قِيْمَةُ الصَّبْرِ

صُعُوباتُ الحَيَاةِ بَرَكَةٌ (3/8)

الفئة:قصص روحية

قِيْمَةُ الصَّبْرِ (3/8)

القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم

نَقَلَتْهُ إلى العربيّة: جوزفين القصيفي

 

إنْ أرَدْنا أنْ نتكلَّمَ عنِ الصَّبرِ، علْينا أن نَذكُرَ صَبرَ أَيُّوْبَ البَارِّ. كانَ أَيُّوْبُ رجلاً «سَلِيْمًا مُسْتَقِيْمًا يَتَّقِيْ اللهَ ويُجانِبُ الشَّرَّ. ووُلِدَ لَهُ سَبْعَةُ بنينَ وثلاثُ بَناتٍ» (أَيُّوْب 1: 1و2). اسمهُ كانَ معرُوفًا في أَنحَاءِ الشَّرقِ، ويَحْظَى بتقديرٍ واحتِرَامٍ كَبِيْرَيْنِ. وفَجْأَةً خَسَرَ كُلَّ ما يَملِكُ: ثروتَهُ، أولادَهُ، وصِحَّتَهُ. فتَغَيَّرَ حالُهُ، وانتقَلَ مِنْ القِمَّةِ إلى الحَضِيضِ. ولَمْ يكنْ عَلَيْهِ أن يَحتَمِلَ المَرضَ وشِدَّةَ الفَقْرِ والحُزْنَ لِوفاةِ أولادِه، وقسوةَ قُطَّاعِ الطُرُقِ وجُحودَ الأصدِقاءِ، وإِنَّما أَنْ يَحتَمِلَ، أيضًا، الهُزْءَ والسُّخريةَ والافتِراءَ، وهوَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِتَحَمُّلِ كُلِّ هذا. فَمَنْ وُلِد في الفَقْر يعَتَدْ على تَحَمُّلِ المَصاعِبِ والمَصَائِبِ والعيشِ بِحِرْمانٍ لأَنَّهُ يكونُ قدِ استَعَدَّ لَهُ قَبْلاً، وأَيْضًا، فَكُلُّ مَنْ فَقَدَ وَلَدًا لَهُ فَإِنَّهُ يَتَعَزَّى بمَنْ بَقِيَ منْ أَولادِهِ مَهمَا حَزِنَ.

لكنَّ أَيُّوْبَ الَّذي تَمتَّعَ بالبَحْبُوحَةِ كُلَّ حياتِهِ، أصبَحَ مُعْوَزًا بَيْنَ لَيْلَةٍ وضُحاها، شَاهِدًا على وَفاةِ أبنائِه العَشَرَةِ في آنٍ واحدٍ، كما وردَ في سِفْرِهِ: «...كانَ بَنوكَ وبناتُكَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا في بيتِ أَخِيْهم الأَكبَرِ، فَإِذا بِرِيْحٍ شَديدَةٍ قَدْ طَلَعَتْ مِنْ عُرْضِ الصَّحراءِ وَصَدَمَتْ زَوايا البَيْتِ الأَرْبَعَ فَسَقَطَ عَلَيْهم فَمَاتُوا...» (أَيُّوْب 1: 18و19)

كانَ ألَمُ أَيُّوْبَ عظيمًا جدًّا، يعسُرُ وصفُهُ، بِسببِ فَقْرِهِ غيرِ المُتوقَّعِ. أَلَمُهُ الرُّوحيُّ لا يُوصَفُ بِسَبَبِ موتِ أولادِهِ المأساويِّ والمُفاجئِ. بالإِضَافةِ إلى إِصَابَتِهِ هُوَ أَيْضًا بمرضٍ خَطيرٍ:«فَخَرَجَ الشَّيْطانُ مِنْ لَدُنِ وَجْهِ الرَّبِّ وَضَرَبَ أَيُّوْبَ بِقَرْحٍ خَبِيْثٍ مِنْ باطِنِ قَدَمِهِ إلى قِمَّتِهِ» (أَيُّوْب 2: 7). فَأَخَذَ خَزَفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وهُوَ جالِسٌ على الرَّمَادِ (أَيُّوْب 2: 7و8) لِيَشعُرَ بِبَعْضِ الرَّاحَةِ. وإذا جاءَهُ أحدٌ بقليلٍ من الطَّعَامِ، لمْ يكنْ يمسُّهُ، بل يقولُ: «ما عَافَتْ نَفْسِي أنْ تَمسَّهَا، هذِهِ صَارَتْ مثلَ خُبزي الكريهِ!» (أَيُّوْب 6:7) فَقَدْ أَزَالَتْ رائحةُ جروحِهِ الكَريهةُ، وألَمُ روحِهِ الَّذي لا يُعالَجُ، كُلَّ رَغبةٍ في تَناوُلِ الطَّعامِ.

كيفَ أَصِفُ مَصائبَهُ الَّتي لا تُصَدَّقُ؟ أراهُ جالسًا على كَومَةٍ من السَّمادِ الجَافِّ، وجُروحُهُ تَنزِفُ دَمًا وقَيحًا. ويلتَهِمُ لَحمَهُ عددٌ لا يُحصى من الدِّيدانِ. ولا عزاءَ لَهُ مِنْ أَحَدٍ. أَوْ مَنْ يَتَعَاطَفُ مَعَهُ. خُدَّامُهُ يَتجَاهَلُونَهُ، أصدقاؤُهُ ينتَقِدُونَهُ، وعامَّةُ النَّاسِ يَسخَرُونَ منهُ، كما وردَ في سِفرِهِ: "وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ضَحِكَ عَلَيَّ أَصَاغِرِي أَيَّامًا، الَّذِينَ كُنْتُ أَسْتَنْكِفُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي... أَبْنَاءُ الْحَمَاقَةِ، بَلْ أَبْنَاءُ أُنَاسٍ بِلاَ اسْمٍ، قَدْ دُحِرُوا منَ الأَرْضِ. «أَمَّا الآنَ فَصِرْتُ لَهُمْ أُغْنِيَةً وأَصْبَحْتُ عِنْدَهُمْ مَثَلاً! وقَدِ اشْمَأَزُّوا مِنِّيْ وتَجَافَوْا عَنِّيْ ولا يَحْتَشِمُونَ أَنْ يَبْصُقُوا في وَجْهِيْ.» (أَيُّوْب 30: 1-10).

إنَّ الَّذين يَحتمِلُونَ المصائبَ مِنْ دونِ تَذَمُّرٍ يَحصَلونَ على أجرٍ أكبرَ منَ الَّذينَ يَحرصُون على فِعلِ الخيرِ. والنَّبِيُّ أَيُّوْبُ هو البُرهانُ فقدْ أصبحَ معروفًا في العالَمِ بسببِ التَّجاربِ الَّتي تعرَّضَ لها أكثرَ من إنْجازاتِهِ الفاضِلَةِ. بالتَّأكيد، كان الكلُّ مُعجَبًا بِهِ عندَما كانَ يعيشُ سعيدًا ويَعملُ أعمالًا صالحةً، قائِلاً: «كُنْتُ أُنَجِّيْ البائِسَ المُسْتَغِيْثَ واليَتِيْمَ الَّذي لا مُعِيْنَ لَهُ. فَتَحِلُّ عَلَيَّ بَرَكَةُ الهالِكِ وأَجْعَلُ قَلْبَ الأَرْملَةِ مُتَهَلِّلاً. لَبِسْتُ العَدْلَ فَكانَ كِسَائي وما بَرِحَ قَضَائي حُلَّتِيْ وتاجِيْ. كُنْتُ عَيْنًا للأَعمى وَرِجْلاً للأعرَجِ. كُنْتُ أَبًا للمَسَاكينِ ...» (أَيُّوْب 29: 12-16).

مع ذلِكَ، العالَمُ يَعْرِفُهُ اليومَ، وبعدَ كلِّ هذه الأعوامِ، ليس لأنَّهُ وَزَّعَ ثَروتَهُ على الفُقَراءِ، وإِنَّما لأَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ باليَأْسِ عندَمَا خَسَرَ ثروتَهُ. ليسَ لأنَّه ألبسَ العُراةَ ثيابًا من صوفِ خرافِهِ، بل لأنَّهُ مَجَّدَ اللهَ عندَما نَزَلَتْ نارٌ من السَّماءِ وأحرقَتْ قطيعَهُ كُلَّهُ. في البَدءِ، كانَ رَؤوفًا لأنَّهُ اهتمَّ بالفقراءِ، أصبح أَكثرَ إِدراكًا إذ مجَّد اللهَ على المَصائبِ الَّتِيْ مُنِيَ بِها. في البَدْءِ، كان يهتمُّ بالنَّاسِ، ومجَّدَ اللهَ لاحقًا. لم يفكِّرْ في نفسِهِ: "لماذا حَصَلَ هذا لي؟ لماذا خَسَرْتُ قطيعي وماشِيَتي الَّتي أَمَّنَتِ المأكلَ لألوفِ النَّاسِ الفُقَراءِ؟ إذا كنتُ غيرَ مُستحقٍّ للتمتُّعِ بهذِهِ الثَّروةِ، فلِمَ لم يَترُكِ اللهُ لي الخرافَ لأُساعِدَ الفقراءَ؟" لم تخطُرْ هذه الأفكارُ في بالِ أَيُّوْبَ. وإِنَّما لاحَظَ أَنَّ ما حَصَلَ لَهُ كانَ بِسَماحٍ منَ اللهِ لِذَلِكَ شكَرَهُ. ليس من غيرِ المُعتادِ أَنْ يَشكُرَ أحدٌ اللهَ عندَمَا تسيرُ الأمورُ كما يُريدُ، بل إنَّهُ أمرٌ عجيبٌ وغيرُ اعتياديٍّ أن يَحتَمِلَ الإنسانُ بصَبْرٍ وشُكرٍ أقسى التَّجاربِ والصُّعُوبَاتِ.

إن أعظمَ شَهادةٍ لِعظمةِ صبرِ أَيُّوْبَ هي مِنَ الشَّيطانِ نفسِهِ. هل تَتَذَكَّرُون أوَّلَ حِوارٍ أجْراهُ معَ الرَّبِّ عندمَا كانَ أَيُّوْبُ يَحْيَا وَهُوَ غَنِيٌّ؟ فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيطانِ: «هَلْ أَمَلْتَ بَالَكَ على عَبْدِيْ أَيُّوْبَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَثِيْلٌ في الأَرْضِ. إِنَّهُ رَجُلٌ سَلِيْمٌ مُسْتَقِيْمٌ يَتَّقِيْ اللهَ ويُجانِبُ الشَّرَّ» (أَيُّوْب1: 8). فماذَا كانَ جوابُ الشَّيطانِ المُتعَجْرِفِ؟

«فَأَجَابَ الشَّيطَانَ الرَّبَّ وَقَالَ: أَمَجَّانًا يَتَّقِيْ أَيّوُبُ اللهَ أَلَمْ يَكُنْ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ؟ وَقَدْ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ أَموالُهُ فِي الأَرْضِ وَلكِنِ ابْسُطْ يَدَكَ وامْسَسْ جميعَ مَا لَهُ، فَتَنْظُرَ أَلا يُجَدِّفُ عَلَيْكَ في وجْهِكَ. فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيطَانِ: ’ها إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ في يَدِكَ، وَلكنْ إِلَيهِ لاَ تَمْدُدْ يَدَكَ’. وَخَرَجَ الشَّيطانُ مِن أمامِ وَجْهِ الرَّبِّ» (أَيُّوْب 1: 9-11).

هل تَفْقَهُونَ الاعتراضَ المُخزيَ الَّذي أبدَاه الشَّيطانُ عندَمَا كانَ أَيُّوْبُ يُتَمِّمُ الأعمالَ الصّالحةَ؟ "هل يحترمُك من دونِ مكافئةٍ؟" ولكنْ، عندما كانَ أَيُّوبُ البارُّ يحتملُ بصبرٍ هذهِ المَصائِبَ، كان الشَّيطانُ يُغطِّي وجهَهُ خَجَلاً منْ أَيُّوبَ ويهرُبُ مسرعًا، غيرَ قادرٍ على تقديمِ أيِّ حجّةٍ، أو الرَّدِّ بعُذْرٍ.

إذاً، عِندَما تُشاهِدُونَ شخصًا بارًّا قد فعلَ الكثيرَ من الخيرِ وامْتُحِنَ بمصائبَ كثيرةٍ فلا تتعجَّبُوا. وعِندَما تُشاهِدُونَ آخَرَ يتصدَّقُ ويعملُ أعمالاً تُرضِي اللهَ ووقعَ في التَّجاربِ والمَخاطرِ، فلا تندهِشُوا. لأنَّهُ ضربَ الشَّيطانَ بشِدَّةٍ، ولهذا السَّببِ انتقمَ منْهُ الشَّيطانُ وألقاه في التَّجاربِ.

قد تتساءَلُونَ «لِمَ يسمحُ اللهُ بحدوثِ هذهِ الأشياءِ؟». الجوابُ: لِيُتَوَّجَ الصِّدِّيْقُ بِأَكاليلَ، ولِينالَ الشّيطانُ عِقابًا. بالتَّأكيدِ، من الأَفْضَلِ أنْ يُعطيَ الشَّخصُ الصَّدَقاتِ ويجاهدَ بحماسٍ لإتمامِ الفضيلةِ عندما تسِيرُ كلُّ الأشياءِ وِفقَ رغبتِهِ. ولكنَّ الأعظمَ أَنْ يُجاهِدَ شخصٌ ما بالحمَاسَةِ نَفْسِها صَامِدًا أَمامَ المِحَنِ. لهذا السَّببِ، كما أنَّ الخاطئَ سيُواجِهُ عَواقبَ وخيمةً وكثيرَةً في الحياةِ الأُخرى إنْ لم يواجهِ المَسَاوِئَ في هذِهِ الحياةِ، كذلكَ الأمرُ، سَيَنْعَمُ البَارُّ بمجدٍ أَكبرَ وسَعادَةٍ أَوْفَرَ في الحياة التَّاليةِ عندَما يُواجه المَصَاعبَ في هذِهِ الحياةِ.

ربّما ستقُولون لي إنَّكم عائشُون دائمًا في الفَقْرِ والشَّدائدِ، إذًا، تذكَّروا أَيُّوْبَ البارَّ، "عَمُودَ الصَّبْرِ" الَّذي لا يَتَزَعْزَعُ. مَنْ كانَ أفقرَ منهُ؟ إِنَّ الفُقراءَ أَنفُسَهم يَجِدُون ملجأً ومأوًى في مكانٍ ما! ولكنّ أَيُّوبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَقْفٌ يَأْوِيْهِ، وعاشَ تحتَ السَّمَاءِ. ولِفُقراءِ اليومِ قِطْعَةُ لِباسٍ يَرتدُونَها، إنَّما هو كانَ عُرْيَانًا. من شهَدَ عذابًا أَكبَرَ؟ رَزَقَهُ اللهُ أَولادًا، وفَقَدَهُم كلَّهم في لحظةٍ واحدةٍ! من عانى مَرَضًا أَكثرَ سُوءًا؟ جسدُهُ كُلُّهُ أصبحَ مليئًا بالطُّفيليَّات والقُروحِ والجِراحِ. وعلى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ كُلَّ شِدَّةٍ منَ الشَّدائِدِ صعبةً بحدِّ ذاتِها، يَبْقى السُّؤَالُ:" كيفَ استطاعَ هذا الرَّجُلُ الفولاذيُّ أَنْ يَحْتَمِلَها في آنٍ مَعًا، وَلَمْ يَتَلَقَّ مُساعَدَةً من أَحَدٍ؟ كما تعلمُون، لِكُلٍّ مِنَّا شخصٌ يُؤَاسيهِ ويُشَجِّعُهُ في أوقاتِ المِحَنِ، أَمَّا أَيُّوْبُ فَلَمْ يكُنْ لديه أحدٌ. بل على العَكْسِ فقَدْ شرِبَ كُؤُوسًا مُرَّةً، الكَأْسَ تِلْوَ الآخرِ: خيانةُ أصدقائِهِ، جُحودُ النّاسِ الَّذين ساعدَهم سابقًا، سُخْطُ زَوْجَتِهِ ويَأْسُها، وأخيرًا، سخريةُ أهلِ بلدَتِهِ.

فَإِذَا أَخَذْتُمْ بِعَيْنِ الاعتِبارِ، ما سبَقَ ذِكْرُهُ، فَسَوفَ تُقَدِّرُونَ عظَمَةَ نفسِ أَيُّوْبَ. لأنَّهُ رَمْزُ الأَلَمِ في العَالمِ. لم تخرجْ من فمِهِ كلمةٌ كالَّتي تخرُجُ من أفواهِ النُّفوسِ الضَّعيفةِ. "ألِهَذا السَّبَبِ علَّمْتُ أَولادي أنْ يكونُوا صَالحِينَ؟ لِأُحرَمَ مَنْهُم ظُلمًا بمَوتِهِمِ المُبكِرِ؟ "ألِهَذا السَّبَبِ تَصَدَّقْتُ على الفُقَراءِ وساعَدْتُهُم في وقتِ حاجتِهِم؟ لِأخَسَرَ كُلَّ ما أَمْلِكُ؟ "ألِهَذا السَّبَبِ أَلْبَسْتُ المُشَرَّدِينَ وَزُرْتُ المرضى؟ ليَنْتَهِيَ بي الأمرُ في المَزْبَلَةِ، عُريَانًا وأَتَعَذَّبُ من جرَّاءِ المَرَضِ؟ أَبِهَذِهِ الطَّرِيقةِ قَرَّرَ اللهُ أن يُكافِئَنِي على كلِّ الإحسَاناتِ الَّتي عَمَلْتُها؟" هذِهِ العباراتُ لم يَتَفَوَّهْ بِها أَيُّوْبُ، بلْ على العَكسِ، قالَ جُمْلَةً واحِدَةً هي أَثْمَنُ مِنْ ذَبِيْحَةٍ: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ جَوْفِ أُمِّيْ، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلى هُناكَ. ألرَّبُّ أَعْطَى والرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسمُ الرَّبِّ مُبارَكًا» (أَيُّوْب 1: 21).

يَظْهَرُ أَيُّوبُ في قَوْلِهِ هذا، رَجُلاً مَغْبُوطًا لا يَقِلُّ شَأْنًا عَنْ رُسُلِ المَسِيْحِ، وأَتَجَرَّأُ، قائلاً، أَنَّهُ كان يَفُوقُهم. لأَنَّ الرُّسُلَ كانَ لَهُم عزاءٌ أنَّهم تَعَذَّبُوا من أَجلِ الرَّبِّ، ولكنَّ أَيُّوبَ مِنْ أَينَ كانَ لَهُ هذا الرَّجاءُ؟

إِضافَةً إلى ما تَقَدَّمَ لم يكن أَيُّوْبُ موضِعَ سُخريةٍ واحتقارٍ من أَعدَائِه فَحَسْبُ (كما حَصَلَ معَ الرُّسُلِ) وإنَّما مِنْ أصدِقائِهِ وخدَّامِهِ وممَّنْ سَاعَدَهُم سابقاً، الأمرُ الَّذي كانَ مؤلِمًا، بما لا يُوصَفُ، حَقًّا.

لذلك، إِنْ مَلَأَكَ الشَّيْطانُ أَذًى وحُزْنًا رُدَّ لَهُ الصَّاعَ صاعَيْنِ بِشُكرِ اللهِ على السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ؛ ولكنْ إِنْ لَمْ تَحْزَنْ، وهذا هُوَ الأَفضَلُ فَإِنَّكَ سَتُوَجِّهُ للشَّيْطانِ ضَرْبَةً قاضِيَةً عندما يَرَاكَ تَتَجَاهَلَهُ، وتتجاهلُ طُرُقَهُ الشّرِّيرَةَ، وعندَها سيرْحلُ مُخْزًى. وهكذا، نَسْمَحُ لِأَنْفُسِنا أَنْ نَتَعَجَّبَ بِحَقٍّ منَ الشَّخصِ الَّذي فَقَدَ ثَرْوَتَهُ وتَحَمَّلَ هذا الحرمانَ شَاكِرًا، أكثرَ ممَّا نتعجَّبُ منَ الَّذِيْ حَافظَ على ثروتِهِ وَتَصَدَّقَ على الفُقَرَاء بفَرَحٍ.

ولكن دعونا الآنَ نَعودُ إلى مَثَلِ أَيُّوْبَ الرائعِ. هل تساءَلْتُم لِمَ لَم يقتُلِ الشَّيطانُ زوجةَ أَيُّوْبَ معَ أوْلادِهِ؟ لأنَّهُ كانَ يَعلَمُ جيِّدًا أَنَّها ستُساعِدُهُ كثيرًا في المُستقبلِ لِتحقيقِ خطَّتِهِ الشِّرِّيرةِ. فكّر الشَّيطانُ في نَفسِهِ: "إذَا تَمَكَّنْتُ بمساعدةِ امرأةٍ أَنْ أُخرِجَ آدمَ من الفِردوسِ، فبمُسَاعَدَةِ امرأةٍ سيكونُ مِنَ السَّهلِ أنْ أُخضِعَ أَيُّوْبَ وأجعَلَهُ يفعلُ ما أُريدُ، لأنَّهُ ليسَ في الجَنَّةِ مثلَ آدمَ، إنَّما جالسٌ على مِزْبَلَةٍ". أنظروا خُبثَ الشَّيطانِ. فَهُوَ لَمْ يستخدِمِ المرأةَ أداةً له في البِدايةِ عندَمَا خَسَرَ أَيُّوْبُ مواشيَهُ، أو عندَما انهارَ بيتُ ابنِه البِكرِ وَفَقَدَ كلَّ أولادِهِ تحتَ الرُّكامِ. إنّما استخدَمَها عندَما أُصيبَ أَيُّوْبُ بمرضٍ لا يُحتمُل. عندما كان يسقُطُ لحمُهُ الفَاسِدُ على الأرضِ والدُّودُ يَلْتَهِمُ جَسَدَهُ، وَعِندَمَا لم يعُدْ يحتمِلُ الأَلَمَ المُبَرِّحَ ورَغِبَ بالمَوتِ، أغرى الشِّرِّيرُ،هُنا، زوجةَ أَيُّوْبَ بِنَصيْحَةٍ "إلى متى تَصبُرُ؟ إلى متى ستَنْتَظِرُ وتأمَلُ أن تنتهيَ مُعاناتُك؟ انظُرْ! لقد مُحِيَت ذِكراك منَ الأرضَ! لقد هلكَ أبناؤُك وبناتُك الَّذينَ وَلَدْتَهُم بالمَخَاضِ وَرَبَّيْتَهُم بالصِّعابِ. وها أَنتَ جالِسٌ على مَزبَلَةٍ مليئةٍ بالدِّيدَانِ، تقضي لياليَكَ في الهواءِ الطَّلْقِ من دونِ سقفٍ فوقَ رأسِكَ. أمَّا أنا، فأتجَوَّلُ كمُتَسَوِّلَةٍ من مكانٍ إلى آخَرَ، ومِنْ بَيْتٍ إلى بَيْتٍ، أَنتظرُ غروبَ الشَّمْسِ لأستريحَ من الأتعابِ والآلامِ الَّتي تُحيط بي الآن. «فَقَاْلَتْ لَهُ امرَأَتُهُ أَإِلى الآنَ أَنْتَ مُعْتَصِمٌ بِسَلامَتِكَ جَدِّفْ عَلى اللهِ ومُتْ!» (أَيُّوْبَ 2: 9).

في تلكَ اللَّحظَةِ، كان الشَّيطانُ مُتأكِّدًا أَنَّهُ سيشهَدُ على سقوطِ أَيُّوْبَ. ولكنَّهُ خُدِعَ بشكلٍ رهيبٍ! فَكلِماتُ زَوجَةِ أَيُّوبَ اليائِسَةِ حَطَّمَتْ صُخُورًا، ولكنَّها لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُحطِّمَ زوجَها أَيُّوبَ! .

إذا فَكَّرْنَا في عددِ المرَّاتِ الَّتي تَخدعُ فيهَا النِّساءُ الرِّجالَ الَّذين لا يعانُون من مَشَقَّاتٍ، عِندَها نَفْهَمُ أَنَّ أَيُّوبَ قَدْ تَحَلَّى بالشَّجاعَةِ وتَسَلَّحَ بِمَحَبَّةِ اللهِ عندَمَا ظَلَّ يَقِظًا، غيرَ مُتَأَثِّرٍ بِجُحودِ زَوْجَتِهِ، قائلاً لَها: «إِنَّما كَلامُكِ كَلامُ إِحدى السَّفِيْهاتِ أَنَقْبَلُ الخَيْرَ منَ اللهِ ولا نقْبَلُ مِنْهُ الشَّرَّ؟» (أَيُّوْبَ 2: 10). فَأَيُّوبُ مَجَّدَ اللهَ وهو في قمَّةِ الأسَى والحُزْنِ، و«في هذا كُلِّهِ لَمْ يَخْطَأْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ» (أَيُّوْبَ 2: 10)، «ولَمْ يَقُلْ في اللهِ جَهْلاً» (أَيُّوبَ 1: 22).

مَنْ سَمِعَ أو رَأَى هذَا الإنجازَ الرَّائعَ؟ فَمِنَ المُتعارَفِ عَلَيْهِ في المُلاكمةِ ، أَنَّ الفائزَ، خِلالَ المُباراةِ يَطْرَحُ خَصْمَهُ على الأَرْضِ أَمَّا أَيُّوبُ فقدْ فعلَ العَكَسَ إِذْ طَرَحَ الشَّيْطانَ أَرْضًا، ففرَّ هذا الأَخِيْرُ خَجَلاً مِنْ فِعلَتِهِ بعد أنْ ضَرَبَ أَيُّوْبَ ووَضَعَهُ في المِزْبَلَةِ: "ما بِكَ يا شيطانُ؟ لمَ تهرُبُ؟ ألَمْ تكتفِ بما فَعَلْتَ؟ ألم تُهْلِكْ عُجُولَ أَيُّوْبَ وحَميرَهُ؟ أَلَمْ تُحرِقْ غَنَمَهُ؟ أَلَمْ تقتُلْ أولادَهُ؟ ألم تَمْلَأْ جسَدَهُ قُرُوْحًا؟ لمَ تهرُبُ؟ "

فَيُجيبُ الشَّيطَانُ: "سأُغَادِرُ، لأَنِّي حقّقْتُ كلَّ ما أُرِيْدُهُ إلَّا شيئًا واحِدًا! هوَ الشَّيْءُ الوحيدُ الَّذي كُنْتُ أَرغَبُ بِتَحْقِيْقِهِ، ولَمْ أَظْفَرْ بِهِ، وهوَ "أنْ يُجَدِّفَ أَيُّوبُ على اللهِ ولكنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ!" وهكذا، لَمْ يَرْبَحِ الشَّيْطانُ شيئًا في حَرْبِهِ الضَّرُوسِ معَ أَيُّوبَ عندَما حَرَمَثهُ منْ ثرْوتِهِ وأولادِهِ وَقَرَّحَ جَسَدَهُ. لا، بَلْ مُنِيَ بِهزيمةً أَمامَ صَبْرِ أَيُّوبَ وتَقْواهُ، فكانَ ذلكَ سَبَبًا في أَنَّهُ مُجِّدَ أَمامَ اللهِ وأَصْبَحَ مَحْبُوبًا منهُ!

فَعَلَى قَدْرِ فَضِيْلَةِ "آلامِهِ"، وصَبْرِهِ علَيْها، نالَ أَيُّوبُ إعجابَ النَّاسِ ومحبَّةَ اللهِ، كما نالَ مَجْدًا أَرْضِيًّا وسَمَاوِيًّا.

فإذَا كانَ هذَا الرَّجُلُ القِدِّيسُ لمْ يَتَذَمَّرْ عندَمَا أصابَتْهُ الشَّدائِدُ الأرضيَّةُ كُلُّها في آنٍ واحدٍ، فكيفُ نجرؤُ، نحن الخطأةَ، أَنْ نَتَذَمَّرَ عندَما نُواجه تجربةً واحدةً. إذا كانَ هذَا الرَّجُلُ البَرِيْءُ لمْ يَتَمَكَّنْ منَ الهُروبِ مِنَ التَّجارِبِ، فكيف لنا، نحنُ المُذْنِبِيْنَ، أَنْ نَهْرُبَ منها؟ إذا كانَ هذَا الرَّجُلُ الَّذِيْ عانى ظُلمًا، بارك الرَّبَّ على أحزانِهِ، أفَلا يَجِبُ، على الأَقَلِّ، نحْنُ الَذِيْنَ نُعاني أَدْنى ممَّا عانَاهُ أَيُّوبُ، وأَقَلَّ سُوءًا منهُ (على الرَّغْمِ مِنْ أَنَّنا نستحِقَّ أَكثرَ بِسَبَبِ عدَمِ توبَتِنا) أَنْ نُبَارِكَهُ ونَشْكُرَهُ أيضًا؟ وهكذا، فَلْنَتَّخِذْ صَبْرَ أَيُّوبَ قُدْوَةً نَحْتَذِيها لأَنَّ: «مَنْ يَصْبِرْ إلى المُنتَهى يَخْلُصْ» (مَتَّى 24: 13)


 



آخر المواضيع

مجدُ السَّماءِ غيرُ مُتَعَذِّرٍ
الفئة : قصص روحية

القديس يوسف الهدوئي 2025-04-18

لا تَتَأَمَّلوا بأَشياءَ باطلَةٍ
الفئة : قصص روحية

الرّاهبِ أغابيوس 2025-04-18

لا تحسُدُوا أهلَ العالَمِ
الفئة : قصص روحية

القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم 2025-04-18

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا