النّذور الرّهبانيّة: الطّاعة، العفّة، والفقر.  


الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

عن نشرة كنيستي

الأحد 12 كانون الأول 2021

العدد 50

 

النّذور الرّهبانيّة الثّلاثة، الطاعة، والعفّة، والفقر، هي أكثر من مبادئ رهبانيّة، إنّها قواعد نسكيّة هدفها شفاء الإنسان الداخليّ للرّاهب. هذه النّذور الثّلاثة، تشفي الأهواء الثّلاثة الّتي يَعدُّها الآباء، أهواءً تعذّب الإنسان منذ ولادته؛ والّتي هي مبدأُ وأصلُ سائر الأهواء، أي محبّة اللّذّة أو الشّهوة الجسديّة، ومحبّة المال، وأخيرًا، الغرور أو المجد الباطل. 

العفّة تشفي اللّذة الحسّيّة، وعدم القنية يشفي محبّة المال، أمّا الطّاعة فتشفي هوى المجد الباطل. وبفضل الجهاد ضدّ هذه الأهواء، يصل الرّاهب إلى شفاء هوى محبّة الذّات الذي هو العلّة غير المنظورة لكلّ ما يسمى هوى.  

  • الطّاعة هي أساس الرّهبنة، وهي أوّل جهادٍ للرّاهب، لأنّها مبدأ كلّ نموّ روحيّ. إنّها نوع من شهادة غير دمويّة، أن يبيع الإنسان مشيئته الخاصّة باستمرار، ليطيع أبًا روحيًّا يُطيع بدوره تقليد الكنيسة، وإيمانها، وقوانينها. ففي هذه الطّاعة إنكاٌر لمحبّة الذّات، وتحرّرٌ من الأنانيّة البغيضة. هدف الحياة الرّهبانيّة هو شفاء إرادتنا الضّعيفة، الّتي هي، في حالتها الحاضرة، معادية لله ومشيئته بسبب تحكّم الأنانيّة والشّهوة بها. الهدف هو أن تتّحد مشيئة الإنسان بمشيئة الله، عبر الطّاعة الكاملة، كما خضعت مشيئة المسيح البشريّة، بملء إرادتها، لمشيئته الإلهيّة. لهذا، الطّاعة للأب الرّوحيّ والتّخلّي عن كل مشيئة ذاتيّة، هي الوسيلة الوحيدة الّتي تشفي إرادة الإنسان وتطهّرها، بفعل هذا الاتّحاد، وتجعلها قادرة أن تعمل إرادة الله بحرّيّة. لا يمكن لأحد متمسّك بمشيئته الذّاتيّة، أن يعرف مشيئة الله في حياته ويعمل بها. 

لهذا السّبب بالذّات، الطّاعة الرّهبانيّة وتسليم المشيئة الذّاتيّة، لا يعنيان عبوديّةً أو هدمًا للإرادة الحرّة، إنّما تقوية هذه الإرادة وإصلاحها. سقوط الإنسان الأوّل كان عمل مشيئته الذّاتيّة. وخلف عمل المشيئة الذّاتيّة، تختبئ أهواء التّكبّر والأنانيّة. بالطّاعة ينهزم هذا الكبرياء المقيت للنّفس، الّتي اعتادت العصيان وإدانة الآخرين، ليحلّ مكانه التّواضع ونقاوة الفكر، إذ لا خلاص من دونهما.  

هناك حكمة رهبانيّة تقول، من الطّاعة يأتي التّواضع، ومن التّواضع الصّلاة، ومن الصّلاة التّكلّم باللّاهوت. 

الطّاعة الحقيقيّة تستمدّ قوّتها من الطّاعة لتقليد الكنيسة وإيمانها. من هذا التّقليد، يستمدّ الرّاهب كلّ استقامة مسيرته نحو الله، لأنّ من لا يُطيع في الحقّ، لن ينال أيّة نعمة أو بركة من طاعته، لا بل تتحوّل إلى طاعة لإبليس. 

  • الفقر أو عدم القنية، هو أن يعيش الرّاهب بتجرّدٍ مطلقٍ عن الأشياء الأرضيّة كلّها. الدّير هو الّذي يؤمّن للرّاهب حاجاته كلّها. حياة الرّاهب كلّها فقر، بمعنى أنّه يأخذ لنفسه فقط ما هو ضروريّ من أجل معيشته؛ يأكل ويلبس حسب حاجته، من دون رفاهية. هذا الفقر يُعتِق الرّاهبَ من الاهتمامات المعيشيّة، وهذا يُساعده في أمرين: عدم التّعلّق بشيء على هذه الأرض، والصّلاة بنقاوة ودون تشوّش. هاتان الفضيلتان لا بدّ منهما في مسيرة الرّاهب إلى الكمال الرّوحيّ. ما دام على هذه الأرض ما لا نستطيع التخلّي عنه، فنحن خاضعون أو حتّى مستعبَدون له. لهذا، عدم القنية يحرّر الإنسان من جذور الشّرّ في داخله (1تيم10:6).    

  • العفّة لا تعني فقط تخلّي الرّاهب عن الحياة الزّوجية، بل هي جهاده الدّاخليّ لأجل عفة النّفس الكاملة بعد غلبة نزوات الجسد كلّها. فالعفّة الحقيقيّة لا تتعلّق فقط بالجسد، بل تنمو لتطال عفّة النّفس والأفكار؛ ولا تُقتنى إلّا بالنّسك والصّراع ضدّ كلّ فكرٍ مصدره الأهواء. هدف العفّة هي محبّة الله. كلّما تطهّرت حواسّ الانسان الداخليّة، استطاع أن ينموَ في محبّة نقيّة لله. فعلامة العذريّة الكاملة تظهر في فيض محبّة لله الّتي لا توصف، كما كانت حالة العذراء والدة الإله. إنّ الاستسلام للشّهوات، يقتل في الإنسان كلّ شهوة لله وللفضيلة. الشّهوة الجسديّة ليست، كما يُروِّج لها العالم اليوم، حاجةً يجب أن نشبعها. صحيحّ أنّها مزروعة في طبيعتنا، لكن يجب علينا أن نتطهّر منها، لكي تصير شهوةً روحيّةً، هدفها رَوْحَنة الجسد. يُحقّق الرّاهب المجاهد روحنة جسده بالنّسك والفضيلة. الأصوام، والصّلوات المستمرّة، وتعب الجسد، هي الوسائل الوحيدة للسّيطرة على هذه الشّهوة، والتّحرّر منها كليًّا. يبقى أنّ بلوغ حالة اللاهوى، هو عطيّة من النّعمة الإلهيّة: أن تكون الشّهوة موجودة، لكن ألّا تتحرّك لإشباع الأهواء، إنّما تتحوّل حركتها لاشتهاء الإلهيّات. وهكذا يحقّق الانسان عفّةً كالملائكة، وهي الحالة الّتي كان الله قد خلقنا عليها في البدء.  

بحسب آبائنا القدّيسين، توجد فضيلة أساسيّة ينبغي أن ترافق البتوليّة وهي التّواضع، لأنّ التّكبّر يأتي بشيطان الزّنى. 

النّذور الرّهبانيّة هي أبديّة؛ ويمكن للكنيسة أن توافق على طلاق زوجين، لكن لا يمكن أن توافق على فكّ راهبٍ نذورَه الرهبانيّة. 

 



آخر المواضيع

الإيمان والتواضع لدى الكنعانيّة
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس اسطفان 2024-02-17

الشذوذ الجنسي ومعصيته
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-01-17

الخطيئة وشرور الحروب
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-01-14

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا