الألم فرصة للنمو الروحيّ
حديث عن الألم (1/3)
الألم فرصة للنمو الروحيّ
حديث عن الألم (الجزء الأول)
الأب خرالمبوس بابادوبولوس
نقله إلى العربية: فريق القدّيس غريغوريوس بالاماس
الألم هو أمرٌ يمتحِنُ قدرتنا على الاحتمال يوميًّا، طارِحًا على أنانيّتنا أسئلة صعبة. إنّ التكلّم على الألم يعني لمس أحد "السكك الحديديّة" الأساسيّة التي تسير عليها حياةُ الإنسان. ومن "سُكك" الحياة أيضًا الفرح والدهشة والمفاجأة. لكن الألم هو عنصر بنيويّ وأساسيّ في حياتنا. وكلّما عَلِمنا أنّنا على وشك الضّحك، كلّما أدركنا أنّنا سنبكي.
ومع تقدّم الإنسان في العمر، يُدرك أنّ الألم هو جزء أساسيّ من حياته؛ لا يمكن لأحد أن يتجنّبه؛ من المؤكّد أنّنا سنواجهه جميعُنا. تظهر مشاعر القلق والأسئلة في نفس الإنسان - أسئلة كثيرة، وغالبًا ما يسأل نفسه:
«لماذا؟ لماذا أواجه المشاكل دائمًا؟ لماذا تأتيني التجارب واحدة تلو الأخرى؟ لا أستطيع أن أحتمل ذلك فيما بعد؛ لم أعد أحتمِلُ العيش على هذا النحو».
في أحد الأيام، زارت القدّيسَ باييسيوس امرأةٌ مريضة كانت تعاني من آلامٍ شديدة، لكنها في الوقت نفسه كانت امرأةً تشكر الربّ وتمجدّه: كانت تتألّم، وتبكي بسبب ذلك، وكانت قلقة، لكن كان لديها رجاءٌ وإيمان بأنّها ستتعافى. وأتت لرؤية القدّيس في دير سوروتي - كان قد خرج من آثوس في ذلك الوقت - وكما يقول الناس، قالت المرأة المريضة للشيخ:
«ياروندا، أنا لا أطلب من الله أن يُعتِقَني من الألم – ربّما ليس لديّ الحقّ في ذلك. لكنّني أطلب منه استراحة قصيرة، لأتنفّس من دون ألم، وليُعِدهُ بعدئذٍ. لا أطلب منه أن يستثنيني من المصير المشترك للإنسانية - مصير الألم، ولكن على الأقل أن آخذ نَفَسًا من دون ألمٍ!»
كانت هذه المرأة تحملُ صليبًا عظيمًا، فقد كان مرضها خطير جدًّا. كانت تخضع لغسيل الكلى، وكانت يداها مثقوبتَين، وانفجرت عروقها بسبب عمليّات الغسيل التي تخضع لها باستمرار. أظهرت المرأة للشيخ يدها المثقوبة وقالت:
«ياروندا، انظر ماذا حدث لِيَديّ من كثرة الحقن!»
نظر القدّيس إلى يدَيها، ورسم عليهما إشارة الصليب، وقال:
«أنا أنظر إلى يديك، وأرى الفردوس! أرى منظرًا سماويًا، لأنّكِ تتحمّلين هذا كُلَّه وتمجِّدين الله. ورغم أنّه بإمكانك إلقاء اللوم على الله بسبب مصيرك السيّئ وحياتكِ التعيسة، فإنّكِ لا تفعلين ذلك. سوف يرسلُك هذا إلى السّماء.»
أثوسيٌّ أخر قال ذات مرّة إنّه إذا تألّمت، وكنتَ في بوتقة اليأس والقنوط، واستطعتَ أن تقول مرّة واحدة على الأقل: "المجد لكَ يا الله!" فإن هذا يعادل آلاف الصلوات بالمسبحة، وساعات عديدة من الصلاة الذهنيّة. نتكلّم هنا عن كيف أنّ الإنسان يتذوّق ندى الفردوس فيما يعاني جحيمًا، وكيف تتحوّل صَدْمَتُه وجراحُه إلى بَرَكة، وكيف يستطيع أن يحوّل الظلمة إلى نور. وبدلاً من أن يصوِّر نفسه كضحيّة، فإنّه يحمل جراحَه وبَلِيَّتَه وظُلمَه ويحوّلها، كما قال القدّيس بورفيريوس، إلى فرصة للحياة.
من الناحية الروحيّة، يصبح الجُرحُ برَكةً، وتصبح الصَّدْمة قوّةَ حياةٍ، فهناك دائمًا دمارٌ وراء ما نحقّق. أولاً نفقد شيئًا في حياتنا، ثم نجد شيئًا. وقد سبق ذلك أزمةٌ تحوّلت إلى فرصةٍ، وسبقه صليبٌ أصبح قيامة، وهذا هو هدف الحياة الروحيّة بِرُمَّتِها. تكلّم القدّيس بورفيريوس عن كيف يمكن للإنسان أن يحوّل الظلمة إلى نور. هذا هو سرّ الحياة الروحيّة بالكامل. أعتقد أن هذا السؤال يعنينا جميعًا.
إنّ مسألة الألم وكيف يصمت إله المحبّة أمام ألم الإنسان، وخاصّة أمام ألم الإنسان الضعيف ــ هذا هو الصليب الأعظم، ليست للملحد الذي لا يهتمّ بها كثيرًا، بل للمؤمن الذي يهتمّ بماهيّة العلاقة بين الله والألم. فمن جهةٍ، هناك إنسان متألّم يشعر بأنّه على وشك الموت لأنّه غير قادِر على التنفّس، ومن جهّة أخرى، هناك الله الذي يبدو للوهلة الأولى غائبًا، وكأنّه يختبئ عاليًا في السماء ــ ولكنّ الأمر ليس كذلك.
ويقول الإنسان:
«أين هو الله عندما أحتاج إليه؟ أين هو الآن، في الوقت الذي أموت فيه وأشعر وكأنّني لا أملك حتّى القوة للتنفس، ناهيك عن الصلاة؟ هناك لحظات أشعر فيها وكأنّني لا أملك حتى القوة للتكلّم».
هل تفهمون الآن أنّ مسألة الألم مهمّة جدًّا لنا جميعًا؟
الكتاب المقدّس صريح: الله لم يخلق الشرّ؛ هو ليس مصدر الشرّ؛ هو لا يريد الألم البشري؛ هو لا يخلق الأمراض؛ ولا يعاقب الناس بالأمراض والمتاعب والتجارب وما إلى ذلك. هو لا يقتل الأطفال أو يملأ مستشفيات السرطان بالأطفال المرضى ليجلس ويشاهدهم يتألّمون لأنّه يرغب بذلك.
في الكتاب المقدَّس، الربّ هو إله متألِّم. يبكي عندما نبكي، ويصلّي معنا. لا يقف بعيدًا عن الأم التي تدفن طفلها، بل هو قريب منها، بجانبها، معها. إنّ الله هو الذي يتألّم؛ إنّه الخادم المتألِّم. يقول آباء الكنيسة القدّيسون إنّ المسيح لم ينزل أبدًا عن الصليب، وإلى أن تأتي نهاية العالم وملكوت الله المنتظر، سيظلّ المسيح مصلوبًا وقائمًا. إنّه معنا أثناء آلامنا ومعاناتنا ويشدّدنا ويساعدنا ويعزّينا.
غالبًا ما يحدث أنّه عندما نكون مرضى، مستلقين في المستشفى أو في المنزل بمفردنا، يائسين وخائبي الأمل، نسأل:
«أين الله؟»
ماذا، هل تظنّ أنّ الربّ سيأتيكَ من سقف غرفتك؟ كلّا، لن يأتي بهذه الطريقة. كما قال الشيخ أفرام الكاتوناكي: «الله هو شعور (إحساس)». تذكّر هذه الكلمة. إنّه شعور (إحساس): تشعر بحضوره. الله هو الفرح والصَّبر، هناك في المستشفى، في غرفتك، في وحدتك، وسط آلامك وقلقك. الله هو القوّة النّابِعة من صدركَ التي تشعر بها ؛ الله هو حلاوة الفرح، الشعور بأن هناك من يسانِدُني، ولا أعرف مَن، لكنني أعلم بالتأكيد بأن هناك من يسانِدُني، ولن أُصاب بالجنون. الثقة والإيمان، كلّ هذه الفُرَص والقوّة التي تأتي مني، ما هي؟ إنّه حضور الله. يقول الرسول القدّيس بولس: «وأمّا ثمر الروح فهو محبّة فرح سلام، طول أناة لطف صلاح، إيمان وداعة تعفُّف. ضد أمثال هذه ليس ناموس» (غلاطية 5: 22-23).
هذه علامات حضور الله في نفس الإنسان. أرى في رَجُلِ الله، الفرحَ الذي يعيشه؛ أرى سلامَه، وأقول: « ربّما الله يحيا فيه». لذلك، القداسة، حضور الله في حياتنا، ليست شيئًا خارجيًا، بل هي شيء داخلي ينبعث ويتجلّى بطريقة أو بأخرى. من المهمّ جدًّا أن نفهم هذا، حتّى نتمكّن من الشعور بحضور الله في حياتنا. فَبِخِلاف ذلك، سننتظره ولن يأتي أبدًا من الباب. إنّه هناك، في البيت، في غرفتنا، بجوار سرير المرض، حيث تعاني في يأسِكَ - إنّه هناك. من المهمّ لنا أن نفهم كيف يتجلّى الربّ في حياة كلّ إنسانٍ.
فنُلَخِّص الحديث. وفقًا للكتاب المقدس والآباء القدّيسين، لم يخلق اللهُ الألمَ. ماذا فعل؟ عندما واجه المسيحُ نوعًا من الشرّ، قام بِتَقويمه. تذكّروا الإنجيل. لقد التقى بالأبرص، والمرأة النازفة، والأب اليائس (متّى 9: 19)، والكَسيح، وشفاه ليس فقط جسديًّا، بل غيّره أيضًا، لأنّه من المهمّ ليس فقط علاج ساقك أو ذراعك، بل أن تُشفى جسديًّا وروحيًّا.
يقول القدّيس بورفيريوس:
«لا تُصَلّوا لكي تكونوا بصحّة جيّدة، بل صَلّوا لكي تصبحوا صالحين، لأنّه إذا أصبحتم أناسًا صالحين، أي إذا جعلَكم الله أبرارًا، فهذا يعني أنّه سيغيّر حياتكم بالكامل».
هذا هو هدفنا - أن نجد معنى الحياة، أن أدركَ لماذا أنا على قيد الحياة. هكذا كما قال القدّيس بورفيريوس:
«إذا وجدتم معنى الحياة، إذا وجدتم الله، الفرح، إذا فهمتم لماذا تستحقّون الحياة، فإنّ كلّ شيء، حتّى الغُدَد الصمّاء، وكل الهرمونات التي تعمل في الخَفاء، وجسدكم بالكامل سيبدأ بالعمل بانسجام. هذا مهمّ لحياتنا».
يحوّل اللهُ الشرَّ أينما يحدث. تمرض، فيأخذ الله مرضك ويحوّله إلى فرصة لك لتعطي معنى لحياتك.
كم من الناس يأتون ويقولون:
«يا أبي، لقد دخل السرطان إلى حياتي، ويمكنني أن أقول أنّه خَلَّصني. لأنّني بدأت أقدّر ما لم أكن أقدّره من قبل؛» بدأت ألاحظ ما كنتُ أعتقده بديهيًّا.»
هذه أمور صغيرة وبسيطة ونعيشها كلّ يوم.
أخبرتني إحدى الفتيات من تسالونيكي:
«بعد إصابتي بالسرطان، صرتُ أفرح حتّى بالرياح في شوارع تسالونيكي المُطِلّة على البحر حيث كنت أذهب للتنزه – حيث يداعبُ الريح خَدَّيّ».
إنّها «تفاصيل» بسيطة للغاية، ولكن من الذي قَدَّرها يومًا؟!
في رأس السنة، ما هي الأمنيات الأكثر شُيوعًا؟ العمر الطويل والسعادة، والأهم من ذلك كلّه الصحة! أليس هذا ما نتمنّاه بعضنا لبعض في السنة الجديدة؟ لكن هذا لَوَهمٌ كبير. إنّه كذبة، لأنّنا نرغب في الصحّة ولكننا نفعل كلّ شيء لكي لا نكون أصِحّاء. نتمنّى لبعضنا البعض أن نكون أصِحّاء، لكن لا أحد منّا سعيد لأنّنا أصِحّاء. نحن أصِحّاء، لكنّنا تعساء. قد تعترض قائلاً:
«نحن جميعًا مرضى بشيء ما».
نعم، لكنني أتحدث الآن عن أمراض خطيرة. لماذا نحن تعساء؟ نحن أصحاء، ولكنّنا تعساء. نبحث باستمرار عن مَن نلومه على مشاكلنا وننتقد بعضنا البعض باستمرار. هذه هي أكبر كذبة نقولها لبعضنا البعض طوال الوقت. لهذا السبب يسمح الربّ بمرض يكون سببًا في تغيير حياتكَ بأكملها؛ يسمح لك بالتعرُّض لحادث سيارة حتّى تنظر إلى الوراء بعد عدّة سنوات وتقول:
«شكرًا لك يا إلهي، لأنّك «دمّرتَني». المجد لله أنّني تعرّضتُ لهذا الحادث: لقد وجدتُ نفسي».
لا يوجد مَاوَرَائِيّات خلف الألم، في حدّ ذاته، وقد يقول أحدهم:
«يا أبانا، أعرف أشخاصًا اختبروا الألم ولم يصبحوا أكثر لطفًا».
بالطبع، الألم لا يوجد مَاوَرَائِيّات خلفه، في حدّ ذاته. ما أقوله لا يعني أنّ مَن يعاني من الألم يصبح قدّيسًا؛ ولا يعني أنّ مَن يعاني من الألم يصبح إنسانًا أفضل. الألم، في حدّ ذاته، لا يمكنه أن يفعل ذلك. بالطبع، قد يصبح الإنسان أكثر لُطفًا، ويتوب، ويتغيّر، ولكن هنالك أشخاص يجعلهم الألم أكثر قسوة، ويحطّم أمَلَهم، ويطرحهم أرضًا، بل ويجعلهم مُلحِدين. من المهمّ معرفة المعنى الذي تعطيه لمعاناتك. عليك أن تجد معنى معاناتك. الألم لا يطلب منك الإذنَ بالمجيء. تخيّل رجلاً مصابًا بمرض في مكانٍ ما من جسده، وتعطيه مِشرَطًا ليجري عمليّة جراحيّة لنفسه. إنّ غريزة الحفاظ على الذات والدفاع عن النفس، أل"أنا" النرجسيّة لا تسمح لنا بتجاوز عتبة الألم. وما أن تبدأ بالشعور بالألم، ستتوقف عن قطع عُضوِك المريض. لكن الألم لا يطلب منك الإذن، ولا يقول لكَ:
«هل يمكنني الدخول؟»
لا يقول لكَ:
«هل تستطيع أن تتحمّلني؟»
يأتي من دون دعوة. هكذا يأخذك الألم إلى حيث لم تكن لتذهب أبدًا بنفسكَ. من المهمّ أن نكون على درايةٍ أنّ الألم هو فرصةٌ لِنُمُوِّنا الروحيّ.
المرجع:
https://orthochristian.com/160766.html
آخر المواضيع
شارِكْ ألمكَ مع الله
الفئة : رعائيّات
سرّ صمت الله
الفئة : رعائيّات
الألم فرصة للنمو الروحيّ
الفئة : رعائيّات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني