غاية الحياة المسيحيّة ومعرفة الله


غاية الحياة المسيحيّة ومعرفة الله

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

نُشِرت في الكرمة، العدد 48، الأحد 30 تشرين الثاني 2025
 

كلّ كلام عن المسيح والحياة المسيحيّة لا قيمة له ما لم يكن هدفه الدخول أعمق في سرّ معرفة الله. ما قيمة تجسّد ابن الله وكلّ هذه الآلام التي احتملها على الصليب، إن لم تقد إلى معرفة مباشرة وعلاقة متبادلة حيّة بين الله والإنسان، بين الخالق وخليقته. لكن ما هي الوسيلة التي بها نبلغ هذه الشركة المباشرة مع الله، في الوقت الّذي تبقى فيه قدرات الإنسان الساقط هشّة ومغلوبة من أهواء وخطايا لا تُحصى. كيف يُمكن لهذا الذهن المثقل بأهوائه وشهواته وهذه الإرادة المريضة بميولها الأنانيّة أن ترتفع إلى حيث نزل الله؟

إنّ عقيدة معرفة الله والشركة المباشرة معه كانت الحافز الرئيسيّ لدفاع آباء الكنيسة القدّيسين ضدّ الهرطقات العديدة التي شوّهت هذه الحقيقة. فمن زمن الغنوسيّين، في القرون الأولى للمسيحيّة إلى اليوم، لم ينقطع العقلانيّون، من خارج الكنيسة ومن داخلها، عن إسقاط مستوى الحياة المسيحيّة من مسيرة تألّه إلى مستوى أخلاقيّات جيّدة وتصرّفات اجتماعيّة حسنة. التلاعب بعقائد الإيمان وبالخبرة الروحيّة الأرثوذكسيّة والقوانين الكنسيّة، لتتأقلم مع روح العصر، لا يدلّ إلّا على نفس مُلوّثة بروح شرّيرة، مات فيها كلّ حسّ روحيّ. الله هو النقاء المطلق والمقتربون إليه ينبغي أن يكونوا أنقياء، بالإيمان والعمل، بمقدار ما هو مستطاع عند المخلوق البشريّ.

مسيرة التألّه هي مسيرة تطهير القلب الداخليّ؛ لأنّ المسيح بوضوح يقول: "طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يُعاينون الله". إنّها معاينة فعليّة وليست رمزيّة، تتحقّق أوّلًا في القلب الداخليّ. يُمثّل القلب مركز كلّ الوجود البشريّ، الروحيّ والجسديّ، ومركز كلّ جهاده الروحيّ. نقاوة القلب تتحقّق حين يبلغ الإنسان حفظ كلّ الوصايا الإنجيليّة. يقول القدّيس إسحق السريانيّ: "إذا كنت تحبّ نقاوة القلب ونقاوة العقل الروحيّ...، فالتصق بالوصايا السيّديّة". والقدّيس غريغوريوس بالاماس يقول: "وصايا المسيح... وحدها تحقّق بالقداسة تمثّلنا بالله. وحدها تحقّق كمال النفس البشريّة وتألّهها".

عمليّة تطهير القلب الداخليّ تبدأ بتطهير الذهن من الأفكار الباطلة والفاسدة التي تُهاجمه وتُحاول أن تستعبده. يتكلّم آباؤنا القدّيسون عن الذهن (باليونانيّة النوس νούς)، كقوّة روحيّة لا مادّيّة، وسيط بين العقل والقلب، هو العين التي من خلالها تنمو قوى النفس في معرفة الحقيقة أو تخدعها الشياطين. الذهن يمثّل البوابة الرئيسيّة لدخول الأهواء إلى القلب وخروجها منه. القدّيس يوحنّا السلّميّ، متكلّمًا عن الهدوئيّين، يوضح دور الذهن بالنسبة إلى القلب، فيقول: "صديق الهدوء عقل شجاع صارم ساهر عند باب القلب يبيد الأفكار الواردة إليه أو يبعدها".

فالقوى الشيطانيّة تُحاور الذهن لتعرف ضعفاته والأهواء التي فيه. ومن خلال هذه الأهواء تشنّ عليه حرب أفكار عنيفة لاستعباده ودفعه إلى الخطيئة الفعليّة. فالخطيئة، كلّ خطيئة تبدأ أوّلًا في الذهن، وبعد تبنّيها منه تنتقل إلى الفعل. والكثير من الأمراض النفسيّة سببها الرئيسيّ ضغط شيطانيّ هائل من الأفكار على الذهن البشريّ لا يستطيع احتمالها فتُظلِمُ ذهنَهُ وتُحطّم كلّ قواه النفسيّة والجسديّة. 

الحرب الروحيّة تبدأ بمقاومة الأفكار الشيطانيّة، وتحتاج هذه إلى صلاة ذهنيّة مركّزة. في الأدب النسكيّ يتمّ التركيز على صلاة يسوع لإبعاد كلّ أنواع الأفكار، التي تقودنا إلى الخطيئة ونقض وصايا الإنجيل. الصلاة مُدعمّة بالتوبة والصوم، كانت دائمًا المحرّك الكبير في قدرة الإنسان على الانتصار في حرب الأفكار، بعد أن جعلت الخطيئة ذهن الإنسان يُسبى من أمور هذا الدهر العديدة، ليبقى متغرِّبًا عن الله. حفظ الذهن ونقاوته مستحيل من دون هذه الحرب ضدّ الأفكار والسيطرة عليها. فالانتصار على الأفكار هو الّذي يجعل ذهن الإنسان صالحًا وقادرًا على إتمام كلّ الوصايا؛ يرى الخطأ ولا يدين بل يعطف على الخطأة، ينظر ولا يحسد بل يفرح بنجاح الآخرين، يُحسن ولا يترجّى شيئًا بل يفرح بتعزية المتألّمين، يُضطهد ولا يحقد بل يغفر ويُصلّي لمضطهديه، يعمل ويخدم ويرعى الآخرين بروح التوبة وإنكار الذات. بهذه الروح يحفظ الإيمان ووصايا المسيح كفريضة مقدّسة، لا خلاص من دونها.

حفظ الوصايا الإلهيّة وتنقية الذهن إذاً، مستحيلان قبل إخضاع هذه الأهواء التي أساسها محبّة الذات الأنانيّة المتمرّدة على وصايا الله. حفظ وصايا المسيح ليس هدفه إتمام بعض أعمال الفضيلة الظاهرة، إنّما تحطيم قوّة الخطيئة التي تسود على حياتنا، والانتصار على جذورها التي نسمّيها الأهواء المعابة الفاسدة والشرّيرة. وهذا الجهاد لإخضاع أهواء الجسد يحتاج إلى أتعاب نسكيّة كبيرة، كما علّمته الخبرة الأرثوذكسيّة. وكلّ جهاد نسكيّ شرعيّ للجسد، كالصوم والسهر والتعب، ينعكس بدوره تلقائيًّا على النفس، يكبح هيجان الأفكار المضطرمة فيها. إذًا، الجهاد لضبط الأفكار والسيطرة عليها وطردها مستحيل من دون أتعاب الجسد النسكيّة. النسك وحده يُذلّل الأهواء التي تُقاوم وتُعيق تطبيق وصايا المسيح. يختصر القدّيس غريغوريوس بالاماس كلّ هذه المسيرة بقوله: "لنلبَـس أعمال التوبة، وانسحاق الأفكار، التواضع والحزن الروحيّ، وقلبًا وديعًا رحيمًا، يُحبّ الحقيقة وينشد الطهارة... لأنّ ملكوت السماوات، أو بالأحرى ملك السماء، هو في داخلنا. فلنرتبط به بأعمال التوبة، محبّين الله بكلِّ قدرتنا، هو الذي أحبّنا بهذا المقدار".

هذا التعب وكلّ العمل النسكيّ ليس هدفًا بحدّ ذاته، إنّما غايته "ارتفاع الذهن نحو الله والدخول في شركة معه". فالفضيلة المسيحيّة تبدأ حين ينقطع الذهن عن التشتّت بأمور هذا العالم، ويبلغ إلى التأمّل المستمر في ناموس الله. الذهن المشتّت بالأمور الدنيويّة الباطلة ينسى الله بسهولة. يؤكّد القدّيس بالاماس أنّ "لا أحد يستطيع أن يحصل على الطهارة الكافية لمعرفة الله، إلا بكمال الأعمال، وبالمثابرة في الطريق النسكيّ، وبالتأمل والصلاة القلبيّة. ويُعطي قدّيسنا أهمّيّةً كُبرى للصلاة ويؤكّد أنّه فقط بقوّتها تستطيع الخليقة أن تتّحِد بخالقها: "إنّ قوة الصلاة تُحقّق سِرِّيًا هذا الاتّحاد، بما أنّها الصلة بين الخليقة العاقلة والله". 

هذا هو هدف ومضمون كلّ جهاد روحيّ وصلاة روحيّة حقيقيّة: اتّحاد الإنسان بالله. والمسيحيّ الّذي يتخلّى عن هذا الهدف يبقى مستمرًّا في عيش مأساة السقوط، ولا ينال شيئًا من عطايا السرّ الّذي أتمّه المسيح على الصليب. تخلّي الإنسان عن هذا الهدف كافٍ لانفصاله عن الله وليكون سبب كلّ سقطاته. يكتب القدّيس بالاماس: "الروح التي تنفصل عن الله تصبح إمّا حيوانيّة، وإمّا شيطانيّة".

إن هذه الحقائق التي يتكلّم عليها تقليدنا النسكيّ الأرثوذكسيّ لا تتغيّر بتغيّر الزمان وظروف العصر. المسيح ليس تاجرًا يُخفّض أسعار بضاعته إذا كسدت، إنّما هو أب قدّوس، نقيّ في كمال لا حدّ له، لا يتغيّر، لا يُخفّض وصاياه، ولا يُغيّر تعاليمه لتخضع لضعفات البشر وتهاونهم، لا لعلّة في ذاته إنّما لأجل كمالنا. ويطلب من مختاريه أن يحقّقوا هذا الكمال وهذه النقاوة للقلب الداخليّ، ليكونوا قادرين على الدخول في مجد ملكه الأبديّ. 
وهكذا، فالمصالحة مع الله تتمّ عبر صليب المسيح، وبدقّة حفظ الوصايا وكثرة النسك والقداسة. لكن أيضًا بدقّة التوبة والاشتراك المتواتر في الأسرار الإلهيّة. الثمر الحقيقيّ لكل هذا العمل ليس نتاج المعرفة البشريّة والأخلاق الحميدة، إنّما هو عطيّة الروح القدس للمعمَّدين بالمسيح. لا بدّ من القضاء على الخطيئة الّتي كانت سبب سقوطنا، لأجل لقاء حيّ وحقيقيّ مع إلهنا الحيّ، في هذا القلب الداخليّ المولود جديداً بالنعمة الإلهيّة.



آخر المواضيع

غاية الحياة المسيحيّة ومعرفة الله
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2025-11-26

لماذا يتخلّى الله عن شعبه في هذا الشرق؟
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2025-08-28

لماذا يخسر المسيحيّون أرضهم في هذا الشرق؟
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2025-05-29

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا