حديثٌ عَن سِرِّ التَّوبَةِ والاعتِرافِ (1/2)
الجزء الأول
حديثٌ عَن سِرِّ التَّوبَةِ والاعتِرافِ (1/2)
الأرشمندريت جاورجيوس كبسانيس
رئيس دَير البارِّ غريغوريوس في الجبل المقدَّس-آثوس
١٩٩٩
نقله إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس
إنَّ موضوعَ التَّوبَةِ، جِدِّيٌّ ومُهمٌّ لخلاصِنا. لقَد تَعَلَّمنا عَنهُ الكثيرَ مِن آبائِنا الرُّوحيين وطالَعنا عنهُ الكَثير. لِهذا لَن أَذكُرَ أُمورًا مُعتادةً، بَل سأُوضّحُ بعضَ النِّقاطِ الَّتي أَعُدُّها مُفيدةً لِتَقدُّمِنا الرُّوحيِّ، ويجب أن نعرفها.
ما التَّوبةُ؟ هل هِيَ النَّدمُ على خَطيئَةٍ ما وحَسْب؟ هَل هِيَ القَرارُ بِتغيِيرِ حياتِنا وتَصحيحِ مَا كانَ عَلينا فعلُه؟ نَعم، هيَ كذلكَ وأكثر. التَّوبَة هِي تَغييرُ حياتِنا بِأكمَلِها. هِي التَّحوُّلُ نَحوَ اللهِ، وتَسليمُ حَياتِنا لهُ بالكامِل. حَرفِيًّا، إنَّ مَعنى الفِعلِ اليونانِيِّ أَتوبُ، هو أُغَيِّرُ ذِهني، أَي أُصَحِّحُ عَقليَّتي، مُلتَفِتًا نحوَ الله، ولَيس مُجَرَّدَ التَّوبَةِ عَن خَطيئَةٍ ما أو عَن بَعضِ الزَّلاتِ، بَل أنْ أُحضِرَ حَياتي بأكمَلِها أَمامَ اللهِ، شاعِرًا بِضَعفِي وحَقارَتي وفَقري، وبِحالَتي الخطّاءة، وأطلب رَحمةَ الرَّبِّ ونِعمَتَه.
إذن، التَّوبَةُ بالنِّسبَةِ إلينا، نحنُ الأُرثوذُكس، هِي مَوقِفٌ حياتِيٌّ دائِمٌ؛ هي شعورٌ مُستمرٌ بحالَتِنا الخطّاءة أَمامَ الله. لهذا، ابتَدَأ السَّابِقُ المَجيدُ، كما تَعلَمون، كِرازَتَهُ في البَرِّيَّةِ بالتَّوبَةِ، وكان فَحواها: «تُوبوا فَقَدْ اقتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاواتِ» (مَتَّى ٣:٢). أَي تُوبوا لأَنَّكُم إِن لَم تَتُوبُوا وتُغَيِّرُوا ذِهنَكُم وتَتحوَّلوا نحوَ اللهِ، فلَن تستَطيعوا قَبولَ مَلكوتِ الله. كَرزَ ربُّنا يَسوعُ المسيحُ بِالشَّيءِ ذاتِهِ، قائلًا:«تُوبُوا فَقَد اقتَرَبَ مَلكوتُ السَّماواتِ». وفِي إنجيلِ مُرقُسَ: «تُوبُوا وآمِنُوا بالإنجِيلِ» (مُرقُس١:١٥) أَي بِالبشارَةِ. لا يقدِرُ أيُّ إنسانٍ على أَنْ يَقبَل ملكوتَ اللهِ أَو أَن يُؤمِنَ بِالإنجيلِ، إِنْ لَم يَتُبْ أوَّلاً. لنُلاحِظ هُنا هذهِ النُّقطةَ، لم يَقُلْ القِدِّيسُ يُوحنَّا المَعمدانُ ولا الرّبُّ يَسوعُ المسيحُ «تُوبُوا لِمَرَّةٍ واحِدَةٍ» إنّما تُوبُوا باستِمرارٍ، فالفِعلُ المُستَخدَمُ يَدُلُّ على استمراريَّةِ عمَلِ التَّوبَةِ، تُوبُوا مَدَى حَياتِكُم.
نَجِدُ هُنا فَرقًا مُهمًّا، بَينَنا وبينَ البروتِستانت والخَمسينيَّةِ والإنجيليِّينَ وجميع فُروعِ المُتَجَدِّدين. جميعُهُم يَقولونَ: «بِمُجَرَّدِ أنَّكَ تُبتَ مَرَّةً واحِدةً، فقَد تَبَرَّرتَ ونِلتَ الخَلاص. لا يلزَمُكَ أَنْ تَتوبَ مُجَدَّدًا، بَل تُبْ مرَّةً واحدةً فتَرجِعَ إلى الرّبِّ وينتَهيَ الأمرُ». لَكن لَيسَ هذا تَعليمُ الإنجيلِ ولا الآباءِ القِدِّيسين.
يقولُ مُعلِّمُ كنيستِنا الكَبيرُ، القِدِّيسُ يوحَنَّا الدِّمشقيُّ:
«التَّوبَةُ هيَ الرُجوعُ عمَّا هُوَ مُخالِفٌ للطَّبيعةِ إلى ما هو طَبيعيّ. الرُّجوع مِن عندِ الشيطانِ إلى اللهِ، بِوساطةِ جِهادٍ وأتعابٍ كثيرةٍ». أَي يَتوبُ المَرءُ ويَرجعُ مِن حياةٍ معاكسةٍ للطّبيعةِ، حياةِ الخَطيئَةِ والغُرورِ والأَهواءِ، ويَرتَقي لحياةٍ أُخرى أَسمى، روحيَّةٍ وطبيعِيَّةٍ – أَي ما يُريدهُ اللهُ مِنَ الإنسانِ- تارِكًا نِطاقَ سَيطَرَةِ إبليسَ عليهِ، ومنتَقِلاً إلى سُلطَةِ الله. ولكنَّ هذا يتِمُّ عَبرَ جِهادٍ وأتعابٍ كثيرة.
يعرِضُ القدِّيسُ يوحنَّا السلَّمِيُّ مَوضوعَ التَّوبةِ، لا على أنَّها النَّدمُ على خطيئةٍ واحدَةٍ، بَل تحوُّلٌ كاملٌ للإنسانِ نحوَ الله. وقد كتب فيها:
«التَّوبةُ تَعني تجديدَ المعمُوديَّةِ،
التَّوبَةُ هِي اتِّفاقيَّةٌ معَ اللهِ بحياةٍ جديدةٍ،
الإنسانُ التَّائبُ هوَ مَن يَبتاعُ التَّواضُع.
التَّوبَةُ هي فكرُ لَومِ الذَّاتِ،
عدمُ الاكتراثِ لأيِّ شيءٍ والاهتِمَامُ بخلاصِ نُفسِنا فقط.
التَّوبةُ هي ابنةُ الرَّجاءِ وإنكارُ اليأسِ.
التَّوبةُ هي المُصالحَةُ مَع اللهِ بِعَمل الفضيلةِ المُعاكِسَةِ لمعاصينا.
التَّوبةُ هي تَطهيرُ الضَّمير.
هي الصَّبرُ الطَّوعيُّ على الأحزانِ كافّةً». (سلَّمُ السَّماءِ المَقالُ الخامِسُ).
يدهشَنا في سيَرِ آبائنا القدِّيسينَ أنَّهم، برغم قداسةِ سيرَتِهم، تَراهُم يطلبون دَومًا مِنَ اللهِ زمانًا للتَّوبة، قَبلَ أَن يَجِدَهُم المَوت. يشعُرونَ بأنَّهم لَم يَتوبوا بَعد برغم أنَّهم قدِّيسون وصانعو عجائب. فلماذا يطلبونَ أَن يتوبوا أكثر؟ لأنَّهم يُريدون أَن تكونَ حياتُهم أقربَ إلى الله، وأن يتَّحِدوا بالله أكثَر.
أدهَشَني في حياتي في الجبَلِ المُقدَّس، مُنذُ البِداية، الشّيوخُ المُعمرِّونَ الذَّين عاشوا فيهِ رُهبانًا لخمسينَ أو ستّينَ سنةً، وكانوا رجالَ فضيلةٍ، جاهَدوا بِنسكٍ شديدٍ وصلواتٍ كثيرةٍ؛ ولكنَّكَ إِن سألتَهُم، تجدهُم مُقتنعين بأنَّهم لم يَفعلوا شيئًا، ولم يُقدِّموا للهِ عَمَلاً مُرضيًا. كَم هوَ مُدهشٌ تَواضُع القدِّيسين! أذكُر بينَ هؤلاءِ، الشّيخَ الدّائمَ الذِّكر جيراسِيموس ناظمَ التَّسابيحِ، مِن إسقيطِ القدِّيسةِ حنَّة الصَّغير (وهوَ اليَوم قدّيس). كانَ لدى هؤلاءِ الشّيوخِ التّواضعُ والحسُّ بأنَّهم أثَمةٌ، برغم قُربهم من اللهِ.
نرى في سِيَر الكثيرِ مِن القدِّيسينَ، كَيفَيّة توسّلهم إلى اللهِ، ساعَةَ مَوتِهم، لكي يَهَبَهُم، ولو نِصفَ ساعَةِ إضافِيَّةٍ، أن يعيشوا حتَّى يَتوبوا. وكأَنَّهم لم يتوبوا باستمرارٍ، طَوال حياتِهم. لم يَشبَعوا مِنَ التَّوبة، بل يترجَّون التَّمديد كَي يَستعِدِّوا للِّقاءِ بالله.
تاقَ شيخٌ آخرُ، وهو القدِّيسُ يُوسُفُ الهُدوئيُّ، أَن يَموتَ في عيدِ رُقادِ السيِّدَةِ العذراءِ، لشغَفِهِ بِها. وأُعلِمَ إلهيًّا في صَلاتِهِ، بأنَّهُ سيرقُد فعلاً بَعدَ ١٥ يومًا، أَي معَ رُقادِ السَّيِّدَة، وأنَّها ستأخُذَهُ بِنفسِها. ظلَّ يَبكي طوال تِلكَ المُدَّة. فسألهُ الرُّهبانُ تلاميذُه عَن السَّببِ، قائلين: أيُّها الشيخُ، ما دمتَ قد جاهَدتَ كثيرًا، وعَمِلتَ سجداتٍ لا تحصى، وأصوامًا صارمةً جدًّا، وصلواتٍ كثيرةً طوال هذهِ الأعوام، فلماذا تَبكي الآنَ؟ قال: «فِعلاً لقد جاهَدتُ، ولكنِّي أجهلُ حُكمَ اللهِ، لأَنَّهُ إلهٌ، أمَّا أنا فإنسان. لا أعرفُ إن كانَ كلُّ ما فعلتُ مُرضيًا له. كما لا مجالَ للبُكاءِ بعدَ الآن، إنَّها الفُرصةُ الأخيرةُ المُعطاةُ لي مِن اللهَ كَي أَبكي». فعلاً، يومَ رُقادِ السَّيِّدةِ العذراء، بعدَ القُدَّاسِ الإلهيِّ، تَناولَ الأسرارَ الإلهيّةَ، وصرَفَ تلاميذَهُ كَي يُصلُّوا بالمسبَحَةِ حتَّى يَموت. ففعلوا كما قال لهم. وبالفعل، بعدَ توبَةٍ حارَّةٍ، وصلاةٍ، وخشوعٍ، ومناولتِهِ الأسرارَ الإلهيَّة، سلَّمَ روحَه إلى يَدَي اللهِ الحيّ.
نَرى في العِبادةِ الكنسيَّةِ والتَّسابيح، أَنَّ الكنيسةَ تَضعُنا جميعًا أمامَ اللهِ، في مرتبةِ الخطّائين. ما مِن أَثرٍ لتبريرِ الذَّاتِ الفِرّيسيِّة عندنا. إنَّنا نسألُ اللهَ: «غُفرانَ خطايانا، والصَّفحَ عَن زلاّتِنا. من الرَّبِّ نطلب». ونسأله أيضًا، طِلباتٍ كنسيَّةٍ عديدةً نَظهَرُ فيها أمامَ اللهِ بقلبٍ منسحقٍ، وبِفِكْرٍ متَّضعٍ، طالبينَ مُسامحةَ خطايانا ورحمةَ اللهِ القُدُّوس. لهذا نُردِّدُ صَلاةَ يسوعَ، وأظُنُّ أنَّكم تردّدونها أيضًا جميعَكم قائلينَ: ربِّي يَسوع المسيح، ارحمني. لا نَتَوَقَّفُ هُنا، إنّما نُكمِل: «أنا الخاطِئ».
كانَ الشّيخُ تِيخون الآثوسيُّ المُباركُ (مِن رُوسيا) يقولُ بِلغَتِه الرَّكيكةِ لجميعِ زُوّارِهِ: «قُلْ، أنا الخاطِئ. قُلْ، أنا الخاطِئ». لا يكفي أن نقولَ: «ربّي يسوع المسيح ارحمني» وَحدَها. كان لَديهِ تَوقٌ إلهيٌّ شديدٌ، ومَوهِبةُ الصَّلاةِ الدَّائمة. كانَ يجِدُ صُعوبةً بالغةً بالانشغالِ بأعمالٍ يَدوِيَّةٍ، تارِكًا الصَّلاةَ ولو لِبُرهَةٍ. مَرَّةً، كانَ عليهِ أَن يَزرَع القليلَ مِن البصَلِ في بُستانِهِ، وتَذمَّر قائلاً:
«آه! هناك شغلٌ كثيرٌ اليَومَ، ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ، ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ».
لقد فارقَ الحياةَ وهوَ في غمرةِ التَّواصُلِ المُستمرِّ معَ الله. يُقال إنّ الملائكةَ كانت تشاركُهُ خِدمَةَ القُدَّاسِ الإلهيِّ وكان يُخطَفُ إلى السَّماوات.
إنَّ التَّوبَةَ لدَينا، نحنُ الأُرثوذُكس، هيَ مَسألةُ الحياةِ بأكملِها. نتوبُ باستمرارٍ إلى أَن يأخذَ اللهُ وديعتَهُ مِن هذا العَالمِ، ونحنُ في اتِّضاعٍ، وقلبُنا مُنسَحِق. المزمورُ الخمسون (ارحَمني يا اللهُ) الَّذي أَلَّفَهُ النَّبيُّ داودُ المَلكُ، ندَمًا على خطيئتِهِ المزدَوجَةِ، هو مزمورُ التَّوبة، ونجِدُهُ في جميعِ خِدَمِ كنيسَتِنا، ويتَكَرَّرُ مِرارًا، وحفِظْناهُ جميعُنا غيبًا، ونقرأُهُ في البَيتِ عندما نُصَلِّي، ويُساعدُنا في أنْ نَشعرَ بأنَّنا أثَمةٌ أمامَ الله.
كَي تكونَ التَّوبةُ حقيقيَّةً وصادقَةً، يجبُ أَن تَتِمَّ أمامَ اللهِ والكنيسةِ. وكذلِكَ هو سِرُّ الاعتِراف. بِلا تَوبةٍ، ماذا يكونُ الاعترافُ؟ يشعُرُ بعضُ النّاس بالحاجةِ إلى البَوْحِ بأمورٍ تشغَلُ فِكرَهُم، ولكنَّ هذهِ يُمكنُ قَولَها لأيِّ مُعالجٍ نَفسيٍ أيضًا. أَو يَودُّونَ قَولَ أمورٍ خاصَّةٍ وسِرِّيَّةٍ جِدًّا، ويرتاحونَ عِندَ قَولِها للطَّبيبِ النَفسِيِّ- يَعتمدُ التَّحليلُ النفسيُّ على هذا أساسًا- ولكنَّ هذا كلّه ليسَ بِتوبَةٍ. هو بَوحٌ أو اعترافٌ من دونِ تَوبَة. الاعترافُ الحقيقيُّ هُو الحاصِلُ أمامَ اللهِ والكنيسة. لا أمامَ اللهِ وحَسْب، لأنَّ هذا لا يَكفي. يقولُ البعضُ: «سأقولُ خطايايَ أمامَ اللهِ فَقط. أَلا يَكفي هذا»؟ لا. «لِماذا»؟ لأنَّنا حينَ نُخطِئُ، فإنَّنا لم نُخطِئ بِحقِّ اللهِ وَحدهُ، بَل بِحقِّ الكَنيسة أيضًا. كُلُّ ذنبٍ نَقترِفُهُ، لهُ عواقِبُ عَلى الكَنيسةِ الَّتي نُشَكِّلُ نحنُ أعضاءَها. وعليه، حينَ نتوبُ، فإنَّنا نتوبُ لأنَّنا أحزَنَّا اللهَ، وتَسبَّبنا بالضَّرَرِ للكنيسةِ وأحزَنَّاها، حتَّى لَو لَمْ يرَنا أحَد. قد تَكونُ الخطيئةُ حاصلةً في الخَفاءِ سِرًّا، ولم يَعلمْ بِها غَير الله؛ هذا لا يهُمّ. مَهما كانَت خَفِيَّةً أو حَدثَت سَرًّا، فإنَّها تَضرُّ الكَنيسةَ الَّتي أنتَ عُضوٌ فيها. وبصفتك عضوًا في الكنيسة، إن كُنتَ مَريضًا ومملوءًا قيحًا، وجريحًا ينزف، فستُسبّب عواقبَ على الجسدِ بأسرِهِ، أَي الكنيسة الَّتي هي جسدُ المسيح. أصبحنا بالمعموديَّة المُقدَّسَة أعضاءً في جسدِ المَسيحِ، عَبر سرِّ المَسحةِ بالمَيرونِ المُقدَّس. لهذا، إن كانَ عُضوٌ ما مَريضًا، فإنَّ المرَضَ سيؤثِّرُ في جسدِ الكنيسة. كذلكَ حينَ يكونُ عُضوٌ ما سَليمًا مُعافًى، وقدِّيسًا، فإنَّ قداسَتَهُ تجلب المنفعة للكنيسة. إذن، حينَ يتوبُ المرءُ، فإنَّ توبتَهُ تكونُ قُدَّامَ اللهِ والكنيسة. إنِّها وصيَّةُ المسيحِ، لأنَّ الرّبّ قالَ: «لا يَكفي أَن نَعتَرِفَ أمامَ اللهِ فَقط، بل أمام الكنيسة أيضًا، لأنَّهُ أَعطى نعمةَ الرّبطِ والحلِّ لخطايا البَشَرِ، إلى رُسلِهِ وخلفائِهم الأَساقِفَة.
الاعترافُ في الكنيسةِ الأُولى كانَ علَنًا وجماعيًّا، قُدَّام الأَساقِفَةِ، قَبلَ القُدَّاسِ الإِلهيِّ. كانَ المسيحِيُّونَ، في ذلكَ الزَّمان، ذوي قاماتٍ روحيّةٍ عاليَةٍ وفضيلةٍ وكان بوِسعِهم الاعترافُ بخطاياهُم على مَسمَعِ الآخرينَ. بَعدَ نِهايةِ الاعترافِ، يضَعُ الأُسقُفُ يدَيهِ على رؤوسِ المُعتَرفينَ التَّائبينَ، ويُسامحهم، فيتناولونَ جسدَ ودم المَسيح. باستثناءِ مَن كانَت لديهِ خطايا تستَلزِمُ قانونًا تأديبِيًّا، أو تَمنَعُ مِن المُناولة.
في أيّامِنا، تضاعفَت مَهامّ الأُسقُفِ كثيرًا، وعَدَدُ المُؤمنينَ صار كبيرًا جدًّا. لم يعُد للأسقفِ مُتَّسعٌ مِن الوقتِ ليسمعَ اعترافَ جميع النّاس. لِذا أَعطى الصَّلاحيَّة للكهنةِ، عَبرَ قِراءَةِ صلاةٍ خاصّةٍ عليهِم، فينالُون نِعمةَ الأُبُوَّةِ الرُّوحيَّة، وباسمِ الكنيسةِ والأُسقُفِ يقبَلونَ اعترافَ المؤمنين. لكن لا يَسمَعُ الكاهِنُ الاعترافَ كفردٍ يَقبلُ توبةَ المسيحيّينَ، بَل كأُذُنِ الكنيسةِ بأكمَلِها. حينَ أعترفُ، أكون أُكلِّمُ الكاهِنَ وَحدَهُ، ولا أَحدَ يعرِفُ ماذا نَقولُ، ولكِنَّهُ يقبَلني تائبًا نِيابَةً عنِ الأُسقفِ والكنيسة. يُعيدُنا إلى حِضنِ الكنيسةِ ويُصالحنُا معَها بجملتِها.
لهذا السَّببِ، لا يكون سِرُّ الاعترافِ عِندَنا، نحنُ الأُرثوذُكس، مِثلَ اللّاتينِ (الكاثوليك الباباوِيّيِن)، بَل يكون وَجهًا لِوَجه. هُم يعتَرِفون داخِلَ أَكشاكٍ ويُوجَدُ بينَ الكاهنِ والمُعتَرفِ حائطٌ خشَبيّ. يَسمع الكاهِنُ الصوتَ فقط، مِن ثقوبٍ، ولا يرى الشَّخص. يسمَعُه ويعطيهِ إرشاداتٍ مُوافِقَةً وقد يَقرأ عليهِ صلاةً للحلّ. لا يرى أحدُهما الآخر. أي أنَّ هُناكَ علاقةً غير شخصيَّةٍ ولا خاصّة. سرُّ التَّوبةِ عندَهم، كجمِيع أسرارِ كَنيسةِ الكاثوليكِ عُمومًا الّتي تأخذ الطَّابِعَ الحقوقيّ، لأنَّ لَديهِم قناعةً أنَّ الخلاصَ ليسَ تألُّهَ الإنسانِ، بَل تَبرُّرُهُ ناموسِيًّا أمامَ الله فقط. (هذا موضوعٌ كبيرٌ لن نتناولُه الآنَ).
أمَّا لَدى البروتِستانت، فالخلاصُ أمرٌ تِلقائيّ. يُخَلِّصُ الإنسانُ نفسَه وحدَه،. الخلاص يتمُّ بينَه وبينَ اللهِ من دونِ الكنيسة. نحُن نُؤمنُ بأنَّ الإنسانَ يخلُصُ بالكنيسَةِ عَبرَ أسرارِها، أمّا خارِجَها فلا يُوجَد خلاص. إِنَّه لغرورٌ دينِيٌّ أن نَعُدَّ أنفسَنا مُخلَّصين وحدَنا، كأفرادٍ نقِفُ أمامَ الله. هذا تَفَرَّد. إِنَّما نخلصُ كأعضاءٍ في جسدِ المسيحِ. والمسيحُ يُخلِّصُ جسدَهُ، ويُخلِّصُ الكنيسةَ، وبداخِلها نَخلُص نحنُ أيضًا.
نَسمَعُ المُتجدِّدينَ يَقولونَ في عِظاتِهم: «اِقبَلِ المسيحَ مُخلِّصَكَ الشَّخصيّ (الفَرديّ)»
لا. ليسَ المسيحُ مُخلِّصًا خاصًّا، إنّما هوَ مخُلِّصُ كنيسَتَهُ، جسدَهُ. يُخَلِّصُ كُلَّ مَن هُم فيها، أَي كُلَّ الذين يعتمِدونَ ويُمسَحون، ويعتَرِفون ويتوبون ويتناوَلون، وكُلَّ مَن هُم داخِل كنيسَتِه المُقدَّسة. هذا هو الفَرقُ بينَنا وبينَ البروتِستانت. أمّا الباباويّون، فيعدُّونَ الخلاصَ مسألةَ تبريرِ الإنسانِ، باتّباعِهِ القوانينَ، لا مسامحةَ الإنسانِ. ولا يَعدُّون أنَّ الخلاصَ هو بتألُّهِ الإنسان، كما هو وِفق تَقليدِنا الأرثوذكسيِّ الشّريف. تلك هي نقاط الاختلاف مع اللّاتين والبروتستانت، في مسألة التَّوبة والاعتراف.
لماذا يَجب الاعترافُ أمامَ الكنيسة؟ لأنَّ هذا يَجلِبُ لي تَواضعًا. حينَ أَكتَفي بِقَولِ خطيئتي للهِ وحَسب، فإنَّ هذا لَن يَدفعني للاتِّضاع. أمَّا حينَ أقولها أمامَ إنسانٍ لديهِ سرّ الكَهنوت، عندَها أتواضَع فِعلاً. لِماذا؟ لأَني أُقِرُّ عِندها بأَنّي فِعلاً لا أستطيعُ أن أَخلُصَ بِمفردي، يُمكِنني أَن أخلُصَ عبر الكَنيسة فقط - أَي الكاهنِ - حيثُ التَّواضُعُ عميقٌ وجَوهَرِيٌّ.
قناعَتي أنَّ الحياةَ المسيحيَّة تَبدأُ بالتَّوبة. إِن لَم يَتُب الإنسانُ أمامَ الأبِ الروحيِّ، فإنَّه لم يَتَّضِع بَعد، وهو ليسَ مَسيحيًّا. حالَما نتواضع جميعًا، ونذهب للأبِ الروحيِّ- بِما في ذلكَ الكهنةُ - وحين نقولُ خطايانا بِصدقٍ وبانسحاقٍ، وبصراحةٍ، عِندَها سنَضرِبُ كبرياءَنا ونُجرَحهُ جَرحًا، ونَبدَأُ نكتسبُ نعمةَ تواضُعِ المسيحِ الحقيقيّةَ، عِندَها نصيرُ تلاميذَ المسيح، ونصبحُ مسيحيّينَ حقيقيّين.
التَّوبَةُ والاعترافُ يُريحانِ الإنسان. مَن يَعترفْ بِصدقِ وتَوبةٍ، يشعُرْ بِراحَةٍ عميقةٍ في نفسهِ، لتَحَرُّرِهِ مِن الشُّعورِ بالذَّنبِ وتأنِيبِ الضَّمير. الأَمرُ الَّذي يُعَذِّبُ الإنسانَ كَثيرًا، عَن وَعيٍ مِنه، لكن غالبًا في اللّاوَعي، من دون أَن يُدرِكَ ذلك. وَجدَ الطّبُّ النَّفسيُّ العلاجِيُّ الحديثُ في بحثِ عُقدةِ الشُّعورِ بالذَّنب، مدى تَأثيرِ تأنيبِ الضَّميرِ الضَّارّ، وكَم يُعذِّبُ النَفس. لا أحد يتحرَّر مِنه إلاّ إن أَقبَل إلى المسيح، وإلى الكَنيسة، وإلى الأب الرّوحيِّ بِتواضع. حينَ يَفتحُ قَلبَهُ ويقولُ خطاياهُ، يُحضِرها أمامَ اللهِ، ويطلُبُ الرَّحمةَ ونِعمةَ الرَّبِّ، عِندَها فِعلاً يرتاحُ الإنسان. يُعتَقُ مِن شعورِه بالذَّنب، يّحسُّ بأنَّهُ تحررّ. غالبًا ما يكونُ الشُّعورُ بالذَّنبِ وراءَ الكثيرِ منَ الأمراض، ويكون أَثَرُهُ سَلبيًّا في الحالةِ الصِّحيَّة للإنسان. خاصَّةً في حالةِ تأنيبِ الضَّميرِ الشَّديدِ، على إِثمٍ ثقيلٍ لا يُغتَفَرُ (أَي لَم يعتَرِف بهِ الإنسانُ بعدُ). شَهِدتُ شخصيًّا على أمثِلَةٍ عديدةٍ لمَرضى مُزمِن، نَالوا الشِّفاء التّامَّ مُباشَرةً بعدَ اعترافِهِم الصَّريح.
آخر المواضيع
خوذة الخلاص
الفئة : رعائيّات
حديثٌ عَن سِرِّ التَّوبَةِ والاعتِرافِ (2/2)
الفئة : رعائيّات
حديثٌ عَن سِرِّ التَّوبَةِ والاعتِرافِ (1/2)
الفئة : رعائيّات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني