون بسلام وسبات عميق.

هل رأى أحدٌ من قَبل جسدَ رجلٍ بارٍّ تنفصل عن نفسه؟ لن تشمّ أيّة رائحة كريهة تنبعث من جسده، ولن تخاف من الاقتراب منه. وعند دفنه يتبدّد الحزن بفرحٍ لا يُفَسَّر. أحيانًا، تكون ملامحُ وجهه، المتجمِّدة كما كانت في اللحظات الأخيرة عند خروج نفسه، مُستريحةً في سكون عميق، وأحيانًا يشرق على وجهه فرحُ السلام واللقاء مع الملائكة وجوق القديسين المرسلين من السماء ليستقبلوا نفوس الصدّيقين.

يا لَكَم يجب أن أتذكّر موتي! تعال إليّ أيها الذِّكر (ذكر الموت)، إنَّكَ مَريرٌ لكنك عادل ونافع في الوقت ذاته. نَجِّني من الخطيئة! أرشِدْني إلى طريق المسيح! ولتتوانَ يداي بذلك عن كلِّ عمل فارغ وباطل وخاطئ.

يا لَكَم يجب أن أتذكّر موتي! فيهربَ منيّ عندئذٍ المجدُ الباطلُ وحبُّ اللذة. يجب أن أرفع عن مائدتي الأطعمة اللذيذة الفاخرة، وأخلع ثيابي الرائعة البهيّة، وأرتدي ثوب الحِداد. بعدئذٍ يجب أن أرثي نفسي وأنا بعدُ على قيد الحياة، أنا الذي وُسِمتُ إنسانًا مائتًا منذ ولادتي.

وهكذا تذكّر الموت: «تذكّر وارثِ لنفسك ما دُمتَ بين الأحياء. لقد أتيتُ لأحزنَ عليك حُزنًا مفيدًا جالِبًا معي مجموعةً من الأفكار التي تعود بمنفعةٍ عظيمةٍ للنفس! بِعْ ما يزيد عندك ووزِّع ثمنه على الفقراء. أكنز بذلك كنوزَك لك في السماء بحسب وصيّة المخلص. ستلتقي بمالكها هناك وتزداد إلى مئة ضعف. اذرف دموعًا سخينة واسكب من أجل نفسك صلوات حارّة. من يستطيع بمثل هذه العناية والجهاد أن يتذكرك بعد الموت كما تفعل أنتَ قبل موتكَ؟ لا تعهد بخلاصك إلى شخص آخر بينما يمكن أن تقوم أنت بنفسك بهذا الأمر الشديد الأهمية! لماذا تسعى نحو الفساد في حين أن الموت سيجرّدك بكل تأكيد من كل ما هو فاسد؟ هو [الموت] المُنَفِّذ لأوامرِ الله الكلي قدسه. ما عليه سوى سماع الأمر، ليندفع فورًا وبسرعة البرق لتنفيذه. لا يكترث للغني ولا للنبيل، سواء كان بطلاً أم عبقريًا، ولا يعفو عن الشباب، الجمال أو السعادة الدنيوية؛ يرسل الجميع على حد سواء إلى الأبدية. خادم الله يدخل إلى نعيم الأبدية، أمّا عدوّ الله إلى عذاب أبدي».

قال الآباء القديسون: «ذكر الموت عطيّة إلهية». إنّه يُعطى لأولئك الذين يحفظون وصايا المسيح لكي يُكمّلهم في جهادهم المقدس للتوبة والخلاص.

تسبق ذكر الموت، الذي يُنعِمُ به الله، جهودُ المرء في تذكّر الموت. اُغصُبْ نفسك كثيرًا على تذكّر الموت؛ سَمِّر نفسك بالحقيقة التي لا شك فيها، بأنك ستموت بالتأكيد - في وقت لا تعلمه - وسيأتيك ذكر الموت من تلقاء نفسه؛ سيبدأ ذكرٌ عميق وحادّ للموت بالظهور أمام عين ذهنك. سيوجّه ضربات مميتة نحو كلّ أعمالك الخاطئة.

هذه العطيّة الروحية إنّما هي غريبة عن مُحِبِّ الخطيئة. حتى عندما يقف أمام القبرِ نفسه، فإنه لا يكفّ عن تسليم ذاته للملذّات الجسدية الخاطئة. لا يتذكّر الموت، رغم أنه يقف أمامه وجهاً لوجه. بينما خادم المسيح على عكس ذلك يتذكّر القبر الذي ينتظره، حتى وهو في غرف الملوك الفخمة، ويذرف على نفسه دموعًا خلاصيّة. آمين.

 

https://orthochristian.com/150652.html



آخر المواضيع

بَرَكَة صليبنا
الفئة : زمن التريودي المقدّس

المتروبوليت أثناسيوس ليماسول 2024-04-06

في السلام بيننا
الفئة : زمن التريودي المقدّس

‏القدّيس غريغوريوس بالاماس 2024-03-28

عظة في أحد الأرثوذكسيّة​​
الفئة : زمن التريودي المقدّس

القديس لوقا الجرّاح، أسقف سيمفروبول 2024-03-24

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا