الإيمان والتواضع لدى الكنعانيّة


الإيمان والتواضع لدى الكنعانيّة

الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس اسطفان

نقلاً نشرة كنيستي، العدد 7، 18 شباط 2024

 

المرأة الكنعانيّة ليست سوى نموذجًا عن الفضيلة الكاملة، التي ينبغي أن تميّز المهتدين إلى الله: إيمان لا ينثني وتواضع لا يُقاوم. الإيمان والتواضع لا يمكن إلا أن يوجدا معًا، الإيمان الحقيقيّ يحتاج حتمًا إلى التواضع، لأنّ الإيمان الكامل هو تخلّي عن الذات وتسليم كامل لمشيئة الله.

كل البشر يدّعون الإيمان، لكنّ إيمانهم لا يظهر صدقه وحقيقته سوى وقت التجارب. من احتمل التجارب بصبر من دون تذمّر أو شكٍّ بعناية الله، يُحسب له الإيمان إيمانًا. من دون شكر على كل شيء لا يكون الله سوى صنم في حياة الإنسان. أكثر وقت يكشف الله فيه عن عنايته ومحبّته للبشر هو وقت التجارب. إذا قَبِل الإنسان التجارب والآلام كتدبير منه للخلاص.

العوامل البشريّة تتحكّم عادة بتصرفاتنا وقراراتنا. لقد صدم المسيح المرأة الكنعانيّة بجوابه. كان يمكن أن يقودها جواب المسيح إلى اليأس، وإلى ردّة فعل سلبيّة ضدّ المسيح؛ كما يحصل مع أغلب البشر، حين يمرّون بتجارب مؤلمة. لكنّ الكنعانيّة أظهرت بجوابها إيمانًا عظيمًا والكثير من التواضع، الأمر الّذي جعل المسيح يُغيّر مخطّطه الخلاصيّ. لا تجربة المرض الكبرى ولا المسّ بكرامتها البشريّة استطاع أن يُزعزع إيمان هذه الكنعانيّة بالمسيح، أنّه قادر أن يُخلّص ويشفي ابنتها. وقد أظهر الله، من خلال هذه الحادثة، كيف يستجيب لصلوات المتواضعين، الّذين ينسحقون في التجارب ويعتبرون تجاربهم وآلامهم أنّها مشيئة الله وأنّها لخلاصهم. يستجيب لهم لأنّ قبولهم مشيئة الله هي سمة كاملة، ضروريّة للإيمان الكامل. والله يشفي بحسب قوّة إيمان الّذي يقبل مشيئته. هكذا قال للكنعانيّة: "عظيم إيمانك، فليكن لك ما تريدين".

كبرياء الإنسان ومعاندته لمشيئة الله أدخل الألم إلى حياته. حين يجد فينا الشيطان كبرياءً، يقودنا من خلال التجارب والآلام إلى اليأس، وبعد اليأس الإلحاد. اليأس هو الموت الحقيقيّ للمؤمن؛ إنّه تحطيم كامل للنفس ولإيمانها بالمسيح. في أوقات التجارب والصعوبات يشكّ المتكبّر وييأس، أمّا المتواضع فيشكر ويتوب. لا بدّ من أن يُقارن المرء بين إيمان هذه الوثنيّة وبين جحود اليهود، بين تواضع هذه الأمميّة وكبرياء اليهود. الإيمان الّذي حوّل من كانوا في مرتبة الغرباء المرذولين إلى أبناء، ومن كانوا أبناء إلى غرباء مرذولين. تلك التي كانت من دون شريعة أصبح إيمانها وتسليم مشيئتها شريعة جديدة لها، نالت من خلالها الخلاص. وأمّا أصحاب الشريعة، بكبريائهم وعدم إيمانهم خسروا الشريعة المعطاة لهم من الله، فنالوا دينونة الأمم.

يسمح الله بالألم لأنّه يقود إلى معرفة الذات، وإلى الدخول أعمق في معنى الحياة. من وجع هذه الحياة ينبت التواضع، ومن التواضع التوبة. وهما يُحوّلان آلامنا الجسديّة إلى آلام روحيّة. وهذه الأوجاع الروحيّة هي التي تجعل معرفة الذات كاملة وحقيقيّة. وفي هذه المعرفة نجد أسبابًا كثيرة لنتواضع ونمقت أنانيّتنا وشهواتنا ونتوب. الألم يقود المؤمن الصادق إلى التوبة المباركة، والرفاهيّة تدفعه للانغماس أكثر بشهواته الرديئة.

إنّ إصرار الكنعانيّة على طلبها يُشبه إصرار أعمى الإنجيل، الّذي كان يزداد صراخًا، كلّما حاولوا إسكاته، طالبًا الرحمة من المسيح. ومدْحُ المسيح لعظم إيمانها يُشبه مدحه لعِظم إيمان قائد المئة، الّذي طلب بتواضع كبير شفاء خادمه. الله لا يريد إذلالنا، إنّما تواضعنا. التواضع في الأرثوذكسيّة ليس عملاً عقليًّا، إنّما حركة داخليّة تُقتنى بالصبر واحتمال التجارب القاسية والآلام، ويمكن أيضًا احتمال الإهانات وأمراض الموت، من دون تذمّر على مشيئة الله. مسيرة التواضع تُبنى عليها كل الفضائل وكل مسيرة تطهير الذات. التواضع يأتي من هذا الانكسار وانسحاق النفس أمام خالقها لتستطيع أن تُسلّم ذاتها بالإيمان له. لا يُمكن أن يثبت الإيمان من دون صبر على التجارب والأحزان، ولا يتقوّى من دون شكر لله على كل شيء. لهذا يحتاج الإيمان إلى التواضع.

لقد كان الربّ يعلم كل شيء عن هذه المرأة، بالطبع قبل أن تتكلّم أيضًا؛ وقد تكلّم معها بهذه الطريقة لا لأنّه لا يُريد شفائها، إنّما ليثبّتها في عِظم إيمانها وتواضعها. هكذا هو إلهنا، يمتحن دائمًا إيمان شعبه الّذين أحبّهم ليحبّوه أكثر، ويتقوّى إيمانهم به أكثر. يمتحن تواضعهم ليتواضعوا أكثر، وتنموّ توبتهم أكثر. التجارب هي حاجة للنفس التي تريد أن تخلص وتتحرّر من الخطيئة وشهوات العالم. لهذا، لا يُعطي الله الإنسان من التجارب إلا ما هو مناسب لخلاصه. الله بحكمة عظيمة يسمح بتجارب ليشفي من خلال عذابات وقتيّة عذابات أبديّة، بها يقودنا إلى معرفته وإلى ملكوته الأبديّ.



آخر المواضيع

آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-10-12

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-29

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا