لا تحسُدُوا أهلَ العالَمِ
صُعُوباتُ الحَيَاةِ بَرَكَةٌ (6/8)

لا تحسُدُوا أهلَ العالَمِ (6/8)
القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم
نَقَلَتْهُ إلى العربيّة: جوزفين القصيفي
يقولُ النّبِيُّ دَاودُ «لَا تَغْتَظْ من أجلِ ٱلْأَشْرَارِ، وَلَا تَحْسِدْ عُمَّالَ ٱلْإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلَ ٱلْحَشِيشِ سَرِيعًا يَيْبَسُونَ، وَمِثْلَ ٱلْعُشْبِ ٱلْأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ» (مزمور36: 1-2).
يَشْهدُ العَالَمُ، اليومَ، الكثيرَ من الظُّلمِ والجرائمِ. ويتبدَّى للجميعِ، أنَّ الخَطَأَةَ يتمتَّعُونَ بحياةِ رَخَاءٍ وهناءٍ، في حينِ أَنَّ الصِّدِّقِيْنَ وخائفِي اللهِ يعانُونَ المَشَقَّاتِ ويُكابِدُونَها. فَلا تتعجَّبْ يا عزيزِي القَارِئ! ولا تَشتَهِ أنْ تعيشَ في الخَطيئةِ، أوْ أن تَختَار سُبُلَ ٱلْأَشْرَارِ. ولا تَظُنَّنَّ أنَّ هؤلاءِ النَّاسِ محظوظُونَ حتَّى ولو فَضَّلَهُمُ المُجتمعُ على غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ ما يَحيَونَهُ من فَرَحٍ، وما يتمتَّعُون بهِ من ثروةٍ ونجاحٍ هُوَ وَقْتِيٌّ.
وقدْ تساءَلَ النَّبِيُّ حَبَقُوقُ عنِ هَذَا الأَمرِ، قائلاً: «حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ ... عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ، فَلِمَ تَنْظُرُ إِلَى النَّاهِبِينَ، وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هُوَ أَبَرُّ مِنْهُ؟» (حبقوق 1: 2-13). ومِثْلُهُ قالَ النّبِيُّ إرميا وآخرون: «لمَاذَا تَنْجَحُ طَرِيقُ ٱلْأَشْرَارِ؟ اِطْمَأَنَّ كُلُّ ٱلْغَادِرِينَ غَدْرًا» (إرميا 1:12).
تكلَّمَ الأنبياءُ القدِّيسُونَ بِهذِهِ الطَّريقةِ ليسَ لأَنّهم لا يُدركُون أنَّ قراراتِ اللهِ عادلَةٌ وصالِحَةٌ، بل ليكشفُوا لنَا تَمايُزَ حكمةِ اللهِ عن المَنْطِقِ البَشَرِيٍّ. فالإنسانُ، عادَةً، لا يُدْرِكُ أو يَفهمُ عنايةَ اللهِ الحكيمةَ.
فاللهُ لا يُنزِلُ الأحزانَ على الأَثَمَةِ وهُم على الأرضِ لأنّهُ سوفَ يعاقبُهم إلى الأبَدَ. وفي المقابلِ، يؤدِّبُ اللهَ أصفِياءَهُ لِيحصَلُوا على مجدٍ أكبرَ وإِكليلٍ أَعظَمَ في ملكُوتِ السَّمَوَاتِ.
يُسمَح للحَيوانَاتِ، كالبقَرِ مثلاً، أنْ ترعى بِحُرِّيَّةٍ، فهي تُرَبَّى لكي تُذْبحَ. والعكسُ صحيحٌ، يَجري تدريبُ وضَبطُ الحيوانات الّتي تُستخدَمُ لخدمةِ الإِنسانِ، وهي تتّبعُ نظامًا غذائِيًّا مُشَدَّدًا. وهكذا يفعلُ اللهُ، يسمح للأشرارِ أن يتنعّمُوا بملذّاتٍ جسدِيَّةٍ وبِمُتعةِ الخَطيئةِ، لأنَّ هؤلاءِ البؤساءَ سينتهي بهم الأمرُ في الجحيمِ الأبدِيِّ. وبالعكسِ، يختبِرُ اللهُ الأشخاصَ الفاضلينَ والصَّالِحِينَ ويؤدُّبُهم لكي يودِعَهُم في مساكِنِهِ السَّماويَّةِ إلى الأبدِ.
الأشجارُ الّتي تحملُ الثِّمارَ وتُنتِجُ محصولاً وفيرًا يتمُّ تَشذيبُها وتُرَشُّ بالمبيداتِ وتوضعُ أثقالٌ على غصونِها فتجعلُها تنحني وتشدُّها إِلى الأسفل. كلُّ هذه الإجراءاتِ القاسيةِ مفيدةٌ للشَّجرةِ، كي تُنتِجَ الثِّمارَ. «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يو 15: 2). وبالعكس، يُهمِلُ الإِنسانُ الأشجارَ الّتي لا تحملُ ثمارًا، فلا يُشَذِّبُها، إنَّما يقتلعُها من الأرضِ كلِّيًّا، وبالتّالي، تُستَخدَمُ كحطبٍ. «كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ» (متى 7: 19). وهذا ما يحصلُ معَ الإنسانِ هُنا على الأرضِ. يُكابِدُ الأشخاصُ الفاضلُون الأحزانَ والعذاباتِ، وبالعكسِ، فالقاضي العادلُ لا يُعاقبُ الأشخاصَ الأشرارَ والخطأةَ هنا على الأرضِ لأنَّهُ ينتظرُ أن يطرَحهم في نارِ جهنّمَ.
إنَّ النجاحَ والثَّراءَ اللَّذينِ يتمتَّعُ بِهِ الكافرُونَ لَهو في الواقعِ مصيبةٌ شديدةٌ. فإنَّ مثلَ هؤلاءِ، عندما يرَونَ أنَّ لا شيءَ يحصلُ معَهم وأنَّهُم لا يُعاقَبُونَ، يَشرَعُون، بِوقاحةٍ وبِلا خجلٍ، في ارتكابِ خطايا أكبرَ وجرائمَ أسوأَ. علاوةً على ذلكَ، فعندَمَا لا يُعاقبُون، هذا دليلٌ على أنَّ العدوَّ (الشّيطانَ) لا يزعجُهم لأنَّهُ لا يهاجمُ أصدقاءَهُ. وهكذا يتَّضِحُ أنَّه عندمَا يحبُّ اللهُ شخصًا، يسمحُ له بتجاربَ وقتيَّةٍ وبأنْ يختبرَ التَّأديبَ لمنفَعَةِ نفسِهِ وخلاصِها.
لا تتعجّبْ عندما ترَى الأشرارَ والظَّالِمِينَ يتمتَّعُونَ بالرَّخاءِ وبملذَّاتِ هذه الحياةِ الوقتيَّةِ. إعلَمْ أَنَّ المُكافأةَ والعِقابَ لأفعالِ الخيرِ والشَّرِّ لا تحصلُ هنا على الأرضِ. حتى ولو كانَتْ هناكَ مكافَأَةٌ معيَّنَةٌ، فهي ليسَتْ كاملةً، وتُعتَبَرُ عَيِّنَةً صغيرةً فقطْ منَ الثَّوابِ الكامِلِ الّذي سيجري في الحياةِ الآتيةِ. يحصلُ هذا لِيَتَلقَّنَ كلُّ الّذينَ لا يؤمنُونَ بقيامةِ الأمواتِ والدَّينونةِ النَّهائيَّةِ درسًا ويبقُوا مستقيمينَ عندَمَا يتأدَّبُون هُنا على الأرضِ.
هل تَرى الشِّرِّيرَ يصبحُ غنيًّا؟ لا تيأسْ. وبالعكسِ، هل ترى شخصًا صالِحًا يتعذَّبُ؟ لا تَتَفَاجَأْ. فالمُكافَأَةُ والعِقَابُ مَحفُوظانِ إلى الحياةِ الأَبَدِيَّةِ. لا يَرْتَكِبِ الشَّخْصُ السَّيِّءُ الشَّرَّ فقط إنّما يقومُ أيضًا ببعضِ الأعمالِ الصَّالِحَةِ في حياتِهِ. وبالمِثلِ، لا يمكنُ لشَخْصٍ صالِحٍ أنْ يكونَ مَعصومًا عنِ الخَطَإِ؛ فأفضلُ الأشخاصِ يرتكِبُون بعضَ الخَطَايَا وسوفَ يحاسَبُون عليها. إذاً، الشِّرِّيرُ يَتَمَتَّعُ بِرَخاءٍ وقتيٍّ مكافأةً على كُلِّ الصَّالِحَاتِ الّتي عَمِلَها، ولكنَّهُ سيُعاقبُ بشدّة من أجلِ كلِّ السَّيِّئَاتِ الّتي اقْتَرَفَهَا. والشَّخصُ الصَّالِحُ يعانِي في هذِهِ الحَيَاةِ لِيَتَنَقَّى من أخْطائِه وأَدْرَانِهِ، وبالتَّالي، يَتَمَتَّعُ بنعيمِ ملكوتِ السَّماواتِ.
أَظهرَ الرَّسولُ بولسُ هذِهِ الحَقَائِقَ، في رسالَتِهِ الأولى إلى أهلِ كورنثوس (11: 30)، قائلاً: «مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ.» ؛ كما كتَبَ، أَيْضًا، عنْ مسيحيٍّ كورنثوسِيِّ قد خطئ، فَأمرَ بولُسُ «أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ» (1 كورنثوس 5:5).
حتّى في العهدِ القديمِ يقول النَّبيُّ أشعياءُ بخصوصِ أورشليمَ: «طَيِّبُوا قَلْبَ أُورُشَلِيمَ وَنَادُوهَا بِأَنَّ جِهَادَهَا قَدْ كَمُلَ، أَنَّ إِثْمَهَا قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ مِنْ يَدِ الرَّبِّ ضِعْفَيْنِ عَنْ كُلِّ خَطَايَاهَا» (إشعيا 2: 40).
علاوةً على ذلكَ، يصلّي النَّبِيُّ داوودُ للرَّبِّ قائلاً: «أُنظرِ الى ذُلّي وتعبي واغفرْ جميعَ خطايَايَ» ( مزمور 18: 25). وبالتّالي يمكنُنا أنْ نستنتِجَ أنَّ الأشخاصَ الصَّالِحين يُؤدَّبُون هُنا على الأَرضِ من أجلِ خطَايَاهُم.
كيفَ نعلَمُ أنَّ الأثرياءَ الّذينَ يتنعّمُونَ برخَاءٍ في هذِهِ الحياةِ سيُعاقبُون حقًّا في الحياةِ الآتِيَةِ؟ سأذكِّرُكم بِمَثَلِ لعازَرَ والغَنِيِّ، الّذي رَوَاه الرَّبُّ يَسُوعُ المسيحُ نَفْسُهُ ، مُتكلِّمًا عن رجلٍ غنيٍّ يعيشُ حياةً مُرَفَّهَةً، ويستَمْتِعُ بالمَلَذَّاتِ على أنواعِها. كانَتْ مائدتُهُ مليئَةً بالأطعِمَةِ الشَّهيَّةِ كلَّ يومٍ. وفي الوَقْتِ نَفْسِهِ «كانَ مِسْكِيْنٌ اسمُه لَعازَرُ مَطْرُوحًا عندَ بابِهِ مُصَابًا بالقُرُوحِ. وكانَ يَشْتَهِيْ أَنْ يَشبَعَ منَ الفُتاتِ الّذي يَسْقُطُ مِنْ مائدةِ الغَنِيِّ. بلْ كانَتِ الكِلابُ تأتي وتَلْحَسُ قُرُوْحَهُ.» (لوقا 16: 20-21). عندما ماتَ لَعازَرُ، أخذَتْهُ الملائكةُ إلى أحضانِ إبراهيمَ، حيثُ وجَدَتْ نفسُهُ الرَّاحَةَ والفرحَ. أمّا الغَنِيُّ، فوجدَ نَفْسَهُ عندَ موتِهِ، بشكلٍ مفاجئٍ، في جهنَّمَ وهوَ يَتَعَذَّبُ؛ وهو في هذِهِ الحالةِ الَّتي لا يُرثى لَها: «رَفَعَ [الغنِيُّ] عَيْنَيْهِ في الجَحِيْمِ ، وَهُوَ في العذَابِ، فَرَأَى إبراهيمَ مِنْ بَعِيْدٍ ولَعازَرُ في حُضْنِهِ. فنادَى قائلاً: يا أَبَتِ إبراهيمُ ارْحَمْنِيْ وأَرْسِلْ لَعازَرَ لِيُغَمِّسَ طَرَفَ إصْبَعِهِ في الماءِ وَيُبَرِّدَ لِسَاني لأنِّيْ مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهِيْبِ. فقالَ إبراهيمُ: تَذَكَّرْ يا ابنِيْ أنَّكَ نِلْتَ خيراتِكَ في حياتِكَ ولعازَرَ كذلكَ بلاياه. والآنَ فَهُوَ يَتَعَزَّى وأَنْتَ تَتَعَذَّبُ» (لوقا 16: 23-25).
وبالتالي، دعُونا لا نحزنْ عندما نرَى الخَطَأَةَ يَتَمَتَّعُون بالرَّفاهيَّةِ في هذِهِ الحياةِ، على العكسِ، علينا أن نفرحَ نحن عندَما نعاني الشِّدَّةَ. لأنَّ الأحزانَ الَّتي نختبرُها هيَ بَالفعلِ ما ندفَعُ بِهِ ثَمَنَ الخَطَايَا الّتي ارتَكَبْنَاهَا. وعندَمَا ندفعُ ثمنَ خطايانا في هذِهِ الحياةِ، فنحن نَضمَنُ خلاصَنا. لهذا يقولُ الرَّسولُ بُولسُ المُلهَمُ منَ اللهِ «لأَنَّ خِفَّةَ ضيقتنا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ» (2 كورنثوس 4: 17-18).
وضَعَنا اللهُ كلَّنَا، الأبرارَ والأَشرارَ، على هَذا الكوكبِ لِيحُدَّ من آثامِ الأشرارِ عندما يلتَقونَ بالصَّالِحِينَ. إذنْ، فيمَا يستحِقُّ الصَّالحُونَ الشَّرَفَ المُزدوِجَ لأنَّهم لم يختَارُوا طريقَ الفَضائلِ فحسبُ بل بَقَوا غيرَ مُتَأثِّرِيْنَ بِشَرِّ الخَطَأَةِ. والخَطَأَةُ الّذينَ لا يتُوبون يستحقُّون عقابًا ودينونَةً أعظمَ، لأنَّهم لم يختارُوا طَريقَ الشَّرِّ فَحَسْبُ، بَلْ لم يَحذوا حَذوَ النُّفُوسِ الفَاضِلَةِ.
للأسفِ، معظمُ النَّاسِ يحسدُونَ الأَشرارَ لا الأَبرارَ. وغالبيّتُهم تَشعُرُ بالغَيْرَةِ من الأشخاصِ المَاكِرِينَ، المُخادِعِينَ وذَوِي الوَجهَيْنِ، غيرِ الأَمينِينَ والجَشِعِينَ، المُوارِبِينَ والأنانيِّينَ- لأنَّهم يلاحظُون أنَّ هؤلاءِ الأشخاصَ يَصِلون إلى مبتَغَاهُم. إنَّهُم يشاهدُون مثلَ هؤلاءِ يصبحُون أغنياءَ ويحصلُون على مناصبَ بارزةٍ في المجتمعِ بوسائلَ مُلتَوِيَة تَعَسُّفيَّة، بإيذاءِ الآخرينَ وإساءةِ معاملتِهم. ولكن بدلاً من أنْ نحسُدَ هؤلاءِ الأثَمَةَ، يجبُ أن نشعرَ بالأسى تُجاهَهم. في الحقيقةِ، إنَّهم لا يؤذُون إلّا أنْفُسَهُم. فالإِنسانُ لا يتأذّى عندما يُظلَمُ، بل عندما يظلِمُ الآخرينَ. ليسَ اللهُ بِظالِمٍ عِبَادَهُ. وبالتّالي، فَكلُّ شخصٍ ينالُ ما يستحقُّهُ سواءٌ أكانَ في هذه الحياةِ الدُّنيا أمْ في الحياةِ الآتِيَةِ، وسَوَاءٌ أَكانَت أعمالُه صالحةً أم شرِّيرَةً.
لذَلِكَ، أَظْهِرِ الاحترامَ لِمَن تَرَاه يعيشُ في البِّرِّ وخوفِ اللهِ، واحْسُدْهُ وانْظُرْ إليهِ كشخصٍ نالَ حُظوةً. حتَّى ولو كانَ مُقيَّدًا بسلاسلَ، حتّى لو كانَ مسجونًا في زنزانةٍ مُظلِمةٍ، أو يرزَحُ تحتَ وَطْأَةِ الفَقرِ، ولو كانَ يعاني من إعاقةٍ جسديَّةٍ، أو يتآكَلُ بِبُطْءٍ بسببِ مرضٍ عُضَالٍ، حتّى ولو كانَ يُكابِدُ كلَّ المعاناةِ في العالمِ! لأنَّ الحياةَ الأبديَّةَ والنَّعيمَ غيرَ الموصوفِ ينتَظِرَانِهِ. بالمُقابل، عندما ترى شخصًا كافِرًا وظالمًا وخبيثًا وقاسيًا ومُخادِعًا، تأَسَّفْ وابْكِ علَيْهِ- حتَّى ولو مَدَحَهُ الجميعُ على وجهِ الأرضِ، أوِ امتلَكَ ثروةً طائلةً، أَوْ حَكَمَ العالمَ كُلَّهُ، لأنَّ الجَحيمَ الأبديَّ والعذابَ الّذي لا يُوصف ينتَظِرَانِهِ.
حقًا، ماذا يفعلُ شخصٌ يملكُ المالَ والثَّرْواتِ الهائلةَ ولكنَّهُ مجرَّدٌ من الفَضِيلةِ؟ ماذا يستفيدُ الإنسانُ الّذي يحكمُ الأرضَ كُلَّها إذا كانَ في الوَقتِ نَفسِهِ مُستَعْبَدًا لأهوائِهِ؟ ماذا ينتفعُ الإنسانُ الّذي يمتدِحُهُ النَّاسُ إذَا أَسْلَمَ نَفْسَهُ للخَطيئةِ؟ لا شيْءَ! لا شيْءَ سوى الموتِ الرُّوحيِّ والانفصالِ الأبديِّ عنِ الرَّبِّ المعطِي الحياةَ «أَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23).
لذلكَ، عندَمَا تَرى إنسانًا ثَرِيًّا يعيشُ في الرَّخاءِ، مُحاطًا بالتَّرَفِ، وغارِقًا بالفُجورِ، فلا تحسِدْهُ! بلِ اشْعُرْ بالأَسَفِ عَلَيْهِ لأنَهُ يسيرُ في طريقٍ يؤدِّي الى الهَلاكِ. ماذا سيستفيدُ إنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ، مهمَا كانَ مُريحًا في الوقتِ الحاضرِ، إذا انتَهَى بالموتِ والهلاكِ؟ علاوةً على ذلكَ، ماذا ستَخْسَرُ أنتَ إذا سَلَكْتَ الطَّريقَ الآخَرَ، مهمَا كان صعبًا وقاسيًا، لكنّه سينتهي بالحياةِ والفرحِ؟
أخبِرْني، إذا رأيتَ شخصًا يسافرُ عبرَ ممرّاتٍ ضيّقَةٍ وتضاريسَ وَعِرةٍ نحو قصرٍ مَلَكيٍّ لكي يُكرَّمَ وَيُثني عليه المَلِكُ، وشخصًا آخرَ يُقادُ عبر الشَّارعِ المركزيِّ لمدينةٍ نَحوَ مكانِ إعدامِهِ، فَمَن مِن الإثنينِ تعتبِرُهُ مبارَكًا؟ لا شَكَّ في أَنَّكَ سَتحسُدُ الأَوَّلَ وتتأسَّفُ على الثَّانِي، حتّى ولو رأيتَهُ يسلكُ طريقًا واسعًا وسَلِسًا. وبالطّرِيْقَةِ نَفْسِها، وجبَ ألّا نحسُد الأشخاصَ الّذينَ يتبختَرُونَ في المَلَذَّاتِ المَادِّيَّةِ والحِسِّيَّةِ، بل الَّذين يتفادونها بِوَعيٍ، لأنَّ الأخيرينِ مُتَّجهُون إلى الفردوسِ، بينما الأوَّلون فَنحوَ الجَحيمِ.
عندَمَا تجدُ شخصًا ثَرِيًّا يتَمَتَّعُ بالرَّخَاءِ والحَظِّ السَّعيدِ، وكلُّ شَيْءٍ يسيرُ على مَا يُرامُ في حياتِهِ، فهذه علامةٌ واضِحَةٌ وأكيدَةٌ أنَّ اللهَ قدْ تَخَلَّى عنه. ولتأْكيدِ هذهِ الحقيقةِ استمِعْ إلى حَدَثٍ غيرِ عادِيٍّ وصَفَهُ القدّيسُ أمبروسيوسُ أسقُفُ ميلان، وقد شاهَدَهُ بِأُمِّ عينَيْه وسجَّله ليكونَ مِثالاً لنا:
في إحدى المَرَّات، وبينَمَا كانَ القدّيسُ مُسافِرًا إلى روما، توقَّفَ في قريةٍ حيث قرّرَ أن يمضيَ اللَّيلةَ في منزلِ إحدى الرِّجال الأثرياءِ. وخلالَ الحديثِ سَأَلَهُ القدّيسُ عنْ حالِهِ وإذا كانَ يواجهُ مَشَقَّاتٍ وصُعُوبَاتٍ. أجابَ الرَّجلُ :«يا صاحبَ النِّيافَةِ، لديَّ ثروةٌ طائلَةٌ والكثيرُ مِنَ الخَدَمِ، لديَّ العديدُ من الأَبناءِ والأَحفادِ، وَكُلُّ شَيْءٍ في حياتي يسيرُ بشكلٍ مُمتازٍ! كلُّ شَيْءٍ يَسيرُ دائمًا حسَبَ مشيئَتِي، ولمْ أواجهْ أو أعانِ مشقّاتٍ طَوالَ حياتي، بصلَوَاتِكُم». ولمَّا سمعَ القدّيسُ هذا قَامَ على الفَورِ وأمَرَ رفقاءَه قائلاً: «فلنخرُجْ سريعًا يا أولادي من هذا البيتِ المَلْعُونِ، لأنَّ الربَّ ليسَ موجودًا هنا. لنذهَبْ الآنَ قبلَ أنْ يأتيَ غضبُ اللهِ العادل». وعندَمَا قالَ هذَا خرجَ وبعدَ أنْ أصبحَ بعيدًا حدَثَ شَيْءٌ رَهيبٌ: فُتِحَتِ الأرضُ وابتَلَعَتِ الرَّجُلَ الثَّرِيَّ، وكُلَّ أفرادِ عائلَتِهِ، معَ بيتِه وكلِّ مُمتَلَكَاتِهِ.
«فَعَمَّا قَلِيلٍ (يَنْقَرِضُ) الشِّرِّيرُ، إِذْ تَطْلُبُهُ وَلَا تَجِدُهُ. أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأرضِ وَيَتَمَتَّعُونَ بِفَيْضِ السَّلامِ. يَكِيدُ الشِّرِّيرُ كَثِيراً لِلصِّدِّيقِ وَيَصِرُّ عَلَيْهِ بِأَسْنَانِهِ. وَلَكِنَّ الرَّبَّ يَضْحَكُ مِنْهُ لأَنَّهُ يَرَى أَنَّ يَومَ عِقَابِهِ آتٍ. قَدْ سَلَّ الأَشْرَارُ سُيُوفَهُمْ وَوَتَّرُوا أَقْوَاسَهُمْ لِيَصْرَعُوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ، لِيَقْتُلُوا السَّالِكِينَ طَرِيقًا مُسْتَقِيمَةً. لكنَّ سُيُوفَهُمْ سَتَخْتَرِقُ قُلُوبَهُمْ وتَتَكَسَّرُ أَقْوَاسُهُمْ. الْخَيْرُ الْقَلِيلُ الّذي يَمْلِكُهُ الصِّدِّيقُ أَفْضَلُ مِن ثَرْوَةِ أشرَارٍ كَثِيرِينَ، لأَنَّ سَوَاعِدَ الأَشْرَارِ سَتُكْسَرُ، أَمَّا الأَبْرَارُ فَالرَّبُّ يَسْنِدُهُمْ. الرَّبُّ عَلِيمٌ بِأَيَّامِ الْكَامِلِينَ، وَمِيرَاثُهُمْ يَدُومُ إِلَى الأَبَدِ. لَا يُخْزَوْنَ فِي زَمَانِ السُّوءِ، وَفِي أَيَّامِ الْجُوعِ يَشْبَعُونَ. أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَهْلِكُونَ وَأَعْدَاءُ الرَّبِّ كَبَهَاءِ الْمَرَاعِي بَادُوا، انْتَهَوْا؛ كَالدُّخَانِ تَلاشَوْا» (مزمور 20: 10-20)
آخر المواضيع
مجدُ السَّماءِ غيرُ مُتَعَذِّرٍ
الفئة : قصص روحية
لا تَتَأَمَّلوا بأَشياءَ باطلَةٍ
الفئة : قصص روحية
لا تحسُدُوا أهلَ العالَمِ
الفئة : قصص روحية
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني