أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 6

المسكونيّة، الكثلكة، والبابا يوحنا بولس الثاني

الفئة:مسكونيات

أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 6

المسكونيّة، الكثلكة، والبابا يوحنا بولس الثاني

إعداد: روني سعيد

 

الأكذوبة المسكونيّة السادسة: الإيمان يحتاج إلى العقلانيّة لتكمّله.

والحقيقة الأرثوذكسيّة المضادة: العقلانيّة هي الكلام عن الله خارج الله.

في أيلول من العام 2004، انعقد "المؤتمر اللاهوتي الأرثوذكسي" في تسالونيكي – اليونان، بحضور عددٍ كبير من المطارنة والكهنة والرهبان والأساتذة العلمانيّين، وبتنظيم كليّة اللاهوت الرعائي في جامعة أرسطو. وقد ناقش المؤتمر، لخمسة أيّام متواصلة، ظاهرة "المسكونية"، وخَلُصَ في النهاية إلى أنّها الهرطقة الشاملة التي تريد تدمير كامل الإيمان الأرثوذكسي. وإحدى أهم النتائج التي توصّل إليها المجتمعون صيغت هكذا: "المسكونية هي نتاج الباباويّة والبروتستانتيّة، وهي تمويه للتغرّب عن الكنيسة الحقيقيّة"1. فماذا يقصد المؤتمر بهذه الجملة؟

ما يقصده المؤتمر هو أنَّه لا يوجد فرقًا في الجوهر، بين كلّ من البابويّة أي اللاهوت الكاثوليكي، البروتستانتيّة بكلّ شِيَعِها وانقساماتها، والمسكونيّة بكامل مناهجها ومقارباتها. وهذا بِدَوره يحتاج إلى شرح.

فمن أجل فهم كل ذلك، ينبغي أولًا أن نعرف أنّه يوجد نوعان من المعرفة لا ثالث لهما: المعرفة الآتية من الله وهي ما يُعرف بالكشف الإلهي، والمعرفة الآتية من العقل وهي المعرفة العقلانيّة. والحديث هنا طبعًا عن المعرفة الإلهيّة، أي كل ما يتخطّى الحواس والعالم المادي. فإما أن يكون الله هو "مصدر" المعرفة فيكشف الحقائق للإنسان، أو أن يكون الإنسان هو الذي يُنتِج حقائق جديدة لم يكشفها الله.

إنّنا نؤكّد، بكل جدّية ووعي، أنَّ الأرثوذكسيّة وحدها هي "ملء الكشف الإلهي"؛ وكل ما هو غير أرثوذكسي، أي كل ما يزيد أو ينقص عن التعليم الأرثوذكسي، هو "عقلاني" من صنع بشر لم يتقدّسوا بعد.

لا يكشف الله ذاته، إلا لأولئك الذي تطهّروا من أهوائهم، واستنارت أذهانهم، فتقدّسوا. من أجل ذلك، يوضع القديسون المتألّهون في كَفّة، حيث نراهم على "فكر واحد ورأي واحد" (1 كورنثوس 1: 10)، ويوضع كل ما عداهم في كَفّة أخرى، حيث العقلانيّة التي تبتدع دائمًا ما هو جديد، وغريب عن فكر المسيح الواحد.

لا يركن القديس – بمعناه الأرثوذكسي – إلى عقله، بل يقدّس عقله، بتسليم مشيئته لله، وبتواضع فكره المحدود أما عظمة ولا محدوديّة الله. إذّاك فقط، يعطيه الله أن يفهم حقائق الإيمان المسلّم مرةً للقديسين (يهوذا 1: 3)، فيعيشها أولًّا بكامل كيانه لا بعقله وحسب، فيختبر الله بالحقيقة لا بالأوهام والتأمّلات العاطفيّة؛ فينقل هذه المعرفة التي هي نفسها الخبرة الإلهيّة لأولئك الذي لم يُشفوا بعد، شارِحًا ومعلّمًا وموبّخًا وقاطعًا باستقامةٍ كلمة الحق الشافية والمحرّرة.

يقارن الكثيرون بين الكثلكة والأرثوذكسيّة عن طريق الاختلافات العقائديّة بينهما. ليس تلك المقارنة خاطئة، ولكنّها غير كافية؛ ذلك أنَّ الانحرافات العقائديّة في الغرب (أكان عند اللاتين الكاثوليك أم عند البروتستانت)، ليست إلا نتيجة للسقوط الأكبر: وهو استبدال "الكشف الإلهي" و"تعاليم الآباء القديسين" و"الحياة الروحيّة الجهاديّة والشفائيّة"، بما يُسمّى "الإيمان العقلاني" القائم على إعمال العقل غير المتألّه في حقائق الإيمان، "وتعاليم الفيلسوف والقديس الكاثوليكي توما الإكويني وسواه"، و"الحياة المسيحيّة العاطفيّة والنفسانيّة".

في الواقع، فقدت روما النعمة الإلهيّة لدى انشقاقها عن الكنيسة الواحدة، ولم تعد قادرة على عيش الحياة الروحيّة الأصيلة، ولا فهم تعاليم الآباء القديسين. وبالتالي، حوّلت الأديار إلى مدارس سكولاستيكيّة فلسفيّة، وأعادت إحياء الفلسفة اليونانيّة الوثنيّة لا سيّما فلسفة أرسطو.

وعليه، تعامل الغرب مع الكشف الإلهي، كمجرّد معطيات عقلانيّة للإيمان، أي مجرّد كلام مكتوب على ورق؛ فدمجته بفلسفاتٍ متنوّعة، وما زالت تفعل ذلك محوّلة مصدر المعرفة من إلهيّة إلى بشريّة. وحين يكون العقل الرازح تحت أهوائه مصدرًا للحقيقة، سوف يخطئ في نهاية المطاف لأنَّ المنطق البشريّة لا يستطيع التعامل مع ما يفوق الحواس؛ وأكثر من ذلك، يصبح العقل عرضةً لتلقّي الإيحاءات الشيطانيّة، وهذا ما يفسّر قبول أحبائنا الكاثوليك لكلّ معجزة أو ظهور على أنّه من الله؛ فكيف يمكنهم يا ترى التمييز بين الأرواح، بعد أن رفضوا العلاج الروحي الذي تركه لنا الآباء القديسون، مزدرين بخبرتهم الروحيّة التي وصلوا إليها بعد صراعاتٍ مريرة ضد الشياطين؟

وحتى لا يشكّ أحدٌ بأنَّ الغاية من كلامنا هو التجريح، أو أنّه نابعٌ عن هوى؛ سوف نترك البابا يوحنا بولس الثاني (وهو قديس في الغرب) يؤكّد بفمه ما سبق وقلناه للتوّ.

يقول البابا يوحنا: "الكنيسة (الكاثوليكيّة) تتوسّم في الفلسفة وسيلةً لا بدّ منها للتعمّق في فهم الإيمان، وتبليغ حقيقة الإنجيل للذين لم تصل بعد إليهم" (فقرة 5)2، ويتابع: "ولهذا الفكر الفلسفي أيضاً أثر عميق في اللاهوت ومختلف مَباحثه" (فقرة 100)، و"بمثل هذا الإلحاح على أهمية الفكر الفلسفي وأبعاده الحقيقية، تعمل الكنيسة على تعزيز الدفاع عن كرامة الإنسان ونشر البلاغ الإنجيلي" (فقرة 102).

ويعتبر البابا أنَّه ليس فقط علينا الركون إلى الفلاسفة، بل حتى يستحيل أن نفهم اللاهوت من دون مناهج الفلسفة، إذ يعلن البابا: "بدون رفد الفلسفة يستحيل الخوض في قضايا لاهوتية كالكلام عن الله، مثلاً، أو كالعلاقات الشخصية داخل الثالوث، وعمل الله الخلاق في العالم، والعلاقة بين الله والإنسان، وهوية المسيح الإله التام والإنسان التام" (فقرة 66)؛ "أشجِّع الفلاسفة، المسيحيين وغيرهم، على أن يثقوا بقدرات العقل البشري وألاّ يكتفوا بأهداف متواضعة في تفكيرهم الفلسفي (فقرة 56).

ثم يصوّر البابا يوحنا الكشف الإلهي ناقصًا بدون فلسفة أفلاطون وأرسطو وغيرهما، إذ يقول: "اللاهوت قد احتاج ولا يزال يحتاج إلى الرفد الفلسفي" (فقرة 77). بل إنّه يحذر من اللاهوتيّين الذين يرفضون الركون إلى الفلسفة قائلًا: "إذا أبى اللاهوتي أن يستعين بالفلسفة، فإنه يتعرّض لأن «يتفلسف» من غير أن يدري، وينحصر ضمن بنيات فكرية لا تساعد كثيراً في فهم الإيمان" (الفقرة نفسها).

فالشوق إلى معرفة الله (إلى الحقيقة)، لا يحفّز – بالنسبة للبابا – الإنسان إلى الجهاد الروحي والتوبة المنسحِقة للشفاء من الأهواء والاستنارة، بل إنَّ "الشوق إلى الحقيقة يحفّز العقل إلى أن يذهب دائمًا إلى أبعد ممّا وصل إليه" (فقرة 42). للأسف، يبدو أن هذا التركيز على العقل عند البابا، قد دفع الغرب إلى إقصاء كل عمل للروح القدس في معرفة الله!

ويؤكّد البابا يوحنا أنَّ هذا النهج اللاهوتي هو اختراع "توما الإكويني" القديس الكاثوليكي والمرجع الأعلى للتعليم في روما، إذ يعتبر أنَّ الانتقال مما يسمّيه الإيمانيّة إلى ما هم عليه اليوم، حدث "في زمن عاد فيه المفكرون المسيحيون إلى اكتشاف كنوز الفلسفة القديمة والفلسفة الأرسطوطالية بطريقة مباشرة، كان له الفضل الكبير في التركيز على التناغم القائم بين العقل والإيمان. نور العقل ونور الإيمان كلاهما من الله" (فقرة 43)؛ بل "إن أكثر اللاهوتيين الكاثوليك نفوذاً في عصرنا هذا، والذين ساهموا مساهمة جُلىَّ في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني بأفكارهم وبحوثهم، هم من أبناء هذا التجدّد في الفلسفة التوماوية" (فقرة 58).

والأغرب من ذلك، أنَّ البابا يعتبر "الاكتفاء بالكشف الإلهي" هو خطرٌ على الإيمان، فيقول: "ونلحظ أيضاً أخطار الانضواء ثانية إلى الإيمانية، التي تنكر أهمية المعرفة العقلانيّة والخطاب الفلسفي لفهم الإيمان، بل حتى لإمكان الإيمان بالله" (فقرة 55). ويذهب به الأمر إلى تشبيه الفلسفة بوالدة الإله، خاتِمًا رسالته هكذا: "فكما دُعيَت العذراء إلى أن تقرّب بشريّتها وأنوثتها ليتمكّن كلمة الله من أن يتأنس ويصبح واحداً منا، كذلك تُدعى الفلسفة إلى ممارسة عملها العقلاني الناقد، ليتمكن اللاهوت من أن يتفهم الإيمان تفهماً خصباً وفاعلاً" (فقرة 108).

هكذا تتعامل روما مع اللاهوت باستعلاءٍ فكريّ وبعقول دهريّة، هكذا يتعامل البروتستانت، وهكذا تتعامل المسكونيّة؛ كلّهم واحدٌ في الجوهر. أما الأرثوذكسيّة فهي من جوهرٍ آخر لا يشبه هذا العالم في سقوطه وأمراضه واستعلائه، فهي تحافظ على اللاهوت، أي على ما جاء به المسيح، صافيًا ، لضمان شفاء البشر وخلاصهم.

هذه العقلانيّة التي للغرب المسكوني، هي النقيض التّام للأرثوذكسيّة، ولما يقوله القديس أثناسيوس الكبير: "فبحث الأمور الإلهيّة لا يمكن أن يكون بالبراهين الجدليّة والفكر المجرّد بل بالإيمان وبأفكار التقوى الورعة. لأنَّ ما سُلّم بالإيمان لا ينبغي أن يُفحص بالحكمة البشريّة، بل أن يُقبل بخبر الإيمان" (رسالة إلى الأسقف سيرابيون، 1، 17-20). وهذا عينه ما يقول الكتاب المقدّس: "وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة،" (1 كورنثوس 2: 4).

 

1 "المسكونيّة: الأصول – التوقّعات – خيبة الأمل"، مجلة التراث الأرثوذكسي، السنة السابعة، كانون الأول، 2011
https://www.orthodoxlegacy.org/?p=445

2 البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة جامعة في الإيمان والعقل Fides et Ratio، موجودة على الموقع الرسمي للفاتيكان على الرابط الآتي:

https://www.vatican.va/content/john-paul-ii/ar/encyclicals/documents/hf_jp-ii_enc_14091998_fides-et-ratio.html



آخر المواضيع

هدف المسكونيّين هو تضليل المؤمنين
الفئة : مسكونيات

2024-09-10

رسالة مفتوحة للمطارنة البلغار
الفئة : مسكونيات

المطران لوقا، ميتروبوليت زابوروجي وميليتوبول 2024-07-01

بدعة كهنوت المرأة (3/3)
الفئة : مسكونيات

روني سعيد 2024-06-13

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا