ليلة الميلاد
عظة ألقاها الشيخ أثناسيوس ميتيليناوس يوم عيد الميلاد عام 2000
تعريب رولا الحاج
يا أحبّاء، عندما كان الله الكلمة يخلق الكون، حدّد برهةً من الزمن يأتي فيها إليه هو بنفسه بشكل منظور. هذا الافتقاد العظيم كان تجسّد الله الكلمة. إنّ حضوره على الأرض جعل من هذا الافتقاد محور العالم المخلوق المنظور. فالتجسّد هو الحدث الأعظم في العالم المخلوق المنظور وغير المنظور، حتّى إنّ الملائكة انذهلت أمامه. حدثت هذه الأشياء العجيبة كلّها في هدوء ليلة واحدة. ولو أنّ الله قال عند بدء خلقه، «ليكن نور!» فكان نور (راجع تكوين 1: 3)، إلاّ أنّ عَزمَه الكبير على التجسّد حصل في عتمة قرارته.
ليلة الميلاد. إنّها أعظم وأقدس ليلة بين كلّ ليالي الخليقة. في الليل ظهر ابن الله على الأرض. ولكن لماذا في الليل؟ لأنّ الليل قد استبان الإطار والمنصّة العظيمة للأحداث المختصّة بالتجسّد. إذ إنّ الولادة، والاضطجاع في مذود، وإعلان بشرى الملاك السّارّة للرعاة، وترنيمة الملائكة في وسط السماء، وزيارة الرعاة، هذه كلّها حدثت في الليل. فلماذا إذًا في الليل؟ فإن كان النور حلوًا، فالعتمة مليئة بالأسرار. النور يكشف أمّا الليل فيخفي. الليل يخلق جوًّا في الإنسان. يعطي القدّيس يوحنّا الدمشقيّ أصلًا لكلمة "ليل" (νύξ)، قائلًا: يُسمّى ليلٌ (νύξ) لأنّه يَسبُر غَور (νύττει) الإنسان. لأنّه في الليل يخزُ الضمير (κατανυγή)، يخزُ القلب[1]. لا أعلم، طبعًا، ما إذا كانت ترجمة القدّيس يوحنّا لأصل الكلمة دقيقة -لا أعرف- لكنّ حدوثَ هذا كلّه في الليل فعليًّا صحيحٌ.
على أيّ حال، حدثت ولادة المسيح في الليل. يخبرنا الإنجيليّ لوقا قائلًا: «وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البرّيّة، يتناوبون السهر في الليل على رعيّتهم[2]». طبعًا، إنّ راعيًا واحدًا لا يسعه أن يبقى مستيقظًا طوال الليل يراقب الأغنام، لذلك كانوا يتناوبون السهر. هذه الحراسة كلّها للقطيع كانت تحصل في الليل. من المعروف أن الأغنام في البلاد الدافئة لا ترعى نهارًا لأنّها تشعر بالحرّ، ولذلك فهي ترعى عادةً في الليل- أنتم تعلمون هذا. ومع ذلك، علينا أن نبحث في سبب حدوث ولادة الطفل في الليل. يقول القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ: إنّها ثلاثة أسرارٍ ذائعة الصيت قد اجتُرِحت في صمت الله[3]. يقول إنّ هناك ثلاثة أسرار مشهورة، ثلاثة أشياء من الله، قد أُنجزت في الصمت، بخاصّة في هَدْأة الليل، وبعامّةٍ في صمتٍ بعيدًا عن العَلَنيّة. ما هي هذه الأسرار الثلاثة؟ يقول: كانت[هذه] مخفيّة عن أمير هذا العالم، - مَن هو أمير هذا العالم؟ إنّه الشيطان. ما الذي كان مخفيًّا عن أمير هذا العالم؟ "إنّها بتوليّة مريم، وكذلك ولادتها، وموت الربّ"[4]. هذه الأسرار الثلاثة الشهيرة حدثت في صمتٍ. اسمحوا لي أن أفصِّل بإيجاز أمرًا سيترك عندنا انطباعًا. عندما كان الله يدين آدم وحَوّاء، خاطب المرأة، حَوّاء، وقال لها: "مِن زَرعكِ سيولد من يخلّصكِ[5]". أوّلاً، مَن هو المتكلّم؟ الله الكلمة هو المتكلّم، هو الذي سيأتي أقنوميًّا ليتأنّس؛ يا له من أمرٍ مذهل! لكن لماذا يخاطب حَواء؟ من المعلوم أنّه كان ينبغي أن يخاطب آدم. فليس للمرأة زَرع، بل لآدم، ومع ذلك يقول لها: "مِن زَرعِكِ". هنا يلمّح الله إلى الولادة العُذريّة للذي يتكلّم نفسه، أي الله الكلمة. ومنذ ذلك الوقت، كان الشيطان يبحث بين العذارى ليكتشف أيّة واحدةٍ ستكون والتي ستلد ابنًا سيسحق رأس الحية، أي الشيطان. ولذلك حدثت بتوليّة مريم في صمت الله. والشيطان لم يعلم بها. نعم.
وكذلك، إنّ موت الربّ لا يعني موت المسيح بحدّ ذاته على الصليب بل يعني قيامة المسيح، لأنّه متى حدثت القيامة؟ مَن يعرِف؟ يا أعزائي الأحبّاء، بما أنّ الربّ قال إنّه سوف يقوم في اليوم الثالث وتبدأ دورة الأربع وعشرين ساعة في المساء بغروب الشمس، مع ما نسمّيه صلاة الغروب، يترتّب على ذلك أن الربّ كان في القبر مساء السبت. فمتى إذًا قام الربّ؟ من المؤكّد أنّنا اجتَزْنا إلى يوم الأحد لكي تكتمل الأيّام الثلاثة في القبر: يوم الجمعة، يوم السبت كلّه، والأحد - ولكن في أيّ وقت قام المسيح؟ هذا غير معروف. نقول اصطلاحًا، "بعد الثانية عشرة"، لكي نحصل على ثلاثة أيّام.
على هذا النحو، يا أعزّائي، يصبح الليل رمزًا لأسرار الله ولصمت الله، والسرّ الرئيسيّ هو التجسّد. إنّه «السرّ الذي كان مكتومًا[6]»، كما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية، ممّا يعني أنّه لم يَصِر علانيّة. «منذ بدء العالم» أي في السنوات الأولى، لم يتمّ الإعلان عنه. تمّ التلميح إليه، لكن لم يكن هناك معرفة جليّة بالسرّ. يقول بولس الرسول: «ولكن ظَهر الآن[7]» أي تمّ الإعلان عنه الآن. وما هو هذا «السرّ الذي كان مكتومًا؟». إنّه تجسّد الله الكلمة.
إنّه، كما يقول القدّيس إغناطيوس، سرٌّ كان مكتومًا ومع ذلك يصدح صائحًا[8]. سرّ آخر حدث في الليل، كما سبق وقلت لكم، هو قيامة المسيح من بين الأموات. لقد خرج المسيح من رحم العذراء في الليل وكذلك في الليل خرج من أحشاء القبر العقليّة ليمنحنا الإنسان الجديد، الإنسان المتجدد، الخالد، الأزليّ والمغبَّط.
الليل أيضًا هو رمز للدهر الحالي وأيضًا رمز للحياة الحاضرة، بخلاف دهر ملكوت الله المستقبليّ النيِّر. الدهر الحالي هو دهر الرَّيبة والشكّ. لهذا السبب، ولكي نتمكّن من التغلّب يومًا على هذه الشكوك كلّها ونصبح مُتيقّنين، أُدخل الإيمان. لو كنت سأتحدثّ عن الإيمان، لتكلّمت مطوّلًا. يكفي أن أقول إنّ إبراهيم قد خَلُصَ، كما اعتُبر، ليس لأنّه كان بطريركًا -آدم كان بطريركًا أيضًا- ولكن لأنّه آمن، كما يخبرنا الكتاب المقدس. يستخدم القدّيس بولس أيضًا هذا المقطع دون أن يغيّر فيه، قائلًا: «إنَّه حُسِبَ لإبراهيم الإيمانُ برًّا[9]». لقد حُسِب الإيمان فضيلة؛ يا له من أمرٍ عظيم! الإيمان يولّد الطاعة والترقّب. "الله قال ليكن هكذا؛ فهذا سوف يحصل". بما أنّ الله قال فليكن هكذا، فلا مشكلة. قال لإبراهيم: "سوف تخلّف نسلاً". هل تعلمون متى قال له ذلك؟ عندما كان إبراهيم في الخامسة والسبعين من عمره. لقد انتظر خمسة وعشرين عامًا أخرى وراءها. أين هو النسل؟ ليس موجودًا في أي مكان. ومع أنّ إبراهيم كان ثريًّا، ولديه ممتلكات كثيرة كان يتساءل: "يا ربّ، لمن سأترك هذه الأملاك؟" وبشكل خاص قال له: "سأعطيك هذه الأرض كلّها" أي أرض فلسطين. "ماذا ستعطيني يا ربّ؟ أنا عجوز، وأنا على وشك أن أموت وأنتَ تقول لي إنّك ستعطيني هذه الممتلكات كلّها؟ بما أنّه لا وريث لي، فمن سيرث هذا منّي؟" أبدًا. بما أنّ الله قال هكذا، فهكذا يصير. وعندما مَنح اللهُ إسحقَ، ابن الموعد، كان إبراهيمُ ابن مئة سنة وسارةُ تسعين سنة. لا يغفل الكتاب المقدّس عن إخبارنا بأنّه "انْقَطَعَ أَنْ يَكُونَ لِسَارَةَ عَادَةٌ كَالنِّسَاءِ"[10]، أي لم يعد عندها القدرة على الإنجاب. إنّه إيمانٌ حقيقيّ. لقد أعطيتكم للتوّ نموذجًا صغيرًا لكي تتمكّنوا من فهمه.
ألعلّ قيامة الأموات ليست مسألة إيمانيّة؟ سنقول "المسيح قال ذلك". و"طالما أن المسيح قال هذا فهو كذلك". لذلك فإنّنا نؤمن بما لا نراه. ولماذا لا نراه؟ لوجود الليل أي الليل العقليّ. نحن حاصِلون في الجهل وفي الليل لا تتوفّر الرؤية. ولكي تستوعبوا الأمر، سوف أقرأ لكم مقطعًا جميلًا من رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنثوس: "لأَنَّنا بالايمان نَسْلُكُ لا بالعيان[11]". ليست الأشياء مرئيّةً أمامنا. يكفيني أن أقول إنّ أفلاطون، الفيلسوف اليونانيّ، يعبّر عن كَون الأشياء غير مرئيّةٍ أمامنا عندما يَروم تَبْيان أنّ المعرفةَ مُبهَمةُ المَعالِم، بإشارته إلى ما يُدعى بالكهف المظلم[12]. القصة تستحقّ إعادة سَردٍ موجز. يُرجى الانتباه. يقول أفلاطون إنّ إنسانًا يقف داخل كهف بالقرب من مدخله، لكنّه يتّجه على الدوام إلى عمق داخل الكهف. وخلف هذا الإنسان توجد نار متأجّجة وأحداث تعبر من أمام النار. وبمرور هذه الأحداث، فهي تلقي بظلالها في عمق داخل الكهف دون أن يتمكّن الإنسان من الالتفاف إلى الوراء ليرى الأحداث بحدّ ذاتها. ليس له أن يرى الأحداث الصائرة ولا تلك التي ستصير. فماذا يرى يا تُرى؟ إنّه يرى وبإبهامٍ ظلال الأشياء فقط، وظلال الأحداث. يبيّن هذا لنا، من جهة المسيحيّة والإعلان الالهي، أنّنا في هذا العالم الحاضر نعرف القليل فقط، ما يكشفه الله لنا. ومن جهة أخرى، فقد عانى العالم القديم من ليلة الجهل، من ليلة عدم معرفة الله. يكتب القدّيس كليمندس الاسكندريّ: لو لم تكن الشمس في حَيِّز الوجود، لكان الليل قد غمر الكون؛ لذلك، لو لم نتعرّف على الكلمة ونَستَنِر به، لما كنّا اختلفنا البتّة عن الطيور المسمَّنة"[13]. لو لم يكشف الله الكلمة ذاته لنا، لكانت معرفتنا كمعرفة الدجاج في القنّ. ماذا تعرف دجاجاتنا؟ لا تعرف شيئًا. يتابع القدّيس قائلًا: "... الدجاج يُسمَّن في العتمة، ويُعلَف ليُذبح"[14]. هذا حقيقة. لا يسعنا أن نعرف شيئًا ما لم يعلنه لنا الله الكلمة نفسه. يشاء المسيح، الذي هو نور الإنسانيّة والذي أتى في ظلمة دهرنا، أن يصير النور في أعيننا وحياتنا لكي نرى ونفهم، ولكن دائمًا من خلال الإيمان. لهذا السبب يهتف كليمندس قائلًا: "هلمّوا إقبلوا المسيح، ابصروا، خُذوا نوركم[15]"!
الجحيم مظلم أيضًا، أيّها الأعزاء، وكما أتى المسيح إلى الأرض ليلًا، هكذا نزل أيضًا إلى الجحيم المظلم لكي يحوّلها، للأبرار فقط، إلى نور، إلى فردوس. كانت الأرض كلّها مظلمة أيضًا بسبب عبادة الأصنام. إنّنا ويا للأسف نعود إلى عبادة الأصنام، حتّى نحن اليونانيّين، اليونانيّين المسيحيّين الأرثوذكسيّين. نحن نعود إلى الوثنيّة. فَلْنَعِ هذا الأمر عند نقطة معيّنة. الوثنيّيون الجُدد يقومون بالاقتناص أيضًا. أنا لا أتكلّم على الماسونيّة، العابدة للأصنام مئة بالمئة. حتى من خارج الماسونيّة ثمّة محاولة لإحياء عبادة الأصنام، أعني آلهة أوليمبوس الاثني عشر. هل تفهمون؟ كانت أرضنا كلّها في ما مضى في الظلام؛ وأصبحت مسيحيّة، والآن تعود إلى الظلمة. يدوّن القدّيس متّى ما يلي: "لكي يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ" -وكما تعلمون فقد عاش بعض المتحدّرين من الاسكندر الكبير في جليل الأمم. أقول لكم ذلك من أجل التاريخ- "الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ[16]". تدلّ هذه النبوءة على يسوع المسيح. "من ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ"[17]. ثمّة ظلمة في كلّ مكان، وليل في كلّ مكان، لذا جاء ابن الله ليلًا ليجعلنا ندرك أنّنا في ظلمةٍ.
لكن ثمّة شيءٌ أعمق هنا. أراد يسوع أن يُظهر أنّه ليس خالق النور فحسب، بل الظلام أيضًا. لا تتركوا ذلك يؤثّر عليكم، فماذا يعني الظلام؟ إنّه غياب النور. إنّنا بسهولة نعتقد حاليًّا بهذا الأمر، أمّا البشريّة فقد آمنت آنذاك بأنّ النور والظلام كانا أمرَين مُتبايَنَين. لقد استحدثوا حُكمًا يتولّاه حاكِمان: إله النور (أبولو) وإله الظلام. نرى هذا الحكم الثنائيّ في كلّ الأراضي المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. لن أقول أكثر من ذلك. وفوق كلّ ذلك، يقول إشعياء: «أنا الربّ مُصَوِّرُ النُّور وخَالِقُ الظُّلْمَةِ[18]». أنا الإله الواحد. لقد قلت لكم، يمكننا اليوم أن نعبّر عن هذا الأمر بكلّ بساطة: الظلام هو غياب النور. يقول الله نفسه في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر إشعياء «أنا الرَّبُّ صانِعُ كُلِّ هذِهِ[19]». إنّ هذه الآية، بالنسبة إلينا اليوم، مفهومة تمامًا، لكنّ البشريّة في القِدَم لم تكن تفهمها. فالليل أيضًا هو لله، إنّه له؛ إنّه لا يَخُصّ إلهًا آخر. الليل يعني مرآة السماء المليئة بالنجوم، وفي ليلة الميلاد هذه السماء تمجّد خالقها. النجوم هي أعمال أصابعه. في الليل نرى كلّ تلك العجائب، وخاصّة السماء المليئة بالنجوم. النجوم أيضًا، ولا سيّما نجمة الميلاد الكبيرة، أعوَزَها أن تُدلي بشهادة تمجيدها، لذلك يقول كاتب المزامير: «لكَ هو النهار ولكَ هو الليل[20]»، وأيضًا «ليلٌ يبدي عِلمًا لليلٍ[21]».
اسمحوا لي أن أشرح لكم ماهيّة هذا النجم. لعلّكم تتساءلون عن هذا النجم، إلا إذا كنتم قد قرأتم عنه في مكان ما. نجم الميلاد كان نجمًا يا أعزائي، لكنّه لم يكن نجمًا طبيعيًّا. لقد أطلق متّى الإنجيليّ وصفًا هائلاً بحيث لا يَسَعُنا القول بأنّه كان نجمًا رائعًا، كما يزعم علماء الفلك في شأنه حتّى يومنا هذا: أنّه حصل "تجمّع نجومٍ" –وما المقصود بهذا "التجمّع للنجوم"؟- "التجمّع الذي أنتج ضياءً هائلًا". لا علاقة لنجم الميلاد بكلّ هذا الزعم. فَوَصْفُ متّى يدلّ على أنّه لم يكن كذلك. فقد اختفى النجم عندما كانوا يتحيّرون فيما بينهم ويقولون: "إلى أين نذهب الآن، إلى أين نتوجّه؟" لأنّهم اقتنوا النجم مرشدًا لهم، لكنّهم رأوا النجم مجدّدًا عندما غادروا أورشليم. والإنجيليّ يقول، تفصيلًا، إنّهم "فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا[22]". وإلاّ لذهبت رحلتهم سدىً. أتى المجوس، كما تعلمون، بعد عامٍ واحدٍ لإكرام الملك، عند رؤيتهم إشراق النجم [ανατολή]. فهم لم يوجدوا في الشرق، بل إنّ كلمة "Anatole" هنا تعني "إشراق". فلكلّ النجوم، ولكلّ ما في السماء، شروق وغروب، وذلك لأنّ الأرض تدور. أُكرّر، لأنّ الأرض تدور. ولذا عندما بلغوا بيت لحم، يقول الإنجيل إنّ النجم وقف فوق المنزل. ما عاد المسيح موجودًا في الاسطبل، لأنّ العائلة وجدت مكانًا تبيت فيه من بعد الإحصاء السكانيّ. جاء النجم ووقف فوق المنزل الذي وُجد فيه الطفل يسوع. والآن، إليكم هذا السؤال: ما نوعيّة هذا النجم الواقف فوق شرفة منزلٍ؟ إنّه إذا كان مرتفعًا في العلى لا يمكنكم تحديد موقعه. إذًا، ما ماهيّة هذا النجم؟ ما كان هذا نجمًا، كما يسعى علماء الفلك حتّى يومنا هذا لتوضيح ماهيّته. لقد كان ملاكًا بهيئة نجمٍ. هكذا يقول آباء كنيستنا فيه.
أحبّائي، في الليل تفتّش النفس عمَّن قد أحبّته. كما يَرد في سفر نشيد الأناشيد: "في الليالي على فراشي التمَستُ مَن تُحبّه نفسي"[23]. فالليل، بالنسبة لله والإنسان معًا هو عنصر مهمّ. وبالمثل، تشكّل ليلة الميلاد عنصرًا أساسيًّا. ولهذا السبب تستبقي كنيستنا إقامة عيد الميلاد ليلًا. هل لاحظتم في أيّ وقت بدأنا؟ في الخامسة فجرًا كما تفعل الكنائس كلّها. هذا يدلّ على أنّ الظلمة ما تزال مستَبْقاة في البشريّة، ولو مرّ عشرون قرنًا، وبخاصّة عند من لم يتفقّهوا بالمسيحيّة من المسيحيين. لهذا السبب تذكّرنا الظلمة بوجوب تفتيشنا دومًا عن المسيح. تقول إحدى طروباريات العيد: "هلمّوا يا مؤمنون ننظر أين وُلد المسيح المخلّص. فلنتّبع الكوكب حيث يسير والمجوس ملوك المشرق"[24]. لقد وُلِد مخلّصنا، إلاّ أنّ مسيحيّين كثيرين منّا، بالرغم من ولادته، يرون وكأنّه لم يولد. لقد حوّلوا عيد الميلاد إلى فرصة للاستهلاك واحتفال آثِم. يا للأسف حقًّا! يا له من ظُلم! هؤلاء الناس يظلمون أنفسهم. فلنهتف صارخين بكلّ الألحان: "المسيح وُلِد!" الله الكلمة صار إنسانًا وحلّ بيننا وجاء ليخلّصنا. حُبُّه أتى به إلى الأرض. سوف يدوّن يوحنّا فيما بعد: "والكلمة صار جسدًا"، وحلَّ بيننا"، أقام خيمته، ومَسكِنَه، "أمَّا كُلُّ الذين قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أولاد اللهِ[25]". أحبّائي أتمنّى لكم جميعًا عيدَ ميلادٍ حقيقيٍّ.
https://orthodoxethos.com/post/christmas-night
[1] يمكننا أن نجد هذه الجملة في أُطروحة سيفريان، أسقف غابالا، "في خلق العالم"، المحاضرة الأولى، في المقطع السادس. يُرَجَّح أنّ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ أعاد استخدام هذه الجملة في أحد أعماله دون اقتباس واضح، حيث وجدها الأب أثناسيوس. هذا النقص في إضافة الاقتباسات معهودٌ عند الآباء القدّيسين (وعند الأب أثناسيوس)، كجملة سيفريان، والتي يبدو أنّ الأب أثناسيوس قد اقتبسها: «"وسمَّى الله النور نهارًا والظلام ليلاً" (تكوين 1: 5). ولماذا سمَّاه ليلاً؟ لأنّ الله في الليل يأتي بالإنسان الهاجع إلى النوم إلى تذكّر الموت، وما هذا كلّه إلاّ ليقول: "إعلَم مَن أنتَ أيّها الإنسان. أنتَ بشرٌ مائت، أنتَ تعبد النوم، لماذا ترتأي أمورًا تَفوقُك؟" لأنّه في الليل يجري وخز الضمير، لذلك يقول داوود النبيّ "والذي تقولونه في قلوبكم تندَّموا عليه في مراقدكم"» (مزمور 4: 5).
[2] لوقا 2: 8
[3] St. Ignatius the Godbearer, Epistle to the Ephesians, Chapter 19: “Now the b
[4] المرجع نفسه.
[5] راجع سفر التكوين 3: 15
[6] رومية 16: 25
[7] رومية 16: 26
[8] هذه إعادة صياغة للقول المقتبس عن القدّيس اغناطيوس.
[9] رومية 4: 9
[10] سفر التكوين 18: 11
[11] 2 كورنثوس 5: 7
[12] ﻟﻘﺪ ﻭﺭﺩﺕ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺳﻄﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺣﻴﺚ ﺣﺎﻭﻝ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﺮﺏ ﻟﻨﺎ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ. أحداث أسطورة كهف أفلاطون الخيالية تدور وباختصار حول أشخاص تم تقييدهم منذ الصغر في كهف مظلم.. لا يستطيعون الالتفات إلى ما وراءهم، ينظرون فقط إلى الأمام يشاهدون مجموعة من ظلال أشياء تعكسها نار من خلفهم.. هم لا يرون سوى ظلال ما جعلهم يعتقدون أنّ تلك الظلال هي حقائق الأشياء.. السؤال ماذا سيحدث لو تم فك قيدهم وخرجوا من الكهف المظلم ورأوا نور الشمس وعاشوا في البيئة الطبيعية للبشر. كهف أفلاطون أسطورة ذات بُعد فلسفي عميق تبيّن برمزيتها الفرق بين المعرفة الحقيقية والمعرفة السطحية.. فالكهف في التفكير الإنساني يمثل الظلمة والعزلة.. ومحدودية المعرفة والخوف من مواجهة الحقائق.. باختصار فلسفة كهف أفلاطون محاكاة تمثيلية فلسفية بسيطة تبيّن كيف يؤثر واقعنا على تفكيرنا والعكس صحيح.. وأنّ ما نراه أو اعتدنا على رؤيته لا يشترط أن يكون دائماً هو الحقيقة، قد تجبرنا كثير من العوامل والظروف للنظر إلى الأشياء من زاوية معيّنة وبطريقة معيّنة.. فربما النظرة التي اعتدنا عليها قد تصطدم بالواقع الذي يعارضها فتبدو لحظة إدراكنا المفاجئة من أصعب اللحظات، فالحقائق ستظهر مخالفة لما اعتدنا عليه.. والحقائق الجديدة قد يدعمها واقع ربما لا يقبل نقاشاً.. فينشأ صراع نفسي في ظل التخلي عن أمور تمسكنا بها طوال حياتنا (المعرّبة).
[13] خطاب إلى الوثنيّين، فصل 11
[14] المرجع نفسه.
[15] المرجع نفسه.
[16] متّى 4: 14 - 16
[17] المرجع نفسه متّى 4: 17.
[18] أشعياء 45: 7
[19] المرجع نفسه.
[20] مزمور 73: 16
[21] مزمور 18: 2
[22] متّى 2: 10
[23] نشيد الأناشيد 3: 1
[24] الكاثيسما الأولى في صلاة سَحَر عيد الميلاد.
[25] يوحنّا 1: 12، 14
آخر المواضيع
عظةٌ في رقاد والدة الإله
الفئة : أعياد سيديّة
إِجلالُ والدة الإله، وإكرامُها
الفئة : أعياد سيديّة
مع اقترابِنا من ميلاد المسيح
الفئة : أعياد سيديّة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني