روحانية فرنسيس الأسيزيّ وجروحاته (Stigmata) في اللاهوت الأرثوذكسيّ
الجروحات من وجهة نظر علميّة (الجزء الأوّل)
روحانية فرنسيس الأسيزيّ وجروحاته (Stigmata) في اللاهوت الأرثوذكسيّ
تعريب وإعداد رولا الحاج
الجروحات من وجهة نظر علميّة (الجزء الأوّل، 1/5)
لدى دراسة السيرة الذاتية لفرنسيس الأسيزيّ، نقف على حقيقة فائقة الأهميّة تتعلّق بتصوّف هذا الناسك الكاثوليكيّ وتتجسّد في ظهور جروحات في جسمه. يجد الكاثوليك في هذه الظاهرة الملفتة ختمًا للروح القدس، وفي حالة فرنسيس، اتّخذت هذه الجروحات (Stigmata) شكل علامات آلام المسيح في جسمه.
وليست جروحات فرنسيس ظاهرة استثنائيّة لدى النساك في العالم الكاثوليكيّ فحسب، بل تبدو سمة من سمّات التصوّف الكاثوليكيّ عمومًا، سواء قبل حدوثها مع فرنسيس، أو بعده. يروي بطرس دميان1 عن راهب ارتسم الصليب على جسمه. ويذكر قيصر هيسترباخ (Caesar of Geisterbach) راهبة مبتدئة ظهرت آثار الصليب على جبهتها2. كما تتوفّر معلومات كثيرة تُثبت أنّه بعد موت فرنسيس ظهرت سلسلة من الجروحات تمّت دراستها لاحقًا بعمق من محققين مختلفين، ولاسيّما في الآونة الأخيرة. وبحسب ف.غيرييه، سلّطت هذه الظواهر الضوء على مصدرها الأساسيّ. لقد خضع كثير منها لدراسة دقيقة وتمّ تسجيلها بالتفصيل، ونذكر على سبيل المثال حالة فيرونيكا جولياني3 (1660- 1727) الّتي خضعت لمراقبة الطبيب، ولويزا لاتو (1850- 1883) الّتي وصف حالتها الدكتور برلعام4، ومادلين ن (1910) التي وصفها (جنات) Janat 5، وغيرهم.
في حالة فرنسيس الأسيزيّ، تجدر الإشارة إلى أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تفاعلت مع جروحاته بوقار واعتبرت الظاهرة أعجوبة مهمّة. أعلن البابا قداسة فرنسيس بعد سنتين من وفاته. وكان الدافع الرئيسيّ لقداسته هو الجروحات العجائبيّة في جسمه، الّتي قبلت بها الكنيسة واعتبرتها دليلاً على القداسة. يحظى هذا الواقع باهتمام المسيحيّين الأرثوذكسيّين، إذ ليس ما يضاهيه في سِيَر قدّيسي الكنيسة الأرثوذكسيّة.
تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ التقارير التاريخيّة لجروحات فرنسيس لا تُثير أيّ شكوك في العالم الأكاديميّ. في هذا الصدد، يمكن الرجوع إلى بول ساباتييه (Paul Sabatier) الّذي درس حياة فرنسيس، ولاسيّما جروحاته بالتفصيل. توصّل سباتييه إلى الاستنتاج أنّ الجروحات كانت حتمًا حقيقيّة، وسعى إلى إيجاد تفسير لظهور الجروحات في مجال الأمراض العقليّة الذي لا يزال الغموض يلفّه، أي بين علم النفس والفيزيولوجيا6.
قبل الشروع في شرح جروحات فرنسيس من وجهة نظر أرثوذكسيّة روحيّة – وهو الهدف الرئيسيّ لهذا البحث – سنستهلّ بحثًا عن "الجروحات" (stigmata) كظاهرة فيزيولوجيّة، حيث أنّ هذا البحث سيوفّر معلومات قيّمة تُسهِم في تقيّيم أرثوذكسيّ لاحق "لتصوّف" القدّيس الكاثوليكيّ.
يدرج غيرييه في عمله عن فرنسيس الإكتشافات العلميّة الخاصّة بجورج دوما Georges Dumas الّذي حلّل تطوّر الجروحات من وجهة نظر نفسيّة- جسديّة7. نذكر فيما يلي الاستنتاجات المتعلّقة بالجروحات الّتي توّصل إليها «جورج دوما».
-
لا بُدّ للمرء أن يعترف بمصداقيّة أصحاب الجروحات وبأنّ الجروحات تظهر تلقائيًّا، بمعنى أنّ الإنسان لا يسبّبها بنفسه؛ وإنّما تظهر في حالة من اللاوعي. أيّ أنّها ليست جراح مؤلمة طبيعيّة، فهي تؤلم عندما يكون الإنسان في حالة اللاوعيّ.
-
تُعدّ الجروحات لدى هؤلاء الأشخاص ظواهر مرتبطة بالدورة الدمويّة (الأوعية الدمويّة) وتفسّر كنتيجة إيحاء عقليّ، يؤثر على عمليّة الهضم، والدورة الدمويّة، وإفرازات الغدد، ويُمكن أن تؤدي إلى إصابات جلديّة.
-
تظهر الجروحات لدى الذين يحملونها عندما يكونون في حالة انخطاف ناتجة عن اتّحاد شخصٍ ما بنوع من صورة تأمّلية مؤثرة، واستسلامه لها.
-
لا تأتي الجروحات نتيجة ظهور صورة الجرح فحسب، وإنما، بشهادة حاملي الجروحات أنفسهم، تظهر عندما ترافق الصورة حركة فعليّة، لا سيّما شعاع ناريّ أو حربة، وتتّخذ شكل جرح تأمّليّ ينفتح في جسدهم، ما يؤدّي إلى ظهور الجرح في جسمه. غالبًا ما يحدث هذا الأمر تدريجيًّا، وليس من الرؤيا الأولى، ويصل إلى درجة تحكّم هذه الصورة التأمليّة وسيطرتها على المتأمّل أثناء فترة الانخطاف.
يستخلص "جورج دوما" المعايير العامّة التالية لظاهرة الجروحات: يشعر الأشخاص الذين تظهر في جسمهم الجروحات بألم مبرّح في المناطق المصابة، بغض النظر عن شكل الجرح؛ سواء كانت دمغة صليب على الكتف، أو آثار من إكليل الشوك على رأسه، أو كما هو الحال مع فرنسيس الأسيزيّ، جروح في اليدين، والقدمين، والجنب. بالإضافة إلى الألم، يشعرون ببهجة كبيرة عند التفكير أنّهم يستحّقون أن يُعانوا مع يسوع، ليُكفّروا، كما هو فعل، عن الخطايا الّتي لم يقترفوها8. طبعًا، يتوافق هذا الأمر مع مفهوم سرّ الفداء كما يفهمه الكاثوليك وترفضه الكنيسة الأرثوذكسيّة9.
إنّ الخلاصات العامّة الّتي بلغها "دوما" مهمّة جدًّا نظرًا لإشارتها إلى الدور الكبير الّذي لعبتهُ العناصر التّالية في عمليّة ظهور الجروحات، بمعزلٍ عن الحالة العاطفيّة الحماسيّة (نشوة القلب العاطفيّة):
-
العنصر الذّهنيّ
-
تصوّر ذهنيّ يسبّب آلامًا حادّة
-
إيحاءٌ ذاتيّ، أيّ تعاقب منبّهات ذهنيّة وإراديّة تؤدّي إلى ترجمة آلام الصوّر الخياليّة وبالتالي
-
شعور جسديّ - الألم
-
وأخيرًا، ظهور علامات الألم – الجروحات.
تؤكّد ملحوظات «جورج دوما» عوامل أخرى أفعل من العوامل عاطفيّة (يعتبرها وليام جايمس مصدر التصوّف)10، لها دور مساوٍ لعمليّة ظهور الجروحات، إن لم نقل أهمّ منها. ويمكن تلخيصها على النحوّ التالي:
-
مخاض شديد في عمل المخيّلة
-
إيحاء
-
أحاسيس ترتبط باللذّة
-
ظواهر في جسم الإنسان
سوف نوضح هذه الأمور لاحقًا.
1 هو راهب ناسك بنديكتانيّ. عينه البابا اسطفانوس أسقفًا وكاردينالاً. توفيّ عام 1072. يُعتبر سلفًا مهمًا للقديس فرنسيس. تعتبره الكنيسة الكاثوليكية قديسًا وتُعيّد له في 23 شباط.
2 Guerier, V., Francis, pp 312-313.
3 راهبة إيطالية لم تكتفي فقط بجروحات المسيح بل اختبرت عذابات الآلام وحصلت على تعزيات منها أن المسيح أعطاها شرابا منعشًا من جنبه الأقدس خمس مرّات، وضمّ نفسها مئتي مرة إضمامة حبّ....! (راجع كتاب القديسة فريونيكا جولياني، طبع جمعية أبناء مريم، صفحة 36).
4 كانت لويزا لاتو في السابعة عشر من عمرها، وكانت تتمتع بصحة جيّدة، ولكنها كانت تتعرض لحالة انخطاف كلّ يوم جمعة، وتنزف الدمّ من جنبها الأيسر، وكانت الجروح على يديها وقدميها مطابقة تمامًا لموضع الجروح على جسد المخلّص المصلوب، الّتي ظهرت بشكل صلبان.
5 Guerier, pp 314-315.
6 المرجع ذاته صفحة 308.
7 Dumas, G., "La Stigmatisation chez les mystiques chrétiens," Revue des deux Mondes, 1 May 1907; in Guerier, pp 315-317.
8 Guerier, p 315.
9 وفقًا للأرثوذكسيّة، لم يكن الصليب ضرورة مفروضة على الله، ولا دمّ ابن الله الوحيد مصدرًا لإرضاء الله الآب كما تُعلّم السكولاستيكيّة اللاتينيّة. إنّ مسألة "إرضاء العدالة الإلهيّة" هي عبارة غير موجودة في الكتب المقدّسة، ولا في كتابات آباء الكنيسة، بل هي اختراع انسلم أسقف كانتربري (حوالي سنة 1100م.) الّتي بلورها توما الأكويني لتُصبح العقيدة الخلاصيّة الرسميّة في الغرب اللاتيني. (قارن هذا الموضوع في كتاب القديس أثناسيوس الكبير "The incarnation of the Word of God").
10 سيظهر في هذا البحث أنّ "التصوّف" في الكنيسة الأرثوذكسيّة هو فوق كلّ الأمور الحسيّة والعقلانيّة. إنّ المقياس في الحياة النسكيّة هو الهدوئيّة، أو الإنقطاع عن كافة الإحتياجات، والمشاعر، وحتّى عن الأفكار الإيجابيّة أو السلبيّة (قارن، عظة الأنبا إيفاغريوس إلى أنطوليوس، المذكورة أعلاه).
آخر المواضيع
هدف المسكونيّين هو تضليل المؤمنين
الفئة : مسكونيات
رسالة مفتوحة للمطارنة البلغار
الفئة : مسكونيات
بدعة كهنوت المرأة (3/3)
الفئة : مسكونيات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني