مجدُ السَّماءِ غيرُ مُتَعَذِّرٍ

صُعُوباتُ الحَيَاةِ بَرَكَةٌ (8/8)

الفئة:قصص روحية

مجدُ السَّماءِ غيرُ مُتَعَذِّرٍ (7/8)

القديس يوسف الهدوئي

نَقَلَتْهُ إلى العربيّة: إيلي عيسى

 

«يا إِخْوَةُ، ما لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، ولَم سَمِعَتْ بِهِ أُذُنٌ، ولا خَطَرَ على قلْبِ بَشَرٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ للّذينَ يُحِبُّونَهُ.» (1 كورنثوس 2: 9)، هكذَا يُصرِّحُ بولسُ الرّسولُ في رسالتِهِ إلى أهلِ كورنثوس. لقد نُقِلَ الرَّسولُ إلى السَّمَاءِ الثّالثَةِ وسمعَ كلماتٍ تفُوق الوَصفَ؛ لكنَّهُ لم يكنْ قادرًا على وَصْفِ السّعادَةِ الّتي في الفردوسِ والمجدِ في ملكوتِ اللهِ كما يليقُ. بالتّأكيد، لو أمْكنَ أن يجتمعَ البشرُ كُلُّهُم معَ النُّجوم كُلِّها في الكونِ وكلِّ الأوراقِ الَّتي على الأشجارِ ويتكلّمُوا ببلاغةٍ وانسجامٍ تامٍّ كالخُطَباءِ الجَهابِذَةِ، لما استَطَاعُوا أن يَصِفُوا، كما يليقُ، الخَيْرَاتِ الأبديّةَ غيرَ المُدرَكَةِ الَّتي لا يُسبَرُ أغوارُها، الّتي لم تَرَها عينٌ كما لم تَسمعْها أُذُنٌ بشريَّةُ كما يعجزُ العقلُ البشريُّ عن تخيُّلِها. معَ ذلك، تمَّ الكشفُ عن لمحةٍ صغيرةٍ من هذا الجَمالِ الإلهيِّ والبهجةِ للعديدِ من الأُناسِ الفاضلينَ، مِمَّن يمتلِكُون مخافةَ اللهِ، وهم بدورِهم دَوَّنُوا لنا هذِهِ الأمورَ، لكي تضطرمَ قلوبُنا بمحبَّةِ إلهِنَا والشَّوقِ إلى الخلاصِ.

يروي القدّيسُ يُوسُفُ الهُدُوئيُّ في "رسائلِهِ" وقائعَ رؤيَا إلهيَّةٍ، أراهُ اللهُ إيَّاها من أجلِ تعزيتِهِ خلالَ فترةٍ صعبةٍ من حياتِه.

«حقًّا أتكلَّم، ولا أكذبُ، إنّني أعرفُ أخًا، حصلَ في حالةٍ من النَّشوة وهو جالسٌ تحتَ بدرٍ مكتملٍ، في أعماقِ البرِّيَّةِ، في صمتٍ تامٍّ. لم يكنْ هناك إنسانٌ أو كوخٌ بقربِهِ. وبينَمَا كان يسهرُ ويُصلّي، سمعَ صوتَ عصفورٍ جميلٍ جَذَبَ ذهنَهُ واستحوذَ على إدراكِه. تَبِعَ هذا الصَّوتَ الجميلَ ليرَى مَصدَرَهُ . سرَّحَ ناظِرَيه وهو يمشِي –ولكنْ ليسَ بالأقدامِ والعَيْنَيْنِ، ولكنْ ينظرُ ويمشِي في حالٍ من النّشوةِ– وبينما كانَ يمضي قُدُمًا، رأى نورًا ساطعًا مملوءًا عطرًا ونعمةً. ثمّ انصرفَ عنِ تغريدِ العصفورِ فارتفَعَ، واختُطِف في النُّورِ. وكانَ يسيرُ وكأنَّهُ القدِّيسُ أندراوسُ المتبالِهُ من أجلِ المسيحِ، واستقلَّ طريقًا أبيضَ كالثّلجِ. على كلا الجَانبَيْن، كانَتِ الجُدرانُ مرصَّعَةً بالألماسِ. كلُّ شيْءٍ هناكَ يَتَعذَّرُ وَصْفُهُ. نظرَ إلى الدَّاخلِ، حيثُ الجنَّةُ ، وكانَتْ رائعةً ومزيَّنَةً بكلِّ أنواعِ الزّهورِ. كلّ شيْءٍ كانَ مغطّى بالذَّهبِ، إلى درجةٍ أنَّ اللَّسانَ البَشَرِيَّ عَجَزَ عن وصفِهِ. كان يُحدِّقُ ويتعجَّب برَهبةٍ. وفيما تقدَّمَ، رأى في الوَسَطِ قصرًا عظيمًا، أبيضَ كالثّلجِ، شاهِقًا كالسَّماءِ. كانَتْ والدةُ الإلهِ الفائقَةُ القَداسةِ، ملكَةُ الملائكَةِ، وعزاؤنَا الوحيدُ، العطرُ الَّذي لا يُوْصَفُ وراحةُ كلِّ روحٍ مسيحيّةٍ، تقفُ عندَ البابِ حاملةً الطِّفلَ النّاصعَ البياضِ على ذراعَيْها، والّذي كانَ مُشرِقًا أكثرَ من ألفِ شمسٍ. فيمَا اقتربَ ذلك الأخُ، ارتمَى مثلَ الابنِ أمامَ أمِّهِ، مُلْتَهِبًا بالعِشقِ الإلهيِّ. ثمّ عانَقَتْهُ كابنٍ حقيقيٍّ وقَبَّلَتْهُ. يا لَعِشقِ حبِّ اللهِ! يَا لَمَحَبَّةِ الأمِّ لابنِها! عانقَتْهُ وكأنَّهُ ابنٌ لها. ملأَتْه بعطرٍ لا يُوصَفُ. وقال لِي ذلك الأخُ الصّادقُ إنّه في كُلِّ سِنيّ حياتِه، كانَ يشعرُ بالعطرِ والحَلاوةِ في نفسِهِ كُلَّمَا تذكَّرَ هذه الرُّؤيا الإلهيَّةَ. كانَ ذلك الطّفلُ الكُلِّيُّ الحلاوةِ يداعبُ وجهَهُ بيدِهِ الصّغيرةِ، و أعلمَتْهُ والدةُ الإلهِ عن سرٍّ كان يُصلِّي منْ أَجلِهِ بحرارةٍ لأيّامٍ كثيرةٍ.»

علاوةً على ذلك، قال له الابنُ، «لكي تتمتّعَ بنعمةٍ كهذِهِ، عليكَ أن تُجاهِد وَتَتَألَّمَ طيلةَ حياتِك».

«ثُمَّ خرجَ مثلما دخلَ، من دونِ أن يرغبَ بذلك. وكُلَّما ابتعدَ أكثر، كان يُعاوِدُ سماعَ صوتِ العصفورِ الَّذي جَذَبَهُ في البدايةِ وبوضوحٍ أكثرَ. عندَمَا نَظَر إلى العلاءِ، رأى طيرًا كبيرًا لَهُ أَلوانٌ لا تُحصى يُغَطِّي بجناحَيْه تلكَ الجَنَّةَ كُلَّها. كانَت هناكَ عروشٌ في كلّ مكانٍ، وعصافيرُ صغيرةٌ تجلسُ بانتظامٍ وتُصدِرُ لحنًا لا يُوصَفُ، والكُلُّ هناك مُبتَهِجون. بعدَمَا رأى هذا كُلَّهُ، عادَ ذلكَ الأخُ إلى نفسِهِ، وكانَ في المكانِ نفسِهِ الَّذي كان جالِسًا فيهِ قبلَ رؤيَتِهِ لهذهِ الأمور».

«إذًا، بعد سماعِنا أمورًا كهذِهِ، نحنُ نَحتَمِلُ كُلَّ حُزنٍ ومُصيبةٍ لأجلِ كَثرَةِ الصَّالِحاتِ المُعَدَّةِ لنا.»

فلننظُرْ إلى المجدِ الّذي لا يوصَفُ والجَمالِ الّذي لا يُنطَقُ بِهِ المُعَدِّ في الحياةِ القادمةِ لأولَئِك الَّذين جاهدُوا واحتَمَلُوا المَشَقَّاتِ.

في منطقةٍ في فرنسا، عاشَتْ فتاةٌ تقيَّةٌ، وللأسفِ، كانت مشلولةً تُلازِم الفراشَ بسبَبِ مَرَضٍ عُضَالٍ. على الرَّغم من حالتِها الجسديَّةِ المُنهَكَةِ، كانَتْ فتاةً فاضِلَةً بامتيازٍ، ومُزَيَّنَةً بمواهبِ التَّقشُّفِ والصّبرِ والتّواضُعِ. لم تَتَذَمَّرْ أبدًا من مرضِها؛ بلْ على العكسِ ، كانَتْ تَشكُرُ الرَّبَّ وتُمجِّدُهُ على الدَّوامِ لأنَّهُ سَمَحَ لها أنْ تَتَحَمَّلَ هذِهِ الصُّعوبَةَ المُؤقَّتَةَ، عالِمةً أنَّهُ يَشَاءُ أن يُمجِّدَهَا في ملكوتِهِ السَّمَاوِيِّ إلى الأبَدِ. وفي المُقابِلِ ، كانَتْ تحزنُ فقط، عندَما لا تستطِيْعُ الذَّهابَ إلى الكنيسةِ والإستماعِ إلى الخِدَمِ.

في إحدَى السّنواتِ، وخلالَ عيدِ دخولِ السَّيِّدِ إلى الهيكلِ (الّذي يقعُ في الثّاني من شباطَ)، كانَتْ لمسيحيّي هذِهِ المنطقةِ عادةٌ وهي حَمْلُ الأَيقُوناتِ والسَّيْرِ بِها في الشَّوارِعِ، وكانت تلكَ الفَتَاةُ الصَّغيرَةُ والمريضَةُ حزِينةً جدًّا، لأنَّ الجميعَ سَوفَ يُشارِكُ في المسيرَةِ والقدّاس الإلهي إِلاَّ هي فَستَبقى وحيدةً في المنزِلِ، نائمةً في السَّريرِ. ولهذا السَّبَبِ، كانَتْ تُفَكِّرُ: «كلُّ المسيحيِّيْنَ ذهبُوا ليكرِّمُوا ويُرتِّلُوا لوالدَةِ الإلَهِ؛ أمّا أنا، فَكَوني غيرَ مستحقَّةٍ، محرومةٌ بحقٍّ من سعادةٍ روحيّةٍ كهذه.» بينَمَا كانَتْ تقولُ هذه الكلماتِ مُتوجِّعَةً في قلبِها، حَمَلَ ملاكٌ نفسَها إلى الفردوسِ، حيثُ اختبرت الرُّؤيَا التَّاليَةَ: وجَدَتْ نفسَهَا أمامَ مَوكِبٍ مَهِيبٍ يتألَّفُ من جميعِ الملائكَةِ السَّمَاويَّةِ، وجميعِ مراتِبِ القِدِّيسِيْنَ (الأنبياءِ، الرُّسُل، الشُّهداءِ، الأَساقفَةِ، الأبرارِ، الرُّهبانِ)، وجميعِ النُّفوسِ المباركةِ. كلُّ هؤلاءِ القدِّيسِيْنَ كانُوا يسيرُون في صَفَّيْنِ، وكلُّ واحدٍ منهُم يَتَلأْلَأُ كالشَّمسِ وهو يحملُ شمعَةً مُضَاءَةً. وبينَمَا كَانَتِ الفَتَاةُ الصّغيرةُ تقفُ وتُراقبُ بِدَهشَةٍ، أَعطَاهَا ملاكُهَا الحارسُ شمعةً أيضًا، وبعدَ ذلكَ وَجَدَتْ نَفْسَهَا في صفٍّ معَ العديدِ من النُّفوسِ الأُخرى، ومن هناكَ رَأَتْ مُخَلِّصَنَا ومَلِكَنَا يسوعَ المسيحَ عَنْ بُعدٍ. كانَ المسيحُ يَرتدِي ثِيَابًا برَّاقَةً مثلَ الأُسْقُفِ، ومُكَلَّلاً بِتاجٍ مُلوكيٍّ مِثلَ البَطريركِ. كانَتْ والدَتُهُ، العذْرَاءُ مريمُ، واقفةً عن يمينِ المَسيحِ، وكانَتَ تبدو كملكةٍ مجيدةٍ وموقَّرةٍ. كانَ الضَّوءُ المُنبَعِثُ مِنْ هاتَيْنِ الشَّخْصِيَّتَيْنِ المَلَكِيَّتَيْنِ عظيمًا لدَرَجَةٍ أنَّهُ أضَاءَ المَوكِبَ المُبَارَكَ بأكمَلِهِ، الَّذي كانَ ينشدُ بصَوْتٍ واحدٍ تراتيلَ عيدِ دخولِ السَّيِّدِ إلى الهَيكَلِ.

سُرعانَ ما وصلُوا إلى كنيسةٍ فسيحةٍ ورائعةٍ. عندَمَا دَخَلَتْ جميعُ مراتِبِ القدِّيسِيْنَ، بدأُوا يُنشِدونَ ترنيمةٍ لا يمكنُ وصفُ تناغُمِهَا وحلاوتِها بكلماتٍ بشريَّةٍ. عند انتهاءِ هذِهِ التَّرنيمةِ، دَخَلَ الرّبُّ إلى المَذبَحِ المُقَدَّسِ وبَدَأَ بالقُدّاسِ الإلهيِّ مُعلِنًا بصوتٍ عالٍ: «مُبَارَكَةٌ هيَ مَمْلَكَةُ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُسِ...». في الجزءِ الرَّئيسيِّ من الكنيسةِ، كانَتْ هناك جوقَتَان من المَلائكةِ تُنشِدَانِ الأنتيفونات. عندَمَا حَانَ الوَقتُ، قرأَ القدّيسُ بولسُ الرِّسالة اليَوميَّةَ، وتلاَ القدّيسُ لوقا الإنجيليُّ إنجيلَ عيدِ دخولِ السَّيِّدِ إلى الهيكلِ.

أخيرًا، عندَ ختام القدّاسِ الإلهيِّ، جلَسَ المَسيحُ على عرْشِ المَجدِ، وَبَدَأَ الجميعُ يَتوجَّهونَ نحوَه بانتظامٍ، اثنَيْنِ اثنَيْنِ. بعدَ الاقتِرابِ والسّجودِ أمَامَه، كانُوا يسَلِّمونَه الشَّمعةَ الَّتي يحمِلونَها. عندَمَا حَانَ دَورُها، شَعَرَتِ الفتاةُ التَّقيَّةُ بأنَّها سَتَعودُ إلى الأرضِ مرَّةً أُخرَى عندَ اكتِمَالِ هذا الإحتفالِ السَّماويِّ، فلم تَرغَبْ في تسليمِ شمعتِها للرَّبِّ، بلْ أرادَتِ الاحتفاظَ بها، كتَذكارٍ لهذِهِ الرُّؤيَةِ المَهيبَةِ. لذلك، بعدَ أنْ سَجَدَتْ كَمَا فَعَلَتْ جميعُ النُّفوسِ الأُخرى، حاوَلَتِ المُغادرةَ بسُرعةٍ. وَمَعَ ذلكَ، أوقَفَها المَلاكُ وقالَ: «أعطِ شمعَتَكِ للرَّبِّ، كما فعل الجميعَ». فأجَابَتْ: «لا أريدُ أن أُعيدَها. أُريدُ الاحتفاظَ بها... لتكونَ بَرَكَةً». في تلك اللّحظةِ، أَمسَكَ الملاكُ بالشَّمعةِ وَحَاوَلَ انتزاعَهَا منها، لكنَّها تشبَّثَتْ بها بشِدَّةٍ.

بينما كانَا يحاولانِ انتزاعَ الشَّمعةِ، انكسَرَتْ إلى نِصْفَين، وانتَهَى كلٌّ منهما بِحمْلِ جزءٍ منها. وفي تلك اللّحظةِ، انتَهَتِ الرُّؤيَةُ، وعادَتْ نفسُ الفتاةِ إلى جَسَدِها. عندما استعادَتْ إدراكَها لِمكانِها، رَأَتْ أَنّهَا كانَتْ تُمسِك نصفَ شمعَتِها في يدِها اليُمنى، وامتلأَتْ فورًا بفَرَحٍ لا يوصَفُ وسعادةٍ عارمةٍ. بعدَ ذَلكَ، اجترحَ الرَّبُّ القديرُ مُعجِزاتٍ مُدهِشةً بهَذِهِ الشّمعةِ: نالَ العديدُ من المكفُوفين بَصَرَهُم، واستعادَ العديدُ من المشلُولين قدرَتَهم على المَشْيِ، وشُفيَ العديدُ من أمراضٍ أخرى.

بعدَ أنْ عَاشَتْ بِضعَ سنواتٍ أخرى بعدَ هذِهِ الرُّؤيَةِ بسِيرةٍ ملائكيَّةٍ مماثلةٍ للقدّيسين، انتَقَلَت هذه الفتاةُ إلى الحياةِ الأخرى، حيث تَعيشُ الآن بفرحٍ لا يوصَفُ، وجمالٍ لا يُمكِن تصوُّرُه، وسعادةٍ لا تَنتَهي، في مَلكوت المسيحِ. بشفاعةِ والدةِ الإلهِ وجميعِ القدِّيسينَ، نَرجو أن نكونَ نحن أيضًا مُستَحِقّين لهذا المَلكوتِ السَّماويِّ. آمين.

كانَ أحدُ الإخوةِ مُضطَرِبًا ومُتضَايقًا من شخصٍ ما، وظلَّ صامِتًا وتَحَمَّلَ التّجربةَ بفرحٍ من أجلِ الرّبِّ. ومعَ ذلكَ، بِما أنَّه كائنٌ بشريٌّ، بَدَأَ يَتَضَايقُ تدريجيًّا من أفكارِ الغَضَبِ وبدَأَ الحزنُ يَغمُرُه. لذلِكَ، انسَحَبَ إلى مكانٍ بعيدٍ حيثُ صلَّى إلى اللهِ من أعماقِ قلبِه بحزنٍ ومَرَارَةٍ، مُبَلِّلًا الأرضَ بدموعِهِ، ومُلتَمِسًا من اللهِ الصّبرَ والاحتمالَ وطولَ الأناةِ.

بينما كانَ يصلِّي بألمِ قلبٍ، غَلَبَه نومٌ هادئٌ وحُلوٌ. وفجأةً، وجد نَفسَهُ وسطَ سهلٍ جميلٍ، واسعٍ لدرجةٍ أنَّهُ بَدَا بقَدرِ اتِّساعِ السّماواتِ، وكانَ هناك أيضًا أُناسٌ أكثرُ عَدَدًا من نجومِ السَّماءِ أو رمالِ البحرِ. وهذا ما يُؤَكِّدُه الإنجيليُّ الحبيبُ، القدِّيسُ يوحنّا اللّاهوتيُّ، الّذي يقولُ في سِفرِ الرّؤيا: «بعد هذا نَظَرت وإذا جمعٌ كثيرٌ لم يَستَطِع أحدٌ أن يَعُدَّه، من كلِّ الأممِ والقبائلِ والشّعوبِ والألسِنَةِ، واقفونَ أمامَ العرشِ وأمامَ الحَمَلِ، متَسَربِلين بثيابٍ بيضٍ وفي أَيديهم سُعُفُ النَّخلِ» (رؤيا 7: 9).

وكانَ أُناسٌ كثيرُونَ، في ذلكَ السّهْلِ الجميلِ ، يَرتدُونَ ثبابًا بِيْضًا بَرَّاقةً، وهم يُنْشِدُونَ بِصَوْتٍ واحِدٍ بتناغمٍ رائعٍ الآيةَ: «أَنْتُمُ الّذينَ بالمسيحِ اعتَمَدتُم المسيحَ قد لَبِستُم. هلِّلويا» (غلاطية 3 :27). دُهِش الأخُ من هذا الجَمعِ الكبيرِ ومن اللَّحن العَذبِ، فسألَ أحدَهم مَن يكُونُون، وهُمْ بهَذَا البهاءِ، يُنشِدون تلك الآيةَ تَحديدًا؟ فأجاب الشَّخصُ الأَخَ: «عندما كنَّا نعيشُ في العالَمِ البَاطِلِ، مَرَرْنا بنهرٍ من الصُّعوبات والتَّجاربِ من أجْلِ محبَّةِ المسيحِ، ولهذا أَصبَحَت ثيابُنا برَّاقةً بيضاءَ. ألاَ تَعلَمُ ما قالَهُ اللاَّهوتيُّ الَّذي اتَّكَأَ على صَدرِ المَسيحِ عَنَّا؟ هؤلاءِ همُ الَّذين أتَوا من الضِّيقةِ العظيمةِ، وغَسَلُوا ثِيابَهُم وبَيَّضُوها في دَمِ الحَمَلِ» (رؤيا 7 :14). لقد أَصبَحَتْ الضِّيقةُ العظيمةُ الّتي عِشنَاهَا في العالَمِ الآنَ فَرَحًا عظيمًا وسببًا للتَّفَاخُرِ. لقد تحمَّلْنا الصُّعوباتِ والمِحَنِ من أجل المسيحِ، ولذلك نحن نُنشِد الآن: «أنتم الّذين بالمسيح اعتَمَدتُم المسيح قد لَبِستُم. هلّلوليا». المسيحيُّ في العالم لا يَلبِسُ المسيحَ بسببِ الأفراحِ في العالَمِ. بل يَلبِسُ المسيح عندما يَتَحمَّلُ الضِّيقاتِ في العالَمِ. لذلك قالَ المسيحُ: « إنّكم سَتَبكُون وتَنوحُون، والعالمُ يَفرَحُ. وأنتم تَحزَنون، ولكنَّ حُزنَكُمْ يَؤُوْلُ إلى فَرَحٍ» (يوحنا 16 :20). يجبُ على المسيحيِّ الّذي يَمتلشكُ الشَّجاعةَ والإيمانَ بالمسيحِ أن يستَمِرَّ في الأمَلِ بالمسيحِ بشجاعةٍ عندَمَا يُعاني ويَتَحَمّلُ الصّعوباتِ من أجل المسيحِ، عندَمَا يُحتَقَرُ ويُسخَرُ منه بسَبَبِهِ، وعندَمَا يُكرَهُ ويُنبَذُ بسَبَبِهِ، لأنَّ المسيحَ يقولُ: «طُوبَى لَكُمْ إذَا عَيَّرُوكُمْ وطَرَدُوكُمْ وقَالوا عَلَيْكُم كلَّ كَلِمَةِ سوءٍ من أَجْلِي كاذِبين» (متّى 5 :11). من لا يَحتَمِلُ هذِهِ الأُمورَ من أجلِ المسيحِ، لا يَلبِسُ المسيح ولا يَدخُلُ في فرحِ المسيحِ.

بعد أنْ أنهى ذلك الشَّخصُ كلامَه، عادَ الأخُ إلى نفسِهِ وأصبحَ منذُ ذلك الحينِ أكثرَ حماسًا لتَحَمُّلِ كلَّ حُزنٍ وصُعوبةٍ وتَجرِبةٍ من أجلِ اسمِ المسيحِ، حتى يَعُدَّهُ المسيحُ في الحياةِ المُقبِلَةِ معَ الّذين يَرتَدُون الثّيابَ البِيْضَ البرّاقةَ، والَّذين يَقِفون حولَ عرشِ المسيحِ، يُمَجِّدونَهُ بفرحٍ وبِلا انقطاعٍ.

فَلِيَحسِبْنا المسيحُ إلهُنا جميعُنا مُستَحِقّينَ لهذا الفرَحِ. لَهُ المجدُ والسّلطانُ إلى دهرِ الدّاهرين. آمين.


 

«إنّ آلامَ هذَا الزّمَانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا». (رومية 8 :18).


 

إذا حَكَمْت العالَمَ بأَسرِهِ كما فَعَل الإسكندرُ الأكبرُ، إذا كُنْتَ أكثرَ حكمةً من سليمانَ، أو أقْوَى من شمشونَ وهِرَقلَ، أو أغنَى من الملكِ ميداسَ، وأجمل من نرجسَ، بِبَساطَةٍ، إذا تَفَوَّقْتَ على كلِّ شخصٍ في الصِّفاتِ الجَسَديّةِ جميعِها، فما الفائدةُ إذا انتَهَتْ نفسُكَ مُدانةً في الجحيمِ؟ ماذا سَتَجنِي في الحياةِ الآخرَةِ من هذا المَجدِ والشّهرةِ والتَمَيُّزِ القصيرِ الأمَدِ؟ لا شيْءَ على الإطلاقِ! إذا كانَ هذا هو الحالُ، فلماذا يَجِبُ أن نُكافِحَ عَبَثًا ونُعَذِّبَ أَنفُسَنا من دونِ جدوى للحصولِ على أشياءَ كهذِهِ؟ إسعَ بِجِدِّيَّةٍ واشتَهِ، من دونِ تَوَقّفٍ، خَلاصَ نفسِكَ، لأنَّ هذَا أكثرُ قيمةً بمَا لا يُقاسُ من اكتسابِ جميعِ كُنوزِ الأرضِ، كما يُؤَكِّدُ الرَّبُّ نَفسُهُ: «لأنّهُ ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نَفسَه؟» (متى 16 :26).


 

«ما أضيَقَ البابَ وأكرَب الطّريقَ المُؤَدِّي إلى الحياةِ وقليلُون هم الَّذين يَجِدُونَهُ!» (متّى 7: 14).

 



آخر المواضيع

مجدُ السَّماءِ غيرُ مُتَعَذِّرٍ
الفئة : قصص روحية

القديس يوسف الهدوئي 2025-04-18

لا تَتَأَمَّلوا بأَشياءَ باطلَةٍ
الفئة : قصص روحية

الرّاهبِ أغابيوس 2025-04-18

لا تحسُدُوا أهلَ العالَمِ
الفئة : قصص روحية

القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم 2025-04-18

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا