ماذا يعني حقًا أن تكون إنسانًا روحانيًّا؟
ماذا يعني حقًا أن تكون إنسانًا روحانيًّا؟
الميتروبوليت أثناسيوس أسقف ليماسول
نقله إلى العربيّة جورج الدغل
الناس الروحانيّون هم أناسٌ يتوبون. إنَّ شعب الله هو الشعب الذي يعرف أن يتوب كلّ يوم. فهو يرى سَقْطَته وضعفه، لكنّه لا ييأس، ويضع رجاءه في الله.
في مسيرة حياتنا، نواجه كلّ يوم تجاربَ متنوّعة ومختلفة. هذه التجارب، إلى جانب ما تحمله من إيحاءات وصعوبات، تؤدي بنا غالبًا إلى السّقوط في الخطيئة. وهذا أمرٌ يواجهه الكلُّ من دون استثناء. نحن أيضًا، أبناء الكنيسة، الذين نجاهد ونسعى لأن نكون مُلْكًا للرّب، نواجهُ حقيقةَ سقوطنا يوميًّا، بل في كلّ لحظة تقريبًا. لا نظنَّنّ أنّ الخطيئة هي فقط خطيئة جسديّة، أو جريمة، أو سرقة. في كثيرٍ من الأحيان، قد يكون السّقوط مجرّد كلمة بسيطة، نظرة عابرة، أو حتّى حركة نفسيّة أو جسديّة بسيطة. إنّ السّقوط أمامنا.
وهنا يكمُن سرٌّ عظيم: إنّ الطريق الذي يقودنا إلى الله له عدوّ قويٌّ وماكرٌ يُسمّى اليأس، والفتور، وفقدان الرجاء. وهو عدوّ ماكرٌ، خفيٌّ، دقيق، غير مَحسوس، يصعب ملاحظته لأنّه غالبًا ما يكون ممزوجًا بالتواضع. نقول مثلًا: «أنا إنسانٌ خاطئٌ، لستُ مستحقًّا لنعمة الله!»، وبالتالي، نقول إنّنا بحاجة إلى ذهنٍ متّضعٍ. لكن في الوقت عينِه، إذا تجاوزت هذه الأفكار قدرتنا الرّوحيّة في التّمييز، فيمكن أن تسحقنا. يمكن لهذا العدو أن يدمّر قوّتَنا النّفسية، فلا نستطيع أن نفعل شيئًا. إنّه فخٌّ شيطاني، كما كان يقول القدّيس بايسيوس الأثوسيّ، وهو يقبض علينا بشدّة في أيّامنا وعصرنا.
ثمّة ظاهرةٌ غريبةٌ تحدث في يومنا هذا: يتّسم الإنسان المعاصر بحساسيةٍ مُفرِطة. وبينما نعيش في عالم قاسٍ، وننشأ في ظروفٍ صعبة ونواجه مواقف كثيرة قاسية، إلّا أنّه في مرحلةٍ ما، قد نكتسب حساسيّةً غالبًا ما تتحوّل إلى ضعفٍ. سوف يجعل الشيطانُ الإنسانَ الحسّاسَ أكثر حساسيّةً، حتّى ينهار تحت وطْأة هذه الحساسيّة المُفرِطة، ويُحبَط، وييأس، ويفقد الرجاء، لأنّه يرى ضعفَه كلّ يوم.
يسألني البعض: «ما هو أصعب شيء في الحياة الرهبانيّة؟» ربما كانوا يتوقّعون منّي أن أقول إنّ أصعب شيء هو أن تستيقظ في الصّباح الباكر، أو أن تعيش حياةً نسكيّة، أو أن تتغرّب عن الأهل، أو أن تنكر ذاتك. لكن لا، ليس هذا هو الأصعب. بالطبع هذه الأمور صعبة، لكنّها ليست بتلك الصّعوبة المستحيلة، لأنّ النّعمة الإلهيّة تساعدك على التغلّب عليها. في الحياة الرّهبانية، وفي الحياة المسيحيّة عمومًا، أصعب شيء هو عندما تُصعَق برؤيةِ نفسكَ على حقيقتِها.
ندخل الكنيسة، ندخل الحياة الرّهبانية، وتتكوّن في أذهاننا، من دون قَصدٍ منّا، صورةٌ لأنفسنا بأننا أبناء الكنيسة. نصلّي، نصوم، نعترف بخطايانا، نقرأ، ونمارس النّسك- نقوم بأمورٍ كثيرة! لكن فجأةً نرى أنّنا نسقط في خطايا كثيرة ونخوض صراعاتٍ روحيّة، وأنّ هناك أهواء رهيبة تتحرّك في داخلنا: الحقد، الحسد، الكبرياء، المكر، الشّهوات الجسديّة، التجديف، وأهواءٌ أخرى لا تُحصى ولا تُعَدّ، لا نستطيع حتّى تسميتها أو السّيطرة عليها أو تفسيرها.
غالبًا ما نكون غير قادرين على فهم ما يحدث في داخلنا. وعندما نمرّ ببعض الاضطرابات، كما تضطرب حركة الطائرات عندما تمرّ بالمَطَبّات الهوائية، قد نسأل أنفسنا: «كيف أفعل شيئًا كهذا؟ كيف يمكنني أن أسقط إلى هذا الحدّ؟ لماذا لديّ أفكار كهذه؟ لماذا أشعر بهذه الأهواء تتحرّك فيَّ حتّى عندما أكون في الكنيسة؟». وإذا سقطنا في الخطيئة من جرّاء أفعالنا، فحينئذٍ تجتاحنا التجربة الكبرى: «لماذا أقع في هذه الخطيئة؟»، وهنا نحتاج إلى قوّة عظيمة لننهض مرّة أخرى. نحتاج إلى قوّة عظيمة لنقول: «أنا إنسان، وهذه هي الطبيعة البشريّة: متقلّبة، ضعيفة، وعاجزة عن الوقوف بمفردها، هذه هي طبيعتي. غير أنّني لا أثق بنفسي، بل أضع رجائي في الله».
فأنا أضع رجائي في الله، وليس في قوّتي أو فضائلي. ورغم أنّ الأمر يبدو بسيطًا، إلّا أنّه من الصّعب تطبيقه عمليًّا. لماذا؟ لأنّ هذه هي طبيعة الأمور. وكما قلتُ سابقًا، فإنّ الله يسمح لنا أن نبلغ إلى نقطة روحيّة لا نحظى فيها بأيّ سنَدٍ. والسبب في ذلك هو أنّ السَّنَد الأخير هو ذاتُنا الداخليّة، فغالبًا ما نسمع أنّنا بحاجة إلى اكتساب الثقة بالنّفس - أن نؤمن بأنفسنا وبقدراتنا.
تأتي اللّحظة التي لا تستطيع فيها أن تثقَ في نفسك أيضًا، عندما تنظر حولك فلا ترى شيئًا أو أحدًا. لا تشعر بأيّ قوّة داخليّة ولا يوجد بداخلك شيء يمكنك التمسّك به. تتطلّع إلى الله لترى ما إذا كان موجودًا، لكنّه غائب. نمرّ بفترةٍ كهذه نشعر فيها بغياب الله، وهذا جزء من الحياة الروحيّة. ننظر في كلّ مكان ولا نرى شيئًا - لا الله ولا القدّيسين ولا الملائكة. لا نشعر بالراحة مع الآخرين ولا مع أنفسنا. كلّ شيء فارغ. يبدو الأمر كما لو أنّنا نسقط في هاوية ونريد أن نتمسّك بشيء، لكن ما من شيء نتمسّك به.
ففي هذه الحالة يظهر لنا سندٌ، شيءٌ نتمسّك به، حبلٌ يرميه الله علينا بطريقة غير منظورة. هذا ما يسمّى التوبة، الشّعور بالتوبة. إنّها سمةٌ من سمات الحياة الروحيّة. لا تظنّوا أنّ الناس الروحانيّين هم أناسٌ فاضلون. كلّا! الناس الروحانيّون هم الذين يتوبون. شعب الله هو الذي يعرف أن يتوب كلّ يوم. فهو يرى سقطته وضعفه، لكنّه لا ييأس ويضع رجاءه في الله.
مترجَم عن:
آخر المواضيع
رسالةٌ من أبٍ روحيٍّ إلى كاهنٍ بعد سيامته
الفئة : رعائيّات
ماذا يعني حقًا أن تكون إنسانًا روحانيًّا؟
الفئة : رعائيّات
شارِكْ ألمكَ مع الله
الفئة : رعائيّات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني