روحانية فرنسيس الأسيزيّ وجروحاته (stigmata) في اللاهوت الأرثوذكسيّ
الجروحات من وجهة نظر أرثوذكسيّة (الجزء الثاني)
روحانية فرنسيس الأسيزيّ وجروحاته في اللاهوت الأرثوذكسيّ
تعريب وإعداد رولا الحاج
الجروحات من وجهة نظر أرثوذكسيّة (الجزء الثاني، 2/5)
بعد التحليل العلميّ المقتضب للجروحات بعامّة، وعرض بياناتٍ محدّدة ترتبط بنشوة فرنسيس ورؤيته، كما وردت في عمل فيوريتي (Fioretti)، سنعالج خلفيّة الرؤيا، بالإضافة إلى وصف الظاهرة.
يمكن عزو ظهور جروحات فرنسيس الأسيزيّ الناجمة عن رؤياه إلى صلاة فرديّة. فالصلاة هي تضرّع قويّ يمكن أن يختبر خلالها آلام المسيح في جسده وروحه. في الصلاة، يرغب فرنسيس في اختبار التحريض الإلهيّ "Divine Instigation" ويتوق إلى اختباره، ليس بروحه فحسب، بل بجسده أيضًا. بالتالي، باستسلامه إلى صلاة الانخطاف لم ينكر جسده بل رحّب بالأحاسيس الجسديّة، أي بالألم الجسديّ.
وكما يبدو، استُجيبت صلاة فرنسيس، إذ يَرِدُ أنّ «فرنسيس شعر بتحوّله حقًّا إلى المسيح». ولم يكن هذا التحوّل بالروح فحسب، بل بالجسد أيضًا، أي ليس بأحاسيس روحيّة وفيزيولوجيّة فحسب، بل جسديّة أيضًا. فكيف تمّت الرؤيا فعليًا؟
أوّلاً، وبشكل لم يتوقّعه، رأى فرنسيس ما وصفه بالمعجزة: رأى أحد ملائكة السيرافيم ذوي الأجنحة السّتة، مماثلاً للذي وصفه النبيّ أشعيا، نازلاً عليه من السماء. (المرحلة الأولى من الرؤيا). ثمّ بعد أن اقترب السيرافيم، بدأ فرنسيس، المتعطش ليسوع وشاعرًا بذاته «أنّه تحوّل إلى المسيح»، يرى شخص المسيح في السيرافيم، مسمّرًا على الصليب. وبحسب ما ورد في السيرة، «اقترب هذا السيرافيم من القدّيس بحيث استطاع هذا الأخير أن يرى بوضوح صورة المسيح المصلوب في السيرافيم» (المرحلة الثانية من الرؤيا). فأدرك فرنسيس في صورة السيرافيم المسيح نفسه نازلاً عليه1. فشعر بألم المسيح في جسده، وهكذا، تحقّقت رغبته في اختبار هذه الآلام (المرحلة الثالثة من الرؤيا). بعد ذلك، بدأت الجروحات تظهر على جسده. بَدا أنّ سعيَه وصلاته المُتقدّة تُستجاب (المرحلة الرابعة من الرؤيا).
إنّ رؤيا فرنسيس تتميّز بتعقيد مدهش. بالإضافة إلى رؤيا السيرافيم الأولى، الذي بدا نازلاً من السماء لأجل فرنسيس، ظهرت صورة أخرى تعطّش فيها فرنسيس ليكون المسيح المصلوب نفسه قبل أي شيء آخر. يخلّف تطوّر هاتين الرؤيتين انطباعًا لدى المرء بأنّ الرؤيا الأولى (أي السيرافيم) المفاجئة وغير المتوقعة كانت بعيدة عن خيال فرنسيس، الذي تاق إلى رؤية المسيح المصلوب، واختبار آلامه. على هذا النحو، يُمكن تفسير كيفية تسرّب هذا المفهوم البالغ التعقيد – في الرؤيتين، أو الصورتين- أي صورة السيرافيم والمسيح- إلى وعي فرنسيس.
إنّ تجربة فرنسيس الأسيزيّ مميزة وتثير اهتمام المسيحيّين الأرثوذكسيّين على نحو فريد، كما ذكر أعلاه، إذ ليس ما يضاهيها في خبرة الكنيسة الأرثوذكسيّة التي لديها قائمة طويلة من النسّاك، وتاريخ حافل بالخبرات التصوفية والروحانيّة لا تقلّ أهمّية. في الحقيقة، كلّ الأمور الّتي اختبرها فرنسيس في طور ظهور جروحاته مضلّلة جدًّا، لا بل هي الأكثر تضليلاً وحذّر آباء الكنيسة منها مرارًا.
تذكّروا كيف فهم النساك الأرثوذكسيّيون أسمى نوع من الصلاة (الصلاة الروحيّة) كما وردت بالتفصيل في الفيلوكاليا. ينبغي التشديد هنا على مفهومهم لهذه الصلاة الروحيّة - إلى جانب جهادهم الشخصيّ الخاصّ- كعملية تآزرية (أي تعاون الإنسان مع الله) لبلوغ الإنفصال، ليس عن الأمور الماديّة أو الحسيّة فحسب، بل عن التحليلات الفكريّة أيضًا. إنّه سموّ روحيّ مباشر من الشخص إلى الله، حيث يتوّسط الرّبّ الإله الروح القدس نفسه للمتضرعين «بأناتٍ لا يُنطق بها»2. كمثال على ذلك، يقول القدّيس اسحق السريانيّ في "توجيهاته" "Directions": "النفس الّتي تحبّ الله لا تجد الراحة إلّا فيه. فاستدرك نفسك وتحرّر من كلّ رباط خارجيّ ليتمكّن القلب من الاتّحاد بالله، لأنّ التحرّر من المادّة يسبق الاتّحاد بالله"3. كما أنّ كلام القدّيس نيلوس السينائيّ واضح في هذا الخصوص. ومع ذلك، فهو ينتقد هذا الأمر بوضوح ويقدّم مفارقة مهمّة للزيارة الإلهيّة المزعومة الّتي اختبرها فرنسيس. فيُحذّر في نصّ حول الصلاة قائلاً: «لا ترغب ولا تطمح أبدًا لأيّ وجهٍ أو صورة أثناء الصلاة. لا ترجو لرؤيا حسيّة، أو ملائكة، أو قوّات إلهيّة، أو المسيح لئلا تفقد عقلك متصوّرًا الراعي في الذئب وتعبد الأعداء، أي الشياطين. إنّ بدء خداع (Plani) الذهن هو المجد الباطل الذي يُحرّك الذهن ويسيطر عليه ليظهر الإله بهيئة أو صورة أخرى»4.
لقد استُجيبت صلاة فرنسيس في إنخطافه فعلاً- وإنّما بحسب القدّيسين نيلوس واسحق السريانيّ- يتّضح بأنّه لم يكن المسيح هو المستجيب. تقول السيرة الذاتيّة أنّ «فرنسيس شعر بأنّه تحوّل تمامًا إلى المسيح»، تحوّل ليس بالنفس فحسب، بل بالجسد أيضًا، أيّ ليس في الأحاسيس الروحيّة والذهنيّة فحسب، بل الجسديّة أيضًا. كان فرنسيس مقتنعًا تمامًا بأنّه انخطف روحيًّا إلى اللوغوس (الله الكلمة)، وإنّما وفقًا للقدّيس اسحق السريانيّ؛ لا يمكن عزو ارتقاء أحاسيس جسديّة خاصّة إلى قوّة صالحة روحيًّا!
يمكن تفسير الأحاسيس الجسديّة التي شعر بها فرنسيس بأنّها عمل مخيّلته التي تحرّكت بالتزامن مع انخطافه الروحيّ. وفي هذه الحالة المعيّنة بالذات، تصعب معرفة العنصر المسيطر في ضلال فرنسيس: أهو الكبرياء الروحانيّ أم المخيّلة؟ ولكن في شتّى الأحوال، كانت المخيّلة قويّة، وتؤكّد على ذلك الظروف الأساسيّة الجوهرية للرؤيا المعقّدة تعقيدًا بالغًا، وقد تراءت لفرنسيس بعدما شعر أنّه تحوّل حقًّا إلى المسيح، وهذا دليل واضح على حالة ضلال شديد وحاد متجذّر- بحسب القدّيس نيلوس- في المجد الباطل.
ينكشف تمجيد فرنسيس المبالغ والمذكور في وصف الرؤيا بوضوح عند مقارنته برؤيا المسيح المهيبة التي اختبرها القدّيس سيرافيم عندما كان يخدم كشماس يوم الخميس5 في الأسبوع العظيم.
1 أنظر حياة القديس اسحق الناسك في مغاور كييف، God’s Fools. Synaxis Press, Chilliwack, B.C, Canada, 1976, p21.
2 Hyperconsciousness, p 292-293, 2nd ed.
3 Kadloubovsky, E. and Palmer, G., Early Fathers from the Philokalia, "St Isaac of Syria, Directions on Spiritual Training," Faber and Faber, London, 1959. (here after referred to as Early Fathers).
4 Early Fathers, p 140, paragraphs 114, 115, 116.
5 Saint Seraphim of Sarov, pp 61-62 (Rus. ed.), cited in the notes translated from the Russian, see above.
وأيضًا، سيرة حياة البار سيرافيم، ترجمة الأسقف باسيليوس منصور، صفحة 56.
آخر المواضيع
هدف المسكونيّين هو تضليل المؤمنين
الفئة : مسكونيات
رسالة مفتوحة للمطارنة البلغار
الفئة : مسكونيات
بدعة كهنوت المرأة (3/3)
الفئة : مسكونيات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني