المجمع المسكوني الرابع

الفئة:دفاعيّات

المجمع المسكوني الرابع

الأب سمعان سمعان

نقلاً عن نشرة الكرمة، عدد 28، الأحد 13 تموز 2025

 

نعيّد اليوم لتذكار المجمع المسكونيّ الرابع، أي مجمع خلقيدونيّة. وقد كان تذكار مجمع خلقيدونيّة بالذات أوّل احتفال عقائديّ في ليتورجيّة الكنيسة، وقد فرضه الشعب المؤمن أوّلًا. لذا وجب علينا أن نعرف نحن المؤمنين تاريخ هذا المجمع باختصار، وتحديداته الإيمانيّة وما تعنيه لنا نحن المسيحيّين اليوم.
انعقد المجمع المسكونيّ الكبير المقدّس الرابع في خلقيدونيّة عام ٤٥١ م.، وشارك فيه ٦٣٠ أبًا، معظمهم من الأبرشيّات الشرقيّة. وعلى رأسهم القدّيس أناطولوس Anatolius  القسطنطينيّ (عيده في ٣ تموز)، وممثلو بابا روما القدّيس لاون  Leon، مكسيموس الأنطاكيّ، والقدّيس جوفينال Juvenal الأورشليميّ (عيده في ٢ تمّوز). عُقد هذا المجمع، وهو الأكبر الذي عرفته الكنيسة حتّى ذلك الحين، بدعوة من الإمبراطورين التقيَّيَن مركيانوس والقدّيسة بولخريا Pulcherie  (عيدها في ١٧ شباط)، بهدف إعادة السلام والوحدة اللذَين زعزعهُما مجمع أفسس اللصوصيّ (٤٤٩ م.)، ولإدانة بدعة أفتيخيس Eutyches.

تاريخيًّا، بعد المجمع المسكونيّ الثالث (431 م.)، الذي انعقد في أفسس، توصّل أنصار المدرستين اللاهوتيّتين في الإسكندريّة وأنطاكيّة بصعوبة إلى تفاهم حول صيغة الإيمان المتعلّقة باتّحاد الطبيعتين الإلهيّة والبشريّة في المسيح.

كان الأرشمندريت أفتيخيس، وهو رئيس دير قرب القسطنطينيّة، أحد معاوني القدّيس كيرلّس الإسكندريّ. وفي سعيه إلى محو كلّ آثار النسطوريّة، متمسكًا بعقيدة هذا الأب الكبير في الإيمان (كيرلّس)، أكّد أنّ الطبيعتين، الإلهيّة والإنسانيّة، لم يعد من الممكن التمييز بينهما بعد التجسّد، كأنّ الطبيعة البشريّة للمسيح قد "امتصتها" طبيعته الإلهيّة بطريقة ما.

بينما فصل نسطوريوس الطبيعتين فصلًا تامًّا، سقط أفتيخيس، بسبب كبريائه، في بدعة معاكسة وتحدّث عن "خلط" أو "اندماج الطبيعتين في واحدة: الطبيعة الإلهيّة". يؤدّي هذا المفهوم، الذي دُعِيَ "الطبيعة الواحدة" monophysisme، إلى الاستنتاج أنَّ إمّا المخلّص ليس حقًّا من طبيعة الآب والروح القدس، أو أنّه لم يتّحد مع طبيعتنا البشريّة.

بعد أن اكتشف يوسابيوس أسقُف دوريليوم في آراء أفتيخيس بدعةً تُبطل سرّ الخلاص بأكمله، عُقد مجمع محلّيّ في القسطنطينيّة برئاسة القدّيس فلافيانوس Flavianus ، سنة 448 م.، وأدان أفتيخيس. لكن بفضل الدعم الذي لأفتيخيس في بلاط الإمبراطور ثيوذوسيوس الثاني من جهة، وتدخّل رئيس أساقفة الإسكندريّة، ذيسقوروس، نجح الهرطوقيّ في قلب الأمور لصالحه. 

عُقِدَ في أفسس بطلب من الإمبراطور وذيوسقوروس مجمع سنة 449 م، وعن طريق القوّة والعنف والإجبار، أعيد اعتبار أفتيخيس، وأدين القدّيس فلافيانوس وعزل، وقد توفّي بعد ذلك بوقت قصير متأثّراً بسوء المعاملة التي لحقت به. وقد دُعي هذا المجمع في التاريخ "مجمع أفسس اللّصوصيّ".
عند وفاة ثيوذوسيوس الثاني، اعتلت العرش الإمبراطوريّ أخته القدّيسة بولخريا وزوجها ماركيانوس. وبالتوافق مع القدّيس لاون الكبير بابا روما، دعيا الأساقفة إلى مجمع مسكونيّ لتحديد الإيمان الأرثوذكسيّ، ولرفع الظلم واستعادة السلام. انعقد أوّلًا في نيقيّة في أيلول عام 451 م.، ثمّ نُقِلَ إلى مدينة خلقيدونيّة، في بازيليك القدّيسة أوفيميا (عيدها في 11 تموز).

خلال ستّ عشرة جلسة، من 8 تشرين الأوّل إلى 1 تشرين الثاني، عمل الآباء أوّلًا على إدانة لصوصيّة مجمع أفسس، وعزل قادته، أفتيخيس وذيسقوروس، وإعادة الاعتبار إلى القدّيس فلافيانوس ولو بعد وفاته؛ ثمّ كرّروا إدانة نسطوريوس التي أعلنها قبلًا مجمع أفسس المسكونيّ، وركّزوا بشكل خاصّ على دحض هرطقة أفتيخيس المونوفيزيتي.

باستخدام نفس الأسلوب التوافقيّ الذي استخدمهُ القدّيسان كيرلّس الإسكندريّ ويوحنّا الأنطاكيّ (433 م.)، نجح آباء مجمع خلقيدونيّة في التوفيق بين وجهات النظر المختلفة للإسكندريّة وأنطاكية وروما وأكملوا عمل المجمع المسكونيّ الثالث من خلال تحديد دقيق لعقيدة شخص المسيح المخلّص (العقيدة الخريستولوجيّة).

وبعد أن درس الآباء حجج أفتيخيس، على ضوء الكتاب المقدّس وقرارات المجامع السابقة، حرموا كلّ من أضاف أو نقص شيئًا من إيمان المجامع المسكونيّة الثلاثة الأولى، واستنادًا إلى رسالة القدّيس ليون إلى فلافيانوس، الذي اعتبروه عمودًا من أعمدة الأرثوذكسيّة، وضعوا تعريفًا للإيمان، أُعلن رسميًّا، بحضور الإمبراطور، في الجلسة السادسة، في 22 تشرين الأوّل:

"بناءً على الآباء القدّيسين، فإنّنا جميعًا نُعلِّم بالإجماع أنّنا نعترف بابنٍ واحدٍ ربّنا يسوعَ المسيح، هو نفسُه كاملٌ في لاهوتِه وكاملٌ في ناسوتِه، هو نفسُه إلهٌ حقيقيٌ وإنسانٌ حقيقيّ، مؤلَّف من نفسٍ عاقلةٍ وجسد، واحدٌ (متساوٍ) في الجوهرِ مع الآب حسب لاهوتِه، وهو نفسُه واحدٌ في الجوهر معنا حسبَ الناسوت، مِثلَنا في كلِّ شيءٍ ما عدا الخطيئة؛ مولودٌ من الآبِ قبل الدهورِ حسبَ اللاهوت، وهو نفسه، في الأزمنةِ الأخيرة، مولودٌ من العذراء مريم، والدة الإله، من أجل خلاصِنا بحسبِ الناسوت: هو نفسُه المسيح، الابن، الربّ، الوحيد Monogène، معروفٌ أنَّه في طبيعتين، بلا اختلاط، بلا تحوّل (تغيير)، بلا انقسام، بلا انفصال، لا يُلغَى اختلافُ الطبيعتين بأيِّ شكلٍ من الأشكال بسبب الاتّحاد، بل يُحافَظُ على خاصّية كلٍّ منهُما وتلتقي بالأُخرى في شخصٍ واحدٍ وأقنومٍ واحد؛ هو نفسُه المسيح، الذي لا ينقسم ولا يتجزّأ إلى شخصين، بل هو الربُّ الواحدُ يسوعُ المسيح، الابنُ الوحيد، الله الكلمة، كما أَعلن الأنبياء القدماء، وكما علَّمَنا يسوعُ المسيح نفسه، وكما سلَّمنا إيّاه قانون إيمان الآباء."

عند سؤال الإمبراطور مركيانوس عن تأكيد هذا الإعلان، صاح الجميع: "نحن جميعًا نؤمن بهذا. إيمانٌ واحد، وحكمٌ واحد. كلُّنا على رأيٍ واحد. لقد وافقنا جميعًا بالإجماع. كلُّنا أرثوذكسيّون. هذا هو إيمان الآباء. هذا هو إيمان الرسل. هذا هو الإيمان الذي خلّص العالم" (استخدم ناظمو سينوذيكون الأرثوذكسيّة هذا التعبير مجدّدًا سنة 843 م. في احتفال أحد الأرثوذكسيّة).

بهذا التعريف للإيمان، الفريد في عمقِه ودقّتِه، أَقرَّ الآباء القدّيسون بالاتّحاد الحقيقيّ للطبيعتين - الإلهيّة والإنسانيّة - في شخصِ كلمةِ الله الواحد. وبفضلِ إيمان خلقيدونيّة، الذي أوضحَهُ لاحقًا آباءٌ مثل القدّيس مكسيموس المعترف والقدّيس يوحنّا الدمشقيّ، نفهمُ نحن الأرثوذكس أنَّهُ بالعيشِ في المسيح "الإله-الإنسان"، يمكننا أنْ نتَّحِدَ بالله، مُؤَلَّهين، دونَ أن نفقد هويّتَنا الطبيعيّة (الإنسانيّة).

إنَّ الاتّحادَ غير المختلَط بين الألوهيّةِ والإنسانيّةِ في المسيح، بحسب الأقنوم، يُصبحُ اتّحادًا غيرَ مختلَط بين الطبيعَتَين في المسيحيّين المؤمنين، البشريّة من جهة والإلهيّة بنعمة الروح القدس من جهة أخرى. إنَّ هدف الكنيسة، التي هي فعلًا استمرار المسيح الإله-الإنسان بيننا إلى نهاية الزمان، هو أن تقودنا إلى مقدار ملء المسيح (أفسس 4: 13)، أي إلى "تأليه-الإنسانيّة" الكامل.

كلّ تقليدِنا الإيمانيّ الأرثوذكسيّ ينبعُ من شخصِ المخلّص ويعودُ إليه، كلّ شيءٍ هو "إلهيّ-إنسانيّ": العقيدة، الأسرار، الأخلاق، النسك والصلاة، الليتورجيا، فنّ الأيقونات، والموسيقى الكنسيّة. كلّ شيء هو إنسانيّ، حِسّيّ وتاريخيّ، وفي الوقت نفسه يتألَّه بالكامل بقوّة الروح القدس، بحيث يكون المسيح هو الذي "يحيا" حقًّا في كلّ واحد منّا وفي كلّ وجه من وجوه جسده السرّيّ.
لذا، فإنّ الإله-الإنسان، كما حدّده مجمع خلقيدونيّة، هو بالنسبة إلينا، نحن المسيحيّين الأرثوذكس، "القيمة العُليا والمعيار النهائيّ للحقيقة"، لأنّه فيه ومن خلاله نصل إلى الله وننال كرامة أبناء الله.

لذلك تشكّل المعموديّة المستقيمة وبالتالي الإيمان المستقيم بالإله-الإنسان المنطلق الوحيد للمناولة المقدّسة في سرّ الإفخارستيّا، أي للاتّحاد بجسده في الكنيسة.


للأسف، لأسباب عقائديّة وتاريخيّة وقوميّة، رفض السّريان والأقباط (مع الأثيوبيّين) والأرمن قرارت هذا المجمع، وانفصلوا عن إيمان الكنيسة المستقيم، مشدّدين بعناد من جهة، وبعدم وضوح من جهة أخرى، على أنّ كلمة الله بعد تجسّده له طبيعة واحدة فقط. رغم أنّهم دَعوا أنفسهم "أرثوذكس" (لكي يتميّزوا عَمَّنْ التحق منهم باللّاتين في القرن الثاني عشر)، إلّا أنَّهم انحرقوا عن الإيمان وليسوا بمستقيمي الرأي.

ورغم أنّ بعض الأوساط في كنيستنا تزعم أن الفرق بيننا وبينهم هو لفظيّ فقط، إلّا أنّه أعمق بكثير، ويطال مفهوم التألّه الذي لم يفهموه وما زالوا يرفضونه حتّى اليوم. حاليًّا، لا يمكن أن تتمّ وحدة إيمانيّة بين كنيستنا والمونوفيزيت إلّا بقبولهم تحديدات المجمع المسكونيّ الرابع أي بإقرارهم بإيمان مستقيم وواضح بشخص يسوع المسيح في طبيعتين، الذي هو جوهر إيمان الكنيسة كما أشرنا. نأمل أن يعود الوفاق إلى الإيمان الواحد المستقيم، عبر مجمع مسكونيّ مستقيم مستقبليّ، وليس من خلال آراء شخصيّة فرديّة.



آخر المواضيع

المجمع المسكوني الرابع
الفئة : دفاعيّات

الأب سمعان سمعان 2025-07-18

مُقتطفاتٌ من تعليمِ القِدِّيسِ أثناسيوسَ باريوسَ في الفَلسَفَةِ
الفئة : دفاعيّات

القدّيس أثناسيوس باريوس 2025-06-24

دولة الفاتيكان
الفئة : دفاعيّات

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس 2025-05-08

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا