القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ، أبو المَجمَعِ المَسكونيِّ التّاسِع

القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ، أبو المَجمَعِ المَسكونيِّ التّاسِع
المُتقدِّم في الكهنة، الأب جورج ميتالّينوس
نقله إلى العربيّة: ماهر سلّوم
أيّها الآباءُ الأجِلّاءُ، والإخوةُ الأحِبّاءُ! إنَّ تذكارَ القدّيسِ غريغوريوس بالاماس يُصادِف في الرَّابِعَ عشَرَ من تشرينَ الثّاني، كما هو وارِدٌ في السّنكسار"سِيَرِ القِدِّيْسِيْنَ". بيد أنّ المجمعَ المُنعقدَ عام 1369، أرتأى أنْ يُقيمَ تذكارًا آخرَ للاحتفالِ بعيد القدّيسِ غريغوريوس بالاماس بإطلاقِ اسمِهِ على الأحد الثّاني من الصّومِ الكبيرِ كامتِدادٍ لأحدِ الأرثوذكسيَّةِ، المعروف بِـ"أحدِ غريغوريوسَ بالاماس".
إنّ انتصارَ الكنيسةِ، كجسد المسيح، ضدّ الإثم مستمرٌّ. فهو ليسَ انتصارَ فَرْدٍ واحدٍ على مجموعةِ أَفرادٍ، أو انتصارَ جماعةٍ على أُخرى ؛ إِنَّما هو انتِصَارٌ للإِيمانِ. إنّه انتصارُ الإيمانِ كَنَهجِ فكرٍ، وطريقةِ حياة، وخبرةٍ روحيَّةٍ مُقدَّسةٍ، تقودُ الإنسانَ إلى التَّأَلُّه. إذن، إنَّه انتصارٌ خلاصيٌّ، دخلَ التّاريخَ بِربِّنَا يسوعَ المسيحِ، الّذي كانَ غيرَ مُتَجَسِّدٍ في العهد القديمِ، وتجَسَّدَ في العهدِ الجديدِ.
وَلِنُدْرِكَ أهمّيّةَ القدّيسِ غريغوريوسَ بالاماسَ، الّذي نسمِّيه في حديثِنا اليوم أبًا للمجمعِ المسكونيِّ التّاسِعِ، لا بُدَّ من إِطلالةٍ على سِيْرَتهِ الشَّخصيَّة لاستكشافِ مُقَوِّماتِ هذه الشَّخصيَّةِ الفذَّةِ.
شخصيّة القدّيس
وُلِدَ القدّيسُ غريغوريوسُ في القسطنطينيّةِ عام 1296، ودرسَ الفلسفةَ، وتحديدًا، الفلسفةَ الأرُسطيّةَ، وَلمَّا بلغَ السَّادسةَ عَشْرَةَ من عُمرِهِ، حينَ قدَّمَ امتحاناتِهِ لهذه المادّةِ؛ فقالَ له العَالِمُ العظيمُ ثاودوروسُ ميتوخيتِس بحماسَةٍ: «يا بنيَّ، حتّى أرِسطو لم يكُن يستَطِيْعُ أن يُعبِّرَ عن أفكارِهِ بطريقةٍ أفضلَ».
درَس القدّيسُ غريغوريوس اللاّهوت في المعهد اللاّهوتيّ للكنيسةِ الأرثوذكسيّةِ. لم يكن المعهدُ مؤسّسةً حكوميّةً، لأنَّ الدَّير، ديرَ الشّركة، كانَ معهدًا لاهوتِيًّا. أصبح القدّيس غريغوريوسُ لاهوتيًّا،بامتيازٍ، في أحضانِ الدَّيرِ، من خلال النُّسكِ والحياةِ الرّوحيّةِ. عاش حياةً تقشُّفيَّةً نُسكيَّةً في جبلِ پاپيكيون، بين مقدونيا وتراقيا، وفي جبلِ آثوسَ، وفي بيريا. كان يقضي خمسةَ أيّامٍ في الأسبوعِ في العُزلة مُتنسِّكًا، وفي اليومَينِ الباقيَينِ، كان يشاركُ إخوتَه الرّهبانَ حياةَ الشَّركةِ الرّهبانيّةِ.
أصبح القدّيسُ غريغوريوسُ لاهوتيًّا عظيمًا في الكنيسةِ، لأنَّهُ كانَ لاهوتيَّ النُّسكِ والتّوبةِ، لا لاهوتيَّ التّعليم العالي في اللاّهوتِ بِنَيْلِهِ الإجازةَ والماجستير والدّكتوراه في هذا الاختصاصِ.
إسمحوا لي، أرجوكم أن أقول التالي: إنّه بِغَضِّ النّظرِ عن عددِ الشّهاداتِ الّتي ننالُها، فاللهُ لا يُؤهِّلُنا من خلالِها أَنْ نُصْبِحَ لاهوتيِّينَ. بنعمةِ اللهِ، إنّني حائزٌ على خمسِ شهاداتٍ جامعيّةٍ، إجازتَيْنِ وشهادتَي دكتوراه: دكتوراه في اللاّهوتِ ودكتوراه في تَاريخ الفلسفةِ. لِمَ أقول هذا؟ لِأُكرِّرَ ما أقولُه غالِبًا: كلُّ هذه الألقابِ والشَّهاداتِ لا تعني شيئًا، لا شيْءَ البَتّةَ، وحتّى أقلَّ من لا شَيْءٍ. ما أحتاجُه، كرجلِ إكليروس، هو بَريقٌ من نعمةِ الله. أحتاجُ القليلَ من نعمةِ الله لِأُلَبِّيَ متطلّباتِ خدمتي ومركزي، وأظنُّ أنّ زملائي الأجِلّاءَ في المسيحِ الّذين يخدمُون المذبحَ المقدّسَ، يوافقُنَنِي الرَّأيَ.
إذًا، استمرّ القدّيسُ غريغوريوس بالاماس بهذا اللاّهوت في تقليدِ الآباء القدّيسِينَ، كلاهوتيٍّ تقليديٍّ بامتياز. كان القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس جزءًا من سلسلةِ قدّيسِينَ لا تزالُ أسماؤُهم تلمَعُ في دُنْيانا حتّى يومِنا هذا ، بدأت معَ الرُّسُلِ، ثمّ الآباءِ الرّسوليِّينَ، بِدءًا من القدّيسِ أغناطيوسَ الأنطاكيِّ، فالقدّيسِ إيريناوسَ، والقدّيسِ كبريانوسَ، حتّى القدِّيسِ أثناسيوسَ الكبيرِ، ثم الآباء الكابادوكيِّينَ، كيرلّس الإسكندريّ، كيرلّس الأورشليميّ، وتتالَتْ هذه السّلسلةُ معَ القدّيسِ مكسيموسَ المعترفِ، وفوتيوسَ الكبيرِ في القرن التّاسِعِ، وتكلّلتْ في القرنِ الرَّابعَ عشَرَ مع القدّيسِ غريغوريوسَ بالاماس، ثمّ آباء الكولّيفادِس، وهدوئيِّي القرنِ الثَّامنَ عشَرَ.
من ناحيةٍ أخرى، كان القدّيسون فوتيوسُ وغريغوريوسُ بالاماس ومرقسُ الأفسسيُّ على خطٍّ مُتَوازٍ في نقلِ هذا التَّقليدِ الّذي وضعَ الآباءَ القدّيسينَ وأفكارَهم وحياتَهم في موضِعِ التَّصَدِّي لبِدَعِ المسيحيّةِ في الغربِ وانحرافاتِها. معَ ذلك، أصبحَ القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ معترِفًا بالإيمانِ، وقد سمح اللهُ بذلك كي يشدِّدَه. فقد اتُّهِمَ أَنَّهُ مُبتَدِعٌ ، وقيلَ :إنَّهُ هرطُوقيٌّ. هذِهِ كانتْ أَزْمَةَ القرنِ الرَّابعَ عَشَرَ.
نجد في حياةِ الكنيسةِ، بعدَ المجمعِ المسكونيِّ الخامسِ-السّادسِ (691-692)، أي بعد أواخر القرن السابع، أمثلةً كثيرةً. كان يُنظَرُ إلى القدّيسينَ على أنَّهم مُبتَدعٌون وهراطقةُ، لأنَّهم لم يكونُوا على اتّفاقٍ مع اللاّهوتِ السِّياسيِّ الّذي كان مُنتشِرًا بينَ الأساقفةِ واللاّهوتيّينَ، الّذينَ كانُوا يحاولون التّوفيقَ في الأمورِ كلِّها مع أصحابِ السُّلطةِ والنُّفوذِ، لِيُحقّقوا المصالحَ الأرضيَّةَ والوقتيَّةَ.
ففي سنة 1343، سُجِنَ القدِّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ في سجنِ القصرِ، وفي سنة 1344، حُكِمَ عليه بالحُرم! لقدْ سبقَ للمجامِعِ أنْ حكَمَتْ على القدّيسِ يوحنَّا الذهبيِّ الفمِ بالنَّفْيِ مرَّتَينِ (فكِّروا بالأمر، حتّى الذّهبيّ الفم الإلهيّ!)، حُكمَ عَلَيهِ بالنَّفْيِ وبقِيَ في مَنفاهُ حتّى مماتِه. كذلك، حكمَتْ مجامعُ مماثلةٌ على القدّيسِ غريغوريوسَ بالاماس لأنّه رَفَضَ أن يخدمَ مصالحَ ذوي السُّلطةِ، الكنسيِّينَ منهم والسِّياسيّينَ. لم يكن غريبًا، أيُّها الإخوةُ، أن تبرِّئَ المجامعُ، الَّتي تُعتَبرُ أرثوذكسيَّةً، المُذنِبينَ وتَدِيْنُ القدِّيسيْنَ. تكشفُ هذِه الظّاهرةُ، الّتي هي تشويهٌ للتّقليدِ، عن عَلْمَنَةِ الأُطُرِ الكنسيَّةِ، وهي سوفَ تستمرُّ طالَمَا أنَّ الخطيئةَ مستمرّةٌ، إلى جانبِ الارتدادِ الفظيعِ المُتَسَتِّرِ بلباسِ الإكليروس.
اسمحوا لي أن أضيف شيئًا: يسأَلُ البعضُ، وهذا ليس سؤالاً تافِهًا، لماذا لا يشاركُ النّاسُ العلمانيّون، الَّذين هم أعضاءٌ في جسدِ المسيحِ، في مجامعِ الكنيسةِ؟ لقد فرضَ الآباءُ القدّيسون ألّا يتعيّنَ على الكهنةِ ولا العلمانيّين أن يحضُروا المجامعَ، وذلك لِئلاَّ ينشأَ نقاشٌ حولَ سببِ حضورِ شخصٍ ما أو آخرَ. يشاركُ الأسقفُ في المجمعِ ناقلًا إليه الرَّأيَ المُطلقَ لأبناءِ أبرشيّتِهِ. فحين يُبدي كلُّ أسقفٍ رأيَ كنيستِهِ المحلّيّةِ، تُشارِك الكنيسةُ كُلُّها بشكلٍ غيرِ مُباشَرٍ. لكنّنا وصَلْنا إلى حالاتٍ، أيُّها الإخوةُ الأحبَّاءُ، حيث آراءُ الشّعبِ مُضادّةٌ لآراء الكهنةِ والإكليروس بشكلٍ عامٍّ، وهذه الآراءُ بدورِها مضادَّةٌ لآراءِ الأساقفةِ الَّذين يتّخذون قراراتِ المجامعِ بطبيعةِ الحالِ. هذا أمرٌ مؤسِفٌ، ومَدعاةٌ للبكاء. اسمحوا لي أن أتقدّمَ بتَواضُعٍ، وأنا جاثٍ، بطلبي إلى المجمعِ المقدّسِ، عسى أن يكونَ في مجمعِنا تجدُّدٌ آبائيٌّ، رسوليٌّ ونبويٌّ، وعسى أن يُصغي المجمعُ إلى صوتِ رعيَّتِهم، فسوفَ يأتي وقتٌ تدخلُ فيه الفوضى الّتي تحدثُ يوميًّا في الشَّوارعِ إلى الكنيسةِ. وما أن يتمّ الفَصلُ المُزمَعُ بين الكنيسةِ والدّولةِ، حتّى نُصْبِحَ أسوأَ من أتباعِ التّقويمِ القديمِ، بالمعنى السّلبيّ. وإن لمْ يستيقظِ الأساقفةُ، الّذين أكنُّ لهم كلَّ الاحترامِ، ويتوقّفُوا عن استفزازِ شعبِ اللهِ، فسوفَ تحصلُ أمورٌ رهيبةٌ في الأُطُرِ الكَنَسِيّة. لستُ نبيًّا، لكن اللهَ سمحَ لي أن أدرسَ علم التَّاريخ، وإنّني أتوقّعُ أنّ هذا ما سوفَ ينتهي الأمرُ بنا. والآنَ قد انتهيتُ من هذا الاستطرادِ.
أُطلِقَ سراحُ القدّيسِ غريغوريوسَ عام 1343. ومن عام 1347 إلى يومِ رقادِهِ عام 1359 كان رئيسَ أساقفة تسالونيكي. وفي عام 1368، كما ذكرتُ، انعقدَ مجمعٌ بطريركيٌّ، وتدخّلَ لأوّل مرّةٍ في التّاريخ، وأَعلَنَ قداسَتَهُ.
المجامعُ المسكونيّةُ
إنَّ المجمع المسكونيّ التّاسِع الّذي وردَ في عنوان المقالةِ هوَ صِلةُ الوَصلِ بينَنا وبين القدّيسِ غريغوريوسَ بالاماس. فعَبْرَ التَّاريخِ انعقدَتْ سَبعةُ مجامِعَ مسكونيَّةٍ، والمجمعُ المسكونيُّ هوَ المعيارُ الأهمّ للسّلطةِ الكنسيّةِ. بالنسبة إلينا، نحن الأرثوذكسَ، المجمعُ المسكونيُّ هو أهمُّ شكلٍ للسّلطةِ الكنسيّةِ. سلطتُنا ليست إنسانًا مثل البابا، الّذي هو أساسُ خلافِنا مع البابويّة. ألغى البروتستانت كلَّ شيءٍ، لأنّهم لم يريدوا الحفاظَ على أيِّ شيءٍ من تقليدِ الكنيسةِ، بل حَرَّفوه. استبدلَتِ البابويّةُ المجمعَ المسكونيَّ بالبابا وجعلَتِ المجامعَ المسكونيّةَ مؤسّسةً بابويَّةً، أجيرةً للمخطَّطاتِ البابويّةِ.
في الأرثوذكسيّةِ، المجامعُ المسكونيّة هي السّلطةُ الأعلى وسوف تبقى هكذا حتّى نهايةِ التَّاريخِ. المقصود هنا بكلمة "مسكونيّة" هو اجتماعٌ عامٌّ للكنيسةِ في أنحاءِ العالَمِ كلِّه. بحسب العالِم البيزنطيِّ اليونانيِّ، أو العالمِ الرُّوميِّ اليونانيِّ" إكسينوفوندوس" ، وعبارة "مسكونيّ”، تُشيرُ، أساسًا، إلى المسكونةِ، أي إلى العالَمِ (مثلاً، معلّمٌ مسكونيٌّ، أبٌ مسكونيٌّ، إلخ...) وبالتّالي، فالمجمعُ المسكونيُّ هو مجمعٌ للعالمِ كلِّهِ، ويعالجُ مسائلَ أساسيّةً في الإيمانِ والنِّظامِ في الكنيسةِ، ويَنعقدُ عندَ وجودِ أزمةٍ في جِسمِ الكنيسةِ، ما يعني أنّ الخلاصَ مُعَرَّضٌ للخَطرِ. عندئذٍ يعلِنُ فمُ الكنيسةِ، أي المجمعُ المسكونيُّ، الحقيقةَ الخلاصيَّةَ، باتّفاقٍ معَ الآباءِ، والرُّسُلِ، والأنبياءِ. على سبيل المثال، لدينا المجمعَانِ المسكونيّانِ الأوّل والثّاني في عامَي 325 و381، اللَّذان عالَجَا البدعةَ الآريوسيَّةَ والإشكاليَّةَ الثّالوثيّةَ. فحصَلْنا في عام 381 على اعترافِ الإيمانِ، المعروف بـ"دستورِ الإيمانِ" الّذي نتلُوه خلالَ القدّاسِ الإلهيِّ وخلال العديدِ من الخِدَم الأخرى. دستورُ الإيمانِ هو اعترافٌ بالإيمانِ الّذي يُخلّصُ الإنسانَ، ويقودُه إلى التَّأَلُّه، وقد نشأَ بسببِ الهرطَقاتِ الّتي انبَثَقَتْ من الآريوسيّةِ. إنَّهُ ليسَ كامل إيمان الكنيسةِ.
لقد قرأنا، يومَ الأحدِ الماضي، قسمًا من سينوذيكون الأرثوذكسيّة الّذي هُوَ تكملةٌ لدستورِ الإيمانِ. بدأَت صياغتُه في مجمعِ سنة 843، حين استُعيدَت الأيقوناتُ المقدّسةُ، وانتهَت في القرنِ الرّابعَ عَشَرَ، في زمن القدِّيس غريغوريوس بالاماس، وهو يحوي على جميعِ هرطقاتِ ما بعد سنة 843. سينوذيكون الأرثوذكسيّة هو امتدادٌ لدستورِ الإيمانِ. يقول كوراييس1، الّذي أرادَ إصلاحَ حياةِ اليونان: “أنا أقبلُ دستورَ الإيمان، إذن أنا أرثوذكسيٌّ!” بيد أنَّ البروتستانت والبابويّين يقبلُون دستورَ الإيمان، حتّى مع تغيير بسيط، لكنَّه بغايةِ الأهمّيّة، وهو إِضافةُ عبارة "والإبن” Filioque تحديدًا.
ما يميّزُ الأرثوذكسيّة هو امتدادُ دستورِ الإيمانِ وما يضمّ من نصِّ سينوذيكون الأرثوذكسيّةِ.
من المجمعِ المسكونيّ الثّالثِ إلى المجمعِ المسكونيِّ السَّابعِ عام 787، عالج قدّيسُونا الإشكاليّةَ الخريستولوجيّةَ. تبحث هذه الإشكاليّةُ في العلاقةِ بين طبيعتَي المسيحِ ومشيئتَيه، والّتي تُوِّجت بإشكاليّةِ تصويرِ اللهِ الكلمةِ في الأيقوناتِ. أيُمكنُ لله الكلمةِ، "الّذي تجسَّدَ من أجلنا ومن أجل خلاصنا”، أن يُصَوَّر في الأيقوناتِ؟ تصطدمُ هنا الرّوحُ اليونانيّةُ الّتي تقبلُ الصُّوَرَ بالرّوحِ الآسيويّةِ مع كلِّ ما يتأتّى منها بما يتعلّقُ بالنَّهيِ عن هذا التّصويرِ، خاصةً في العهدِ القديمِ. فكانَ نصُّ قرارِ الآباء القدّيسينَ، أو بالأحرى إعلانُهم (في المجمع المسكونيّ السّابعِ عام 787 ومجمعِ 843)، بما أنّ اللهَ الكلمةَ اتّخذَ كمالَ الطّبيعةِ البشريَّةِ، نفسًا وجسدًا، وبما أنّ المسيحَ هو إنسانٌ كاملٌ وإلهٌ كاملٌ، فيمكنُ تصويرُ اللهِ الكلمةِ في طبيعتِهِ البشريّةِ. تاليًا، يمكنُنا تصويرُ يسوعَ المسيحِ في الأيقوناتِ وإكرام طبيعتِهِ الإلهيّةِ من خلال طبيعتِهِ البشريّةِ. هذا إنجازٌ كبيرٌ للكنيسةِ وللرّوحِ اليونانيّةِ الّتي قدّمَتْ هذا التّقليدَ للتّعبيرِ عن الأرثوذكسيّةِ وتشديدِها وإعلانِها في أنحاءِ العالمِ كلِّهِ.
لو أنّ يسوعَ المسيحَ بينَنا اليومَ (بالطبع، لقد شاء أن يدخُلَ التاريخَ بِكَونِه الإله-الإنسان)، لَكُنَّا نقدرُ أن نصوّرَ شكلَه بجهازِ كاميرا فوتوغرافيّةِ أو فيديو، تمامًا كما يظهر بَينَنا. أُكرّرُ، هذا انتصارٌ عظيمٌ للأرثوذكسيّة وحلٌّ للمسألةِ الخريستولوجيّةِ.
وانعقدَ المجمعُ المسكونيّ الثّامن عام 879 في زمن القدّيس فوتيوس الكبير، وقالَ أستاذ العقائد المعروف يوحنّا كارميريس، في معهد أثينا اللاّهوتيّ، إنّ مجمع 879 في زمن القدّيس فوتيوس الكبير هُوَ آخرُ مجمعٍ عموميّ للكنيسةِ الأولى قبلَ الانشقاقِ الكبيرِ، وله جميعُ خصائصِ المجمعِ المسكونيِّ. حَكَمَ هذا المجمعُ على تَباعُدِ الغرب من خلال كلمة "والابن” (filioque)، المتعلّقةِ بانبثاقِ الرّوح القُدُسِ، لا من الآبِ فحسبُ، كما يقول المسيحُ في إنجيل يوحنّا 16:15 (الّذي من الآبِ ينبثق)، بل أيضًا "من الابن”.
اسمحوا لي أن أعلّقَ، في حديثي عن المسائلِ اللاّهوتيّةِ، أنَّها ليستْ مسائلَ للاّهوتيّينَ المحترِفين، بل أيضًا هي مسائلُ لكاملِ جسمِ الكنيسةِ، كما كان إيمانُنا في القرن التّاسِعَ عشَرَ قضيّةً عند ماكريانّيس الأُمّيّ. المسيحيُّ الأرثوذكسيُّ الّذي لا يسألُ ليتعلّمَ، ويفهم أمورَ الإيمانِ ليس أرثوذكسيًّا. لأجل هذا، العديد من البلدانِ الّتي تُسمِّيْ نَفسَها أرثوذكسيّة، منذ القرن التّاسِعَ عشرَ إلى اليومِ، تواجِهُ مسائلَ أخلاقيّةً، وأهلُها يعتقدون أنّ التَّعاطي معَ المسائلِ العقائديّةِ – بسببِ أخطاءِ ماكراكيس – يقودهم إلى التَّطرُّفِ. كلّا، يا إخوتي، بل بالتّواضعِ، بمخافةِ اللهِ، وبدعمِ شيوخِنا، آبائِنا الرّوحيّينَ، علينا أن نُثابرَ على فهمِ المشاكلِ الرّوحيّةِ وأهمّيّتها. لماذا أقول هذا؟
قال لي مرّةً أستاذٌ في جامعة تسالونيكي، في مؤتمر عام 1981 (فليكنْ ذكرُهُ مؤبّدًا): «لماذا يجبُ أن نجادِلَ ونُقارِعَ المسيحيّينَ الغربيّينَ من أجل كلمةٍ واحدةٍ؟» (أي عبارة “والابن”). فقدَّم له الأب جورج – فليُنِرْه اللهُ – حُجّةً ما زِلتُ أنادي بها حتّى اليوم. تحدّثتُ كيف يمكنُنا التَّجديفُ بكلمةٍ واحدةٍ فقط. هكذا نجدّفُ على الله، على مسيحِنا، على والدةِ الإلهِ الكلّيَّةِ القداسةِ، وعلى العديدِ من الأشخاصِ في كنيستِنا. إنّ الهرطوقيَّ، حتّى بكلمةٍ واحدةٍ، يقذفُ التَّجديفاتِ على اللهِ باستمرارٍ. فكيف يمكنُ، حتّى خلال القداديسِ الإلهيّةِ المُنتَقَصَةِ، المشاركة معَ الهراطقَةِ، عندما تنادي البابويّةُ بالأوّليّة والعِصمَة، الّتي هي فيضٌ من التَّجديفات على اللهِ؟ نحن فنرتّل لله بما يُرضيه، بكلمات قدّيسِينا، من دونِ أن نقولَ إننا أناسٌ أفضلُ من غيرنا. بينما هم يجدِّفون على الله باستمرارٍ بكلماتٍ باباواتهم ومَجامِعهم الكاذبةِ. كيف يمكنُ إذًا للشَّركةِ أن تحصلَ؟ تفهمون الآنَ أهمّيّة كلمة واحدة. إن فكّرتم بهذه الطّريقة، بِمعنى أنَّ كُلَّ انحرافٍ هرطوقيٍّ هو تجديفٌ على اللهِ، تفهمون عندئذٍ لماذا يرتعدُ الآباءُ القدّيسون عندما يسمعُون كلماتِ الهراطقةِ. لقد وصلَنا، وأتكلَّمُ عن نفسي، إلى درجةٍ من عدم الإحساسِ، بحيث نسمعُ تجديفات على اللهِ باستمرارٍ، ولا نهتمّ لذلك أبدًا. هذا موتٌ روحيٌّ، هذا تَخديرٌ روحيٌّ!
إنَّ مجمع عام 879 هو المجمعُ المسكونيّ الثّامنُ، الّذي أدانَ عبارة "والابن" وإضافتَها إلى دستورِ الإيمانِ، خاصةً عالَمُ الإفرنجِ تحديدًا وقيادتُه الَّذين أدخلُوا هذه الإضافةَ على دستورِ الإيمانِ.
أبعاد الشّرق والغرب:
لكن هناك أيضًا المجمع المسكونيّ التّاسِع. إنّه يشكّل المجامع الّتي انعقدَت في فترة ظهورِ المسألةِ المتعلّقةِ بالهُدُوئِيَّة. لم تكنْ تلك المسألةُ جِدالاً في موضوع الهُدُوئِيَّة؛ فقد علَّمنا الإفرنج أن نسمَّيها "جِدال الهُدُوئِيَّة”. لقد كانت تلك المسألة ظهورَ مقاومة ضدّ الهدوئيّين، الأرثوذكس تحديدًا، من قِبَل تحدّيات بابويّة وسكولاستيكيّة.
انعقدت هذه المجامِع في عام 1341، 1347 و1351، مع اختتامها بمجمع عام 1368، كما ذكرنا سابقًا. برزت ظُروف انعقاد هذه المجامع من المشاكل المُتَأتِّية من اصطدام تقليدَين، الشّرق والغرب. بالإضافة إلى ذلك، أصبح سكولاستيكيّو بيزنطيةَ، في رومانيا تحديدًا، مُلَيتَنين (Latinized) وأسهموا في تأجيج المشاكل. هؤلاءِ الأشخاصُ الّذين جلبُوا أخطاءَ بلادِ الانتشارِ إلى الشّرقِ الأرثوذكسيِّ، كما تعلمون، هم برلعامُ الكالابري وغريغوريوس أكِندينوس، أو بوليكِندينوس (أي “خطير جدًّا” بالّلغة اليونانيّة)، كما سمّاه تلميذُه.
جلب برلعام وأكِندينوس، مع أتباعٍ لهما، بِدعًا غربيّةً إلى الشّرق. كانت هناك مسيحيّة أخرى في الغرب حينئذٍ، قد غيَّرت جوهرَ المسيحيّة فيه من خلال العَلْمنَةِ، وقد وصلَتْ هذه العَلْمنةُ إلى ذُروتها بإنتاجِ الدَّولةُ البابويّةُ.
مع أيّ نوع من الباباوات نتكلّم اليوم؟ مع البابا الأسقف، مع أسقف ممتاز كما يُريد أن يُسَمّى– بهذا يقصد أنّه أسقف فوق جميع الأساقفة -، أو معَ البابا الملك والأَمبراطور ورأس الدّولة؟ إنّني أتساءَل عن أولئك الّذين يشاركون في الحواراتِ، متى يفهمون هذا؟ يحصل أمران: إمَّا أنهم لا يفهمون المشكلةَ – وهذا ما أريدُ أن أعتقدَ، إذ لديهم مُبَرِّر أفضل منّي – أم أنّهم غيرُ مُبالين ويعتبرون أنّ هذهِ الأمورَ غيرُ مهمّة، لأنّهم مُنخَرِطون في مشاكلَ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ وديبلوماسيّةٍ.
لقد تشوَّهَ الغربُ وكلّ المسيحيّة إلى درجة أنَّ دوستويفسكي نَفسَهُ قال في فرصتَين، في "الإخوة كارامازوف" و"الأبله" في زمن المخابرات الملحدة في روسيا: أستطيعُ التّكلّمَ مع الملحِدين، لأنّني أعرفُ أفكارَهم ودَوافِعَهم، وبما يؤمنُون وما لا يؤمنُون. لا أستطيع التّكلّم معَ البابويّة، لأنّ البابويّةَ شوَّهَتِ الإيمانَ، «إنَّها تقدِّمُ لي مسيحًا غيرَ موجودٍ؛ إنّها تقدّم لي المسيحَ الدَّجَّالَ.» هكذا يقول فيودور دوستويفسكي.
إذًا، أدخل الغربُ ما أدخلَ، ضارِبًا جوهرَ الأرثوذكسيّة، أي الهُدُوئِيَّة. الهُدُوئِيَّة هي نُسكٌ، روحانيّةٌ عَمَليَّةٌ، رافَقَتِ البشريّةَ منذ بدايةِ الخليقةِ. تأتي استعادةَ آدمَ وحوّاءَ من خلال الحياةِ الرُّوحيّةِ، مثلما كانَ السّقوطُ نتيجةَ رفضِ الحياةِ الرُّوحيّة (الحياةِ في الرّوحِ القُدُسِ). الهُدُوئِيَّة تُزيلُ خطايانا، تُزيل مأساتَنا، بتنقيةِ القلبِ، باستنارةِ القلبِ بواسطةِ نعمةِ اللهِ غير المَخلوقَةِ، وبالتَّأَلُّه. الهُدُوئِيَّة هي هويّة القدّيس غريغوريوس بالاماس اللاَّهوتيّةُ. إنّها مستمرّة وتُعبّر عن تعليمِ الآباءِ القدّيسينَ، بيد أن القدّيس غريغوريوس بالاماس فهمَ المسألةَ على أنّها تَباعُدُ الغربِ عنِ الحياةِ الرّوحيّةِ الحقيقيّةِ. لقد كان غربًا يريد سكولاستيكيّونا أن يُحاوِروه وأن يكونوا رفاقًا له.
لاهوت الهُدُوئِيَّة:
في هذه النقطة، يكمل القدّيس غريغوريوس بالاماس عمل القدّيس فوتيوس الكبير. أوّل مَن أدرك تباعُدَ الغربِ المسيحيِّ– أنَّه أصبحَ شيئًا آخرَ، مختلِفًا عن مسيحيّةِ الآباءِ – هو القدّيس فوتيوس، في كتابِهِ المشهورِ "ميستاغوجيّة الرّوح القُدُس"، الّذي لا يزال حتّى اليوم مصدرًا لتعاليم جميع اللاّهوتيّين وكتاباتِهم عن الرّوحِ القُدُسِ. أكملَ القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس هذا الطَّريقَ. فمعَ تحدّيات برلعام الكالابري، وجد تباعُد اللاّهوت الغربيّ الكامل. ما جوهرُ تعليم القدّيس غريغوريوس، الّذي أكملَ تقليدَ الآباء القدّيسِينَ؟ يلخِّص القدّيس غريغوريوس بالاماس الآباء القدّيسين عبرَ جميعِ الأزمنة، ويُعيد إعلانَ هذا الإيمانِ والّتعبيرَ عنه بالوسائلِ المتوفّرة لَهُ في أيّامه. أعلن القدّيس غريغوريوس بالاماس الأرثوذكسيّةَ ذاتها، بلغتِهِ الخاصَّةِ، بطريقتِهِ الخاصَّةِ، لكنّه بقيَ أمينًا لاعتراف الآباء اللاّهوتيِّ في الأزمنةِ السّابقة. أوّلاً، يميّز بينَ جوهرِ اللهِ وقوَاهُ، هذا ما يسمّيه "التّمييزَ بين الإلهيِّ وغيرِ المَوصوفِ"، الّذي هو شأن التَّأَلُّه.
إنّ رفضَنا التَّمييز بينَ الجوهرِ والقِوى، كما تفعلُ السّكولاستيكيّةُ، لاهوتُ البابويّةِ تحديدًا، تصبحُ مسألةُ الهُدُوئِيَّةِ هامِشيَّةً. كيف نَتَأَلَّهُ؟ إنَّ قصد كلِّ كائنِ بشريّ ومصيرَه، لا المسيحيّين فقط، هو التَّأَلُّه. «ٱلله ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1 تيموثاوس 2:4). "معرفة الحَقّ" هي التَّأَلُّهُ، أو"الاتَّحاد بنعمة اللهِ غيرِ المَخلوقَةِ". أمّا الاتّحاد بجوهرِ اللهِ فمستحيلٌ. نحن نتّحدُ بنعمةِ الله ِغيرِ المخلوقةِ وبِقواه، وإذا كانَت هذه القوّةُ غيرَ موجودةٍ، أو إذَا كانت مخلوقَةً – يَفتَرِضُ تجديفَ "والابن" أنَّ النِّعمةَ مخلوقَةٌ، وهكذا يُعطي الله قِوًى مخلوقَةً -، فالخلاصُ،إِذًا، مستحيلٌ.
يترتّب على القوةِ المَخلوقةِ أنْ يكون لها بدايةٌ ونهايةٌ. كيف يمكنُ لما له بدايةٌ ونهايةٌ أن يخلّصَ؟ لا بدايةَ ولا نهايةَ لقوّةِ الثّالوثِ القدّوسِ. إنّها من دون بدايةٍ ولا نهايةٍ، مثلَ جوهرِ اللهِ. إذًا، إن كنَّا لا نستطيعُ الاشتراكَ في جوهرِ اللهِ، فنحن نَشتركُ في قواه. نعمةُ، وقوّةُ، وملكوتُ (أو مُلكُ) اللهِ، وقوةُ وملكوتُ (أو مُلكُ) السّمواتِ، كلّ هذه تدلُّ على القِوى غيرِ المخلوقةِ المنبثقةِ من الثَّالوثِ القدُّوسِ.
يَرِدُ في أحدِ النّصوص الآتيةِ من الأُطُر الهُدُوئِيَّةِ توضيحٌ عن نظرَةِ البابويّةِ في الغربِ إلى اللهِ. لا أستطيعُ تحديدَ ما إذا كان هذا النّصُّ منسوبًا إلى القدّيسِ غريغوريوسَ بالاماس، على الرّغْمِ من عدَمِ أَهمّيّةِ من هو كاتبُ النّصِّ. ينظرون إلى اللهِ كدائرةٍ شمسيَّةٍ في السَّماءِ، لكنَّ أشعَّتَهُ لا تصلُ إلى الأرضِ. هذا يعني أنَّ وجودَ هذه الشّمسِ وعدمَ وجودها هُوَ سَيَّانٌ (الشَّيْءُ نَفْسُهُ)، بمَا أنّ هذه الشّمسَ لا تعطي الدِّفْءَ والحياةَ للأرضِ، فأشعّتُها لا تصلُ إلى العالَمِ. إلهُ الأرثوذكسيّةِ، إله الآباءِ القدّيسينَ، هو شمسٌ ترسِلُ أشعّتَها وتُعطي الحياةَ لكلِّ الأرضِ ولكلِّ الخليقةِ من خلالِ الرّوحِ القُدُسِ. فنحنُ نسارِع إلى الصُّعودِ من أسافِلِ الأرضِ، من حياةِ الخطيئةِ، من سقطَتِنَا، إلى سطحِ الأرضِ، لِنَشتَرِكَ في الأشعَّةِ المُعطيةِ الحياةَ، لا أشعّةَ الشَّمسِ الحِسِّيَّةَ، بل إلى الشَّمسِ الفائقةِ الطّبيعةِ"شمسِ العدل:المسيح إِلهِنا".
لأجل هذا، انحدرَ الغربُ من الرُّبوبِيّة (Deism) إلى "الله ماتَ". الرُّبوبِيّة تعني أنّ اللهَ هو الخالِقُ، لكنّه ليسَ سيّدَ العالمِ (Deus creator, sed non gubernator). هذا يعني أنّه لا يهمُّ ما إذا كانَ اللهُ موجودًا أمْ غيرَ موجودٍ. لأجل هذَا، انخرَطَ الغربُ في مشاكلَ اجتماعيّةٍ وأخلاقيّةٍ. هذا لا يعني أنّنا لا نواجهُ، نحنُ، هذه المشاكلَ، لكنّها ليسَت أولويَّةً رئيسَةً في إيمانِنا الأُرثوذكسيّ. إنّهم يتعاطون معَ النّتائجِ من دونِ النَّظر إلى الأصلِ، إلى الجَوهرِ. هكذا وَصَلَ الغربُ إلى الرُّبوبِيّة، إلى موتِ اللهِ.
في الخمسينات، في أميركا وفي أوروبّا لاحقًا، تكلَّمَ العالمُ اللاّهوتيُّ على "موتِ اللهِ"، وصُنِّفَ اللاّهوتُ أنّه "ما بعدَ موتِ اللهِ". ما المقصود بـ"موتِ اللهِ"؟ لا يعني أنَّ اللهَ نَفْسَهُ قد ماتَ. لم يكترثُوا بِهذا؛ فَوجودُ إِلهٍ أو عدمُهُ لا يَهُمُّهم أو يعني لَهُم شَيْئًا. موتُ اللهِ يعني أنّ اللهَ لا علاقةَ لَه بِحياتنا. لا يقدرُ اللهُ أن يخلِّصَنَا. هل تفهمُون إذًا، لا التّجديف فحسبُ، بل مقدار السّخافةِ الكامِنةِ خلفَ هذه الأفكارِ؟ عندَما تكلّم القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ على التّمييزِ بين جوهرِ اللهِ وقِوَاه ، كما تكلَّم القدّيس باسيليوسُ الكبيرُ وغيرُه من الآباء القدّيسينَ، فقد خلَّصَ الإيمانُ، بإمكانيّةِ النَّاسِ المُعاصِرين، أن يُحقّقُوا التَّأليهَ.
يتكلّم أيضًا على جوهرِ النُّورِ الثّابوريّ. طُرِحت مسألةُ النّورِ الثّابوريّ في نقاشاتِه معَ السّكولاستيكيّينَ ومعَ برلعامَ. ما هذا النّور؟ هل هو مخلوقٌ أم غيرُ مخلوقٍ؟ يقول القدّيسُ غريغوريوسُ إنَّ قوى الله غيرَ المخلوقةِ هي نورٌ غيرُ مخلوقٍ في سيناءَ وثابورَ والعنصرةِ. والهرطقةُ هي الّتي صنعَتْ هذه المشاكِلَ كلَّها.
كانَ برلعامُ الكالابري يُعتَبَر حكيمًا. لقد درسَ الرّياضيّاتِ والفلسفةَ في روما. كان إنسَانَوِيًّا. من أجل فهمِ هذه المسألةِ، يمكنكم الاطِّلاع على دراسة صديقي الحبيب، والمشارِك في الجهاد، الأب ثاودوروسَ زيسيس، الأستاذِ المتقاعدِ في تسالونيكي، في مجلّة Orthodoxos Typos. في ثلاثةِ مقاطعَ، يحلّل ما إذا كان القدّيسُ فوتيوسُ الكبيرُ إنسانويًّا، كما يحلو للعديد من الفلاسفةِ أن يعرّفوا عنه. لنْ أتطرّق إلى هذا الموضوعِ لأنّني أريد أن أنهيَ حديثي.
لقد قَدِمَ برلعام الكالابري من منطقة اليونان الكبرى في كالابريا. قَدِمَ إلى القسطنطينيّة وأصبح أستاذًا، ونال حَفاوةً كبيرةً. بالفعل، حتّى إنّه كان ممثّلَ الأرثوذكسيّةِ في أحد المجامعِ في بداية القرن الرابعَ عشَرَ في أفينيون (Avignon) في فرنسا، حيث كانَ يتمّ نفيُ البابوات ذوي المَشاكل. لقد شخَّص القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس طريقةَ تفكيرِ برلعامَ الهرطوقيّةَ فورًا. من أجل فهمِ ما يعني أنْ يكون المرء قدّيسًا وأبًا للكنيسةِ، أعطى أحدَ الرّهبانُ القدّيسَ غريغوريوسَ نصًّا كتبه برلعام يتعلّقُ بالرّوحِ القُدُسِ، وكانَ النّصُّ مُناهِضًا لعبارة "والابن”. بسبب هذا، اعتقدَ الجميع أنّه قمّةٌ في الإيمانِ المسيحيِّ والتّقليدِ. قالَ القدّيسُ غريغوريوسُ، بعدَ قراءَتِهِ لبِضعةِ أَطُرٍ:" إِنَّهُ نَصٌّ هرطوقيٌّ" .
على الرَّغمِ منْ أَنَّ برلعامَ قدْ قدَّمَ نفسَه على أنّهُ مُناهِضٌ للبابويّةِ، فإنّ الطّريقة الّتي اتّبَعَهَا، أظهَرَتْهُ مُشارِكًا في سقوطِ البابويَّةِ من خلالِ الفلسفةِ السّكولاستيكيّة. مُستنِدًا في فِكرِهِ العقلِيِّ إلى القياساتِ (syllogism) البشريّةِ، لا إلى إعلانِ اللهِ بيسوعَ المسيحِ في العهدَين القديمِ والجديدِ ومن خلال آباءِ الكنيسةِ. فبرلَعامُ يرى أَنَّ الفلسفةَ تملكُ صِفَةً خلاصِيَّةً، أو مكانَةً خلاصِيَّةً، وقدْ سَعى إلى فَلْسَفةِ الإِيمانِ، مُؤَكِّدًا أنَّ المَرْءَ يَخلُصُ إِذا كانَ فيلَسُوفًا .
هذه "نخبويّةٌ" في الإيمانِ، في الخلاصِ. فَرَدَّ القدّيسُ غريغوريوسُ أنَّ إلهَ جميعِ الشُّعوب يريد للجميعِ أن يخلصُوا، متعلِّمِينَ أم أُمِّيِّينَ. أمَّا نحن، فلديْنَا تعليمٌ مختلفٌ في قلوبِنا، "تعليم ربِّنا ومشورتُه". نحن لا نتَّكلُ على الكتاباتِ البشريّةِ. أإستوعَبْتُمُ الآنَ سَبَبَ شَجبِيْ، في حديثي سابِقًا، أَنَّ شهاداتي الّتي نِلتُها بنعمة الله، لا تعني شيئًا، بل أقلّ من لا شيء في أمورِ الخلاصِ.
إنَّ نعمةَ اللهِ وانفتاحَ قلوبِنا لنعمتِهِ هي الّتي تجلُبُ الخلاصَ، لا الكتاباتُ، لا شهاداتُ المعرفةِ. يمكن لكلِّ هذه أن تكونَ مُفيدةً في الأمورِ العَمَليَّةِ، كأنْ يكونَ المرءُ واعظًا أو خطيبًا مُفوَّهًا، أو أنْ يكون كاتبًا بارِعًا، ولكن، أحيانًا، تُصْبِحُ هذه المُؤَهَّلاتُ سَبَبًا لِسِقُوطِنا؛ لأنّ "العِلْمَ يَنْفُخُ والمحبَّةُ تبني" (1 كورنثوس 8: 1) فإِذا أسَّسَ الإنسانُ نَفْسَهُ على المعرِفَةِ الأرْضِيَّةِ يُصبِحُ مُتَبَجِّحًا.
بهذا أضحى القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس مدافعًا عن الرّهبنةِ، رهبنةِ التَّقليدِ الآبائيِّ، الّتي حاربَها برلعامُ. لقد فقدَ الغربُ الأصالةَ الرهبانيّةَ، مثلما فقدَ التّكلّمَ الحقيقيّ باللاّهوتِ. إنّ التكلُّمَ الحقيقيَّ باللاّهوتِ يمرّ في الحقيقةِ والممارسة النُّسكيّة، أي أنّ اللاّهوت هو ثمرة النُّسك الّذي يقدّم الإنسان إلى نعمة الله.
ليس اللاّهوت أمرًا فكريًّا. عندمَا كنتُ أدرسُ في الغرب، تعلّمتُ عبارة "tavolo da lavoro" ، وتعني"عملُ الطّاولةِ أو المكتبِ". هذا ليس لاهوتًا. يولد اللاَّهوت في داخلِ قلبِ الإنسانِ باستنارةِ نعمةِ اللهِ. وإلّا سوفَ نكتب نصوصًا جيّدةً، لكنّها لنْ تقودَ إلى اللاّهوتِ، لأنّها ليسَتْ ثمرةَ خبرةِ الرّوحِ القُدُسِ.
القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس هو لاهوتيُّ النّعمةِ الإلهيّةِ. النِّعمةُ الإلهيّةُ، كما يقول، هي غيرُ مخلوقَةٍ، وليسَتْ مخلوقةً، gratia creata. الأصالةُ تكمُنُ في المؤلَّهِ، لا في النّصوصِ. لقد أُثبِتَ هذا التعليم أوَّلًا بواسطةِ لاهوتيّي آسيا الصغرى، وقد أصبحَ أبًا للكنيسةِ في أوروبّا الوسطى، إنّه القدّيس إيريناوسُ أسقفُ ليون، في القرن الثاني، الّذي قالَ:"إِنَّ الأصالةَ في الكنيسةِ لا يمكنُ أن تتوافرَ في نصوصٍ، بل في المؤلَّهِينَ، القدّيسينَ". هذه هي الأصالةُ، أَصالةُ الأنبياءِ، الرُّسُلِ، الآباءِ، والأمّهاتِ عبرَ العصورِ كلِّها، أولئك الّذينَ وصلُوا إلى التَّأَلُّهِ. إذًا، لاهوتيُّو الكنيسةِ هم معاينُو اللهِ، وقد سمّاهم أنبياءُ العهدِ القديمِ "رائينَ" (جمع رائي)، حسب الاسم العبريّ Chozeh، الّذي يعني "الّذي يعاينُ رؤيا". ماذا يرى الأنبياءُ والرّاؤُونَ؟ نعمةَ اللهِ غيرَ المخلوقَةِ. (لزميلنا في الجهاد الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس، كتابٌ مهمٌّ في هذا الموضوعِ، عنوانه "الرّائي" The Seer.) إذًا، اللاّهوتيُّون هم راؤُونَ، معاينُو اللهِ. اللاّهوتيُّون هم الّذِينَ يرَون النُّورَ غيرَ المَخلوقِ، الّذين يَصِلون إلى مُعاينةِ اللهِ.
أمرٌ آخر، بِعَكسِ برلعام َالَّذي سعى لفلسفةِ الإيمانِ، وشدّدَ، بِخاصّةٍ، على المعرفةِ الفلسفيّةِ كوسيطٍ لخلاصِ البشريّةِ، كانَ القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ أسقفًا ذا تعليمٍ حكيمٍ. لقد نِلنا تعليمَ الحكمةِ العالميّةِ في المدارسِ، بيد أنّنا ننالُ تعليمَ الحكمةِ الدّاخليَّةِ من الجهادِ الرُّوحيٍّ. هذا ما ورد في سينوديكون الأرثوذكسيّةِ، عند الحكمِ على يوحنّا الإيطاليِّ وغيرِه من المُتَحايِلينَ على الإيمانِ. تقول الجملة الشّهيرة: «الَّذين يطالعُون التّعاليمَ اليونانيّةَ ولا يتهذَّبون بها لأجلِ الأدبِ فقط، بل يتبعون آراءَهم الباطلةَ ويصدّقونها كحقيقةٍ، فليكونوا مَفرُوزينَ! (أناثيما).» ليست الأناثيما لعنةً، كما يظنّ البعض. "أناثيما" تعني الفَرز. لا ينتمي المفروزُ إلى جسدِ الكنيسةِ، علينا أن نهتف بِحَقٍّ: «لجميع الهراطقةِ، أناثيما!» الكلماتُ لا تخلِّصُنا. تكمنُ المشكلةُ في التّفكيرِ في أنَّ دراسةَ الفيزياءِ وعلمَ الطّبيعةِ الفلكيّةِ يمكن أن تخلّصَ الإنسانَ. التّعليمُ البشَرِيُّ شيءٌ (كما حدّده القدّيسُ غريغوريوسُ اللاّهوتيُّ في القرنِ الرَّابعِ)، والخلاصُ وأبديَّتُنا شَيْءٌ آخرُ. يميّز القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس بين حكمتَيْنِ، بين مصدَرَيْنِ للمعرفةِ، كجميعِ الّذين يتبعُون تقليدَ القدّيسِ بولسَ الرَّسولِ والرَّسولِ يعقوبَ أخي الرَّبِّ، حتّى إفجانيوس فولغاريس. يسلّم هذا التقليد بأنّه يمكنُ الحصولُ على الإعلانِ. يسلّم بأنَّ الإعلانَ الإلهيَّ هو كلمةُ الله الحقُّ. سوفَ أخبرُكُم بشَيْءٍ سيكونُ لاذِعًا للبعضِ منكُم. نقول عادةً، إنَّ الكتابَ المقدّسَ هو كلمةُ اللهِ. ليس الكتابُ المقدَّسُ كلمةَ الله، لكنّه تدوينٌ لإعلان اللهِ في قلوبِ القدّيسينَ، والأنبياءِ والرُّسُلِ. لا يتواصلُ اللهُ معَنَا بلغةٍ بشريّةٍ. لا يتواصلُ اللهُ بالنُّصوصِ. لكنَّ اللهَ يتواصَلُ من خلالِ نورِه غيرِ المخلوقِ في قلبِ الشَّخصِ الّذي يبلغُ درجةَ تقبُّلِ نعمةِ اللهِ. إذًا، الكتابُ المقدّسُ، بِحَدِّ ذاتِه، ليسَ كلمةَ اللهِ، لكنّه "كلماتٌ عن كلمةِ اللهِ" (حسب الأب يوحنّا رومانيدس). إنّهُ يفترضُ إعلانَ ما دُوِّنَ فيه، ما كُتِبَ في الكتابِ المقدَّسِ. أرجو أن تفهمُوني في هذِه النّقطةِ. هذا ما يقودُنا القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس إليهِ. نحن نتحدَّثُ باستمرارٍ أنّ الكتابَ المقدّسَ هو كلمةُ اللهِ، بيد أنَّه، حقيقةً، هو "كلماتٌ عن كلمةِ اللهِ". كلمةُ اللهِ هي تجلّي نعمةِ اللهِ في قلوب الأنبياءِ، والرُّسُلِ، والقدّيسينَ.
خاتمة:
أَيُّها الإخوةُ الأحبّاءُ، إنَّ مجامعَ القرنِ الرَّابعَ عشَرَ قد صَاغَتْ لاهوتَ النِّعمةِ الإلهيَّةِ. يعترِفُ التَّقليدُ الأرثوذكسيُّ بهذِه المَجَامعِ على أنَّها المجمعُ المسكونيُّ التّاسِعُ، وقد حصلَ الاعترافُ عندَ جميعِ الأرثوذكسِ من قِبَل لاهوتيِّينَ معروفينَ. هذا المَجمَعُ، مثلَ المجمعِ المسكونيِّ الثَّامن عام 879، يميّز الكنيسةَ الأرثوذكسيّةَ، عن المسيحيّةِ في الغربِ، في ثباتِها الآبائيِّ. إذًا، لاهوتُ القدّيسِ غريغوريوسَ بالاماس هو ثمرةُ وجودِ الرُّوحِ القُدُسِ في قلبِهِ المُستنيرِ بالرُّوحِ القُدسِ، وهو أَبُو المجمعِ المسكونيِّ التّاسِعِ.
بالتالي، يتطلّبُ فهمُنا للقدّيسِينَ، كالقدّيس غريغوريوسَ بالاماس، أن نقبلَ لغةَ القدّيسينَ. لغةُ القدّيسينَ هي تعبيرٌ عن التّقليدِ الأرثوذكسيِّ. أُنهي حديثي بهذِهِ الخواطرِ وأُصلّي أنْ يرافقَنا القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ في حياتِنا. فليكُن ما تبقّى من ميدانِ الصَّومِ الكبيرِ صالحًا لكم، وقيامةً مجيدةً للجميعِ!
1. أدامانتيوس كوراييس (1748-1833) هو مفكّر وكاتب يونانيّ اعتقد أنّ التعليم هو السَّبيل لنقل الحضارة الإغريقيّة إلى الشعب اليونانيّ المعاصر (المترجم).
https://www.johnsanidopoulos.com/2015/03/saint-gregory-palamas-father-of-ninth.html
https://www.johnsanidopoulos.com/2015/03/saint-gregory-palamas-father-of-ninth_11.html
https://www.johnsanidopoulos.com/2015/03/saint-gregory-palamas-father-of-ninth_12.html
آخر المواضيع
القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماسُ، أبو المَجمَعِ المَسكونيِّ التّاسِع
الفئة : دفاعيّات
الإكليروس المسكونيّون والمسيح الدجّال
الفئة : دفاعيّات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني