عيد البشارة

عيد البشارة
الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس
نقله إلى العربيّة: فريق القديس غريغوريوس بالاماس
نرتّل طيلة الصَّوم الأربعينيّ المُقدَّس قنداقًا، وقد رتَّلناه اليَوم، هو النَّشيد المعروف:
"إنِّي أنا مَدينتك يا والدة الإله...". هذا القنداق قد رتَّلهُ المسيحيّون بمناسبة استقلال المَدينة المُتملِّكة -القسطنطينيّة- عن احتلالِ الأعداء. طبعًا، لهذا النَّشيد مصدره التاريخيّ، لأنَّ والدة الإله كمُحامية وجنديّة، قد حمَت مدينتها فعلاً وأنقذتها. في ذلك الزَّمان، كانَ ورعُ النَّاس أشدّ، فتضرَّعوا بإيمانٍ حارٍّ، واستمعت والدة الإله لصلواتهم. عندما يطبّق شعب الله وصاياهُ بإيمانٍ وحُسنِ عِبادةٍ، فإنَّ اللهَ القدُّوس والسيِّدة والدة الإله، يستجيبان للصَّلاة ويؤازران. لكن، في حالة وجود البُعد والإلحاد والهرطقة، فإنَّ الله القدُّوس لن يستجيب لنا؛ إذ ليست فينا أيّة مُؤهِّلات كي نُستجاب. إلاّ إذا وُجِدَ ما بين الشَّعب الكثير المُبتَعِد، عددٌ قليلٌ من الأشخاص القدِّيسين والوَرعين، فإنَّ صلاتهم، حينذاك، ترتفعُ كالبخور أمامَ عرش الله.
ليست أهميَّة هذه الطروبارية تاريخيّة وحسب، بل ولها أهميَّة خلاصيّة؛ لأنَّ والدةَ الإله، وبمُساهمتها بأن تلِدَ ابن الله، لم تُخلِّص المدينة المُتملّكة فقط حينذاك، بل وخلَّصت العالم بأسره، جميع البشر في كلِّ زمان. لهذا، يُمكنُنا الآنَ القَول إنَّها "مُحامية" بوصفها ممثِّلةً عن الجنس البشريّ، وقد حرَّرته من العذابات. لهذا، كُلُّ المَسيحيِّين، بالأخصّ المُستقيميّ الرَّأي، يقدِّمون رايات الغَلَبة والمَجد إلى والدة الإله والشُّكر لوالدة الإله والعرفان لوالدة الإله، "كمُنقِذَةٍ من الشدائد"... فمِن أيِّ شدائد خلَّصتنا والدة الإله؟ كُل ما عاناه الإنسان ما قبل تجسِّد كلمة الله، الابن، تحتَ استعبادِ الخطيئة والموت والشيطان. لكن، جاء المسيحُ وحرَّرنا، ولأنَّ مسيحنا هذا قد أنجبتهُ السيِّدة الفائقة القداسة وجلبَته للعالم، لهذا هي كذلك قد حرَّرتنا مِن تلكَ الشَّدائد الَّتي عذَّبتنا، ولا تزال حتَّى اليوم تُعذِّب البشر. ولذا نُقدِّم لها رايات الغلبة.
"أنا مدينتك، أقدِّمُ لكِ الشُّكر": ومدينَةُ السيِّدة ليست القسطنطينية فقط، بل وكنيسة الله، المدينة السماويَّة، مدينة ملكِ السّماوات، كنيسة الأبكار، في السّماوات وعلى الأرض. إذًا، الكنيسة، بوصفها مدينة الله، اليوم ودائمًا، في السَّماء وعلى الأرض، تَكنُّ العِرفان لوالدة الإله، فتُقدِّم لها رايات الغلَبة والشُّكران، لأنَّ والدة الإله خلَّصتنا.
ورُبَّ سائلٍ: ألا يستطيعُ المسيح أن يُخلِّصنا دون والدة الإله؟
ما كانَ بوِسعِ المسيحِ أن يُخلِّص الإنسانَ إن لَم يشَأِ الإنسانُ نفسُه أن يُخلُص. مثِلَما خسِر الإنسانُ قديمًا الخلاصَ طوعًا بمِلْءِ إرادته، حينَ رفض آدمُ وحواءُ أن يطيعا الله في الفِردوس؛ هكذا الآن أيضًا، لَزِمَ وجود إنسانٍ ما، بحيث يُطيع الله حتَّى يَخلُصَ الإنسان. لم يكن مُستطاعًا أن يتجسَّد اللهُ مِن إنسانٍ عاصٍ غير مُطيع؛ بل لزم أن يوجد إنسانٌ يطيعُ الله طاعةً كاملة، ليصيرَ هذا الإنسان جسرًا، ينزل بوساطته الله إلى الأرض؛ وهذا الإنسان كان البتول. فهي أطاعت الله طاعةً كاملة، وكان فيها كمال الطَّهارة وتمامُ القداسة، وصيَّرت ذاتها مِثلما كانت الطبيعة البشريّة ما قبل السُّقوط، طبعًا بمعونة النِّعمة الإلهيَّة. وكَيفَ كان آدم وحواء قَبل سقوطِهما؟ كانا نموذجًا كليَّ البهاء والطُّهر، بحسب القدِّيس نيقولاوس كباسيلاس. وعلى هذا النّحو، أظهرت والدةُ الإلهِ الطبيعة البشريّة في ذاتها، طاهرة ومُقدَّسة وبريئة مِن العيب؛ مثلما كان الإنسان قبل أن يخطئ. ومن هذه الطبيعة البشرية المتقدِّسة تجسّد كلمة الله. لهذا، نحن الأرثوذكس، ندين بعرفان شديدٍ لسيِّدتنا والدة الإله، ونكرّمها خصِّيصًا، ومن المعروف للجميع كم يُكرِّم شعبنا الورع والدة الإله بصلاته ويكنّ لها العرفان الشديد.
نحن، تحديدًا هُنا في الجبل المقدِّس، نشعر بنعمتها وبركتها، خاصَّةً في أعيادها المُباركة، فإنَّ الجبل المقدَّس هو خاصَّتها وعملها وبركتها. لهذا، نشكُرها اليَوم على جميع عطاياها، لأنَّها صارت عِلَّةَ خلاصِنا وعلَّة فرحِ الجميع وعلَّة انعتاق البشريّة. ونكنُّ لها العِرفان الشَّديد لأنَّها تسترنا هنا خاصّةً في الجبل المقدّس وتساعدنا. لولا سترها وعنايتها لما كان ثمَّة جبل مقدَّس! فقد عبر من هنا أعداءٌ كثيرون وقِوى مظلمة، لكن لم يتمكَّنوا من إيذاء آثوس، لأنَّه محروس تحت سِترِ السيِّدة العذراء ومعونتها. لكلِّ هذه الأسباب، نشكر والدة الإله ونتوسَّلُ إليها بعرفانٍ أن تُساعدنا كي نُرضيها، فهي أُمّنا القدِّيسة، أُمُّ جميع المسيحيّين، جميع الأرثوذكس، رهبانًا أو في العالم. علَينا جميعًا، رهبانًا وإكليروسَ المؤمنين في العالم، أن نحذر ألاّ نُحزِنَها، لأنَّ أيّة خطيئة نفعلها تُحزِن السيِّدة. مِثلما لا نودّ أبدًا أن نُحزِن أمَّنا الَّتي ولدتنا وضحَّت كثيرًا من أجلنا. نقول: "هل أُحزِنُ أطيب "ماما"؟ لا يجوز! وإن حدث ذلك، فإننا نطلبُ منها المُسامحة، وإن رحلت أُمَّنا الصَّالحة من هذا العالم، فكم نحزن ونتندَّم قائلين: "خسارة! كانت أُمِّي صالحة جدًّا، ومع هذا أنا أحزنتها مِرارًا". فكم بالحريّ واجبٌ علينا ألاّ نحزن أُمَّنا العذراء القدِّيسة، بل أن نرضيها كي نجد الدَّالة في صلاتنا لغفران خطايانا أو لأجل مشاكل الحياة المُختلفة، دالةً أمامَ أُمِّنا القدِّيسة المباركة بالفعل والممتلئة نعمة وحدها.
مرَّت في هذه الحياة على الأرض نساءٌ مُهِمَّات كثيرات، وكنَّ مُنعمًا عليهنّ، لكن لم تكن واحدة منهنَّ مثل السيِّدة العذراء قطّ. هي وحدها المُمتلئة نعمةً، وعلى حدِّ الإطلاق، ولهذا استأهلت ما بين نساء العالم أجمَع بما فيهن القدِّيسات أيضًا، أن تَسمعَ وحدها هذه التحيّة السماويّة: "افرَحي يا ممتلئة نعمةً، الرَّبّ معكِ. "
ونحن كذلك مع رئيس الملائكة جبرائيل نُكرِّر السَّلام اليَوم قائلين لوالدة الإله:
"افرحي يا ممتلئة نعمة الرَّبّ معكِ" ونُضيف "تشفّعي فينا نحنُ الخطأة." آمين.
آخر المواضيع
عيد البشارة
الفئة : أعياد سيديّة
عظةٌ في رقاد والدة الإله
الفئة : أعياد سيديّة
إِجلالُ والدة الإله، وإكرامُها
الفئة : أعياد سيديّة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني