في عيد رفع الصَّليب المُحيي


في عيد رفع الصَّليب المُحيي

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس (٢٠٠٣)

نقله إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس

 

يُمكننا كلُّنا أن نتخيّل فرحَة المسيحيِّين الكُبرى، حين وجدت القدِّيسة هيلانة الصَّليب الكريم بمساعدة القدِّيس مكاريوس بطريرك أورشليم. نعلم أنّ القدِّيس قسطنطين الكبير عاين في رؤيا الصَّليب الكريم ثمَّ غلب أعداءه برفع راية الصَّليب وجعل الإيمان المسيحيّ حُرًّا في الإمبراطوريَّة بأسرها. كان لديه شوقٌ شديد إلى أن يجد الصَّليب الكريم. وبالفعل، أرسل والدته القدِّيسة هيلانة إلى القُدس لتبحث عن الصَّليب الكريم مع القدِّيس مكاريوس. كذلك، يذكر سنكسار اليوم أنَّهما حفرا في هيكل أفروديتي وهدماه، بعد أن اختار الإمبراطور أدريانوس الرديء العبادة جبل الجلجثة كي يشيد فوقه هيكل أفروديتي الدنسة. أمَّا هُما فَألقَيا بجميع الحجارة كي يتنقّى الموقع من التراب المرويّ بدماء ذبائح الأوثان النتنة. وهكذا، استحقَّا أن يجدا الصَّليب المكرَّم ووجدا المسامير والعنوان المكتوب والصَّليبين الآخرين. لكنَّهما كانا مُحتارين: أيُّ الصُّلبان الثلاثة هو صليب الرّبّ؟ عندئذٍ، أحضرا امرأة بها مرضٌ مزمن، وجعلاها تلامس الصُّلبان الثَّلاثة، وحين لمست صليب الرَّبّ شفيت. أظهر الله علامةً ليدلَّ على صليب الرَّبّ الكريم المحيي. اجتمع في المكان جمهور من آلاف المؤمنين وكذلك العديد من الأساقفة، لأنَّ مجمعًا كان قد عُقد في تِلك الفترة في مدينة صور، لذا جاء الأساقفة لحضور الحدَث. أمام هذا الحشد، رفع الأسقُف مكاريوس الصَّليب الكريم، بعدما صعد إلى منبره، فأراه للجميع وتبارك الشَّعب به ورتَّلوا جميعًا: يا ربُّ ارحم! يُمكننا أن نتخيَّل كم كان التأثّر والفرح بالِغَين. يا لها من لحظة سماويَّة! نعيِّد اليوم لهذا الحدث المبارك، لرفع الصَّليب الكريم، ولهذا نكرِّر مرارًا "يا ربّ ارحم" حين يزيِّح الكاهن الصَّليب ويقول الطلبة ويرفعه. نقول "يا ربّ ارحم" أي نطلب الرَّحمة من المسيح الَّذي عُلِّق على الصَّليب من أجل خطايانا، ونطلب مسامحتنا واستنارتنا.

إن قوّة إشارة الصَّليب الكريم لعظيمة! فبلا صليب لا يمكننا فهم المسيح، وبدون صليب وقيامة ما من مسيح. المسيح هو دومًا المصلوب والقائم. كذلك بلا صليب ما من مسيحيٍّ.

لا يُمكن أن يكون رئيسُ إيماننا مصلوبًا دون أن نكون نحن كذلك مصلوبين. يجب علينا، نحن المسيحيّين، أن نتقاسم آلام صليب الربّ، وهذا هو برهان أنَّنا مسيحيّون أصليُّون، تلاميذ أصيلون للمسيح. كلُّ من يتحاشى الصَّليب يتحاشى المسيح. هذا موضوع يلزم أن نفكِّر به مليًّا، خاصَّة في عصرنا هذا، لأنَّ العصر يدفعنا باستمرارٍ إلى التمتُّع الماديِّ وإلى إنكار الصَّليب وحياةِ الصَّلبِ الَّتي يجب أن نعيشها بوصفنا مسيحيّين. لكن بدون صليب ما من خلاص.

يقول القدِّيس غريغوريوس پالاماس إنَّه ما من بارٍّ قد خلص إلاّ بسرِّ الصَّليب العامل مُسبقًا، وهذا لم يقتصر على زمن ما بعد المسيح، بل تعدَّاه إلى زمن قبل المسيح في العهد القديم، أيضًا. لم يكن المسيح قد صُلِب بعد، لكن بتدبير إلهيٍّ سبَقَ وعمِل سرُّ الصَّليبِ وهكذا تبرَّر جميعُ صدّيقي العهد القديم، موسى وإبراهيم وإيليا... والباقين جميعهم.

علَّمنا القدِّيس غريغوريوس پالاماس، ويوافقهُ جميع القدِّيسون أيضًا، أنَّ هناك سرَّين للصليب. الأوَّل هو أن نُميت الإنسان العتيق فينا وأن ننعَتِق من أهوائنا. لأنَّه فعلاً صليبٌ أن يتحرَّر المرءُ من أهوائه، وهذا ما يسمِّيه الآباء بالعمل (Praxis)؛ لكن هذا لا يكفي، فالعمل والجهاد الروحيّ في سبيل الانعتاق من الأهواء هما سرّ الصَّليب الأوَّل. لكن، يجب أن يتَحقَّق سر الصَّليب الثَّاني ألا وهو الاتِّحاد بالله عبر الصلاة.

إن تنقّى المرء من أهوائه، هل يكفي أن يبقى هكذا؟ لا، فهو لم يزل بدون المسيح، ويلزم أن يملأ نفسه بالمسيح. لقد نظَّفنا إناء الإنسان الدَّاخليّ من الشوائب والأوساخ جلِّها، لكن، حتَّى لو كان نظيفًا، فما دام فارغًا، لا نفع به. يجب أن نملأه بالله، أي بالروح القُدس. وهذا يتم عبر الصلاة.

التنقية هي الشَّرط المُسبق، لكنَّها تحتاج إلى إتمام، تلزمها الصلاة، تحتاج إلى ما يدعوه الآباء الرؤيا أو الثيوريا (Theoria) ؛ إذًا، سرّ الصَّليب هو العمل والثيوريا. وهذان يسريان لا على الرُّهبان فقط، بل وعلى كلّ المؤمنين في العالم. كلّ مسيحيّ يشاء أن يصير حاملاً للصَّيب وأن يعيش هو أيضًا سرَّ الصَّليب، عليه القيام بهذا الجهاد؛ أي أن يتحرَّر من الخطيئة والأهواء، ثمَّ أن يتَّحد بالمسيح، عبر أسرار الكنيسة والصَّلاة. أيُّ مسيحيّ لا يخوض هذين الجهادين، ليس بمسيحيٍّ صالح. له اسم المسيحيّ، لكنَّه في الدَّاخل ليس كذلك.

ما دام هذا هو هدف كلِّ مسيحي، فكم بالحريِّ هو هدف الرُّهبان؟ نحن الَّذين لبسنا الإسكيم الرهبانيّ، كي نجعل صليب المسيح عمل حياتنا الأساسيّ، لا أمرًا ثانويًا. لهذا ،يحمل الإسكيم الشريف الَّذي نلناه في سيامتنا رموزَ آلام الربّ، نلبسه لا للزينة، بل لنتذكَّر ونتأثَّر بجُملتنا ونتفكَّر بوعودنا وما الَّذي يريده الله مِنّا؟ وندرك أنَّه يجب علينا في خضمِّ جهادنا الرُّهبانيِّ أن نعيشَ سرَّ صليب المسيح.

إنَّ سرَّ صليب المسيح، أيُّها الآباء والإخوة، هو سرٌّ عميقٌ لا قرار له. لا أحد يدركه فورًا منذ أولى خطوات مسيرته الروحيَّة الأولى حتَّى لو جاهد كثيرًا. بل كلَّما تقدَّم روحيًا، كلَّما تعمَّق في سرِّ الصَّليب. أكثرُ مَن تعمَّق تعمُّقًا شديدًا في سرّ الصَّليب كانوا القدِّيسين القدماء والجدد. تعمَّقوا في سر الصَّليب بأكثر ما يمكن للإنسان أن يبلغه. نرى هذا في حياة الأبرار والنسَّاك الَّذين أنكروا أفراح هذا العالم الباطلة والفارغة بجملتها. وكذلك في القدِّيسين الشهداء، سواء القدماء أو الجدد، الَّذين ضحّوا لدرجة قصوى، فقدّموا حياتهم واحتملوا ميتاتٍ رهيبة، مشاركين بالكامل في شهادة المسيح. وبعضهم عانوا حتَّى أكثر من المسيح، تعذّبوا لأجل محبَّته وليساهموا في صليبه. وإذ ساهموا صليب المسيح استحقُّوا أن يُساهموا أيضًا قيامَتَه المقدَّسة. كانوا مَصلوبين مع المسيح وقائمين معه.

نُعيِّد اليوم كذلك لقدِّيسة من جورجيا، وهو ملكة من القرن السَّادس عشر، وليست قديمة جدًّا في التَّاريخ. هذه عانت الكثير، رافضة أن تُغيِّر إيمانها أمام الفُرس المسلمين. عذَّبها مَلِك الفُرْس المرعب، لكنَّها قاومت وصَمدت. أيُّ استشهادٍ مريع عانته! يرتعب المرء لدى قراءته، ومع هذا كلِّه، صمدت حتَّى النهاية، وماتت مستشهدة ميتةً رهيبة. ختامًا، أمر الطاغية الرديء العبادة برمي رفاتها بمجاري المدينة القذرة حيث استشهدت. لكن، مجّد اللهُ جُثمانها المقدّس، فإذا بنورٍ جاء من السَّماء واستقرَّ فوقه، فأخذه المسيحيّون ودفنوه بإكرامٍ لائقٍ. وها الدَّليل على أنَّه يوجد دائمًا أشخاص مصلوبون مع المسيح وقائمون معه.

نلتمس اليوم من المسيح المصلوب على عود الصَّليب بأن ينعم على المسيحييّن والرُّهبان جميعًا بحيث نعيش جميعنا في حياتنا، ويوميًّا إن أمكن، سرّ صليب المسيح؛ وهكذا، أن نكون تلاميذ مستحقِّين لذلك الَّذي لم يكن لديه أمر أعظم ليقدِّمه للعالم إلاّ موته مصلوبًا. فنستحقّ أن يقدِّسنا صليبه الكريم المحيي، وأن يكون لحياتنا معونة وعزاءً وكذلك نورًا وقائدًا.



آخر المواضيع

في عيد رفع الصَّليب المُحيي
الفئة : أعياد سيديّة

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس 2025-09-13

حديث في ميلاد السيِّدة
الفئة : أعياد سيديّة

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس 2025-09-07

في رقاد السيِّدة والدة الإله وانتقالها
الفئة : أعياد سيديّة

الأرشمندريت جورج كابسانيس 2025-08-15

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا