حركة الكولِّيفاديس وأهمِّيتها


تعريب: نديم سلُّوم

 

في يوم السبت من أسبوع التجديدات يُقيم جبل آثوس في اليونان تذكارًا جامِعًا للآباء القدِّيسين الذين يُسَمَّون بحركة "الكولِّيفاديس". وقد تمَّ إعداد خدمة ليتورجيَّة للاحتفال بذكرى أولئك الرهبان القدِّيسين (المعرِّب).

 

يشكِّل المعلِّمون العظماء للكنيسة والأُمَّة اليونانيَّة مكاريوس نوتاراس ونيقوذيموس الآثوسي وأثناسيوس من باروس، الذين عاشوا وعملوا في القرنَيْن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، ثالوثًا جديدًا متلألئًا للكنيسة، مثل آباء الكنيسة الثلاث[1] في الماضي، بالطبع نتحدَّث نسبيًّا واضعين في الاعتبار الظروف التاريخيَّة التي عاشوها مع أوجُه التشابه والاختلاف بينهم. يجب أن نضيف إلى هؤلاء الثلاثة نيوفيطوس الكافسوكاليفي الذي بدأ الحركة بالرغم أنَّه لم يكن مهمًّا أو نشيطًا مثل الثلاثة الآخرين فيما بعد ولكنَّه حصل على مكان في شركة القدِّيسين. أطلق عليهم خصومهم في الجبل المقدَّس اسم كولِّيفاديس لأنَّهم اعترضوا على نقل تذكار الراقدين (تشمل الكوليفا) من السبت إلى الأحد في تَحَدٍّ للتقليد، معتبرين بحقٍّ أنَّ خدمات الراقدين لا تتوافق مع الطبيعة الاحتفاليَّة والقياميَّة ليوم الأحد.

 

بالطبع كان هذا تفصيلًا صغيرًا ضمن عملهم الأكبر للنهضة والتنوير. بالتأكيد هناك مبالغة عن عَمدٍ بغية إخفاء أهميَّة أعمالهم الأخرى، وأيضًا لتشويه سُمعَتِهم على أنَّهم أشخاص يهتمُّون بأمورٍ تافهةٍ مثل تذكارات الراقدين والكوليفا. حتَّى اليوم، هناك علماء يستخفُّون بهم وبأعمالهم ويرونهم من مَنظورِهم المُشَوَّه للجِدال حول خدمة الراقدين. لحسن الحظ، في العقود الأخيرة التي بدأ خلالها البحث التاريخيّ واللاهوتيّ اليونانيّ في تحرير ذاته من الروابط والتبعيَّة والتأثير الغربيّ، أُعيد تقييم أعمال آباء الكولِّيفاديس كنهضة فيلوكاليَّة في القرن الثامن عشر. كان لهذه النهضة تأثيرٌ حاسمٌ في تقوية وتعزيز تعليم الشعوب الأرثوذكسيَّة المُستَعبَدة والحفاظ على وعيهم أينما كانوا، ليس فقط ضدَّ المحتلِّين العثمانيين ولكن أيضًا ضدَّ المُرسلَين الغربيّين الذين انتشروا في جميع أنحاء العالم الأرثوذكسيّ، مُبَشِّرين بوسائل غير مُنصِفة، وخاصةً مُستَغلِّين جهلَ وعبوديَّةَ وفقرَ المؤمنين الأرثوذكسيين.

 

كان هناك خطرٌ كبيرٌ أن يتحوَّل الأرثوذكس إلى الإسلام أو إلى شكل من المسيحيَّة الغربيَّة. بالتأكيد أنَّ الاحتمال الثاني هو الأخطر بسبب المستوى الحضاري العالي للغرب، الأمر الذي يجعل الاندماج أسهل، بينما يحمل شعور التفوُّق على الإسلام بعض الحواجز والتحفُّظات. هناك تصريح كلاسيكي لمعلِّمٍ آخرٍ عظيمٍ وقدِّيسٍ في الفترة ذاتها، القديس قوزما الإيتولي، يشرح لماذا سمح الله للأرثوذكس أن يُستعبدوا من الأتراك بدلًا من الفرنج (الغربيين): "بعد ثلاثمئة سنة من قيامة المسيح، أرسل الله لنا القديس قسطنطين وأسَّسَ المملكة لمدَّة 1150 عامًا. ثمَّ أخذها الله من المسيحيين، ومن أجل مصلحتهم أعطاها للأتراك لمدَّة 320 عامًا. ولماذا جلب الله الأتراك وليس أُمَّةً أخرى؟ من أجل مصلحتنا، لأنَّ الأمم الأخرى كانت ستؤذي إيماننا، بينما الأتراك طالما ستعطيهم المال سيسمحون لكَ بفعل ما تريد".

 

مع ذلك، بعد العصور المُظلِمة من الجهل والأُمِّيَّة في القرون السابقة، كانت جذور التعليم ضروريَّة لرفع الحاجز ضدَّ التحوُّل إلى الإسلام أو المسيحيَّة الغربيَّة، لِمَنِع العديد من الجَداول الصغيرة أن تصبح نهرًا يجتاح الأُمَّة. ما فعله القديس قوزما الإيتولي عبر التَّجَوُّل في جميع أنحاء البلاد وتأسيس مدارس للشعب، قام به قدِّيسو الكولِّيفاديس على مستوى أعلى من خلال: نشر وتفسير نصوص من الكتاب المقدَّس والآباء، حياة وخدم القدِّيسين، ترانيم، وحتَّى كُتب قواعد وبلاغة وفلسفة، وكذلك الكُتَّاب الكلاسيكيين اليونانيين والغربيين القدماء. كان الهدف تنوير الأُمَّة والحفاظ على إيمانها وتقاليد الآباء والثقافة اليونانيَّة الأرثوذكسيَّة. أرادوا التأكَّد أنَّ في المدارس التي كانت تظهر بأعداد متزايدة سيتمكَّن المعلِّمون والرهبان والكهنة من فهم النصوص اليونانيَّة من خلال التعليم الكنسيّ، ولكن أيضًا من نشر هذه النصوص نظرًا أنَّ المخطوطات قليلة ومُبَعثَرة، إمَّا مخبَّأة في المكتبات الرهبانيَّة أو منهوبة من رحَّالة أجانب ماكرين.

 

يمكن للمرء أن يميِّزَ في جهودهم التعليميَّة والأدبيَّة المثيرة للإعجاب حقًّا تشديدًا خاصًّا على العمل لمواجهة خطر التحوُّل إلى الإسلام أو الطوائف المسيحيَّة الغربيَّة. من المعروف أنَّ العديد من الشهداء الجُدُد كان لهم كمرشدين القدِّيسون الكولِّيفاديس مثل القدِّيس مكاريوس والقدِّيس نيقوذيموس الآثوسي الذين دعموهم نفسيًّا في طريق الاستشهاد. من المؤكَّد أنَّ ما أعلنه العديد من الشهداء الجدد أمام الحكَّام الأتراك بشأن سموِّ الإيمان المسيحيّ على ديانة محمَّد، الذين يستهينون بها ويرفضونها، يردِّد صدى تعليم القدِّيسين الكولِّيفاديس. العديد من هذه الحوارات بين الشهداء الجدد والحكَّام الأتراك، التي تذكِّرنا بالاستشهادات القديمة، احتفظ بها القدِّيس نيقوذيموس الآثوسي في عمله "الشهداء الجدد". يجب تطبيق التفسير ذاته على الأعمال المُناهِضة للغرب للقدِّيس أثناسيوس من باروس: "ضدَّ البابا"، "حُكم السماء"، "هذا البالاماس" وأعمال أخرى عن انحرفات وأخطاء اللاَّتين.

 

لم تقتصر مساهمة الكولِّيفاديس على التعليم والثقافة في إيقاظ الوعي الذاتيّ لدى الشعوب الأرثوذكسيَّة تجاه الخَطَرَيْن المزدوجيْن المتمثِّليْن من الشرق أو الغرب، اللَّذيْن كانا كبيرَين؛ بل كان لها بُعدٌ آخرٌ بنفس القدر التي من خلالها بَدا أنَّهم حقَّقوا نجاحًا أقلّ، ليس لأنَّ تعاليمهم كانت بلا تأثير ولكن لسوء الحظ منذ العام 1821 انقطعت الدولة اليونانيَّة الحديثة عن التقليد اليونانيّ الأرثوذكسيّ. لقد تخلَّت عن التعليم اليونانيّ المسيحيّ واسترشدت بالوصاية الغربيَّة وانقلبت على تراثها البيزنطيّ ضدَّ قدِّيسي وآباء الكنيسة، ضدَّ كل ما هو مقدَّس للأُمَّة.

 

من المعروف أنَّ قدِّيسي الكولِّيفاديس، وخاصَّةً القديس أثناسيوس من باروس، تواجهوا مع مؤيِّدي التنوير الأوروبيّ في اليونان الحديثة الذين تبنُّوا أفكار التنوير الفرنسيّ والثورة الفرنسيَّة وحتَّى إلحاد فولتير والذين حاولوا توجيه مسار الثقافة اليونانيَّة الحديثة نحو العصور الكلاسيكيَّة القديمة وتمجيد الحكمة الدنيويَّة ومعرفة العصور القديمة والتأكيد عليها، فيما ازدروا بالحكمة الإلهيَّة أو تجاهلوها. كان العلمُ والعقلانيَّةُ والمعرفةُ والحريَّةُ الآلهةَ الجديدةَ لعقيدة التنوير. كانت التركيبة البيزنطيَّة التي تُصان فيها العناصر الصحيَّة للروح اليونانيَّة القديمة وتُعزِّزها وتحثُّها في خدمة الرسالة الإلهيَّة للمحبَّة والتواضع والمصالحة المستمدَّة من تعليم إنجيل الصليب قد أُهمِلت واستُخفَّ بها. كان بشكلٍ أساسيٍّ شكلًا جديدًا من أشكال الاضطِهادات ضدَّ الكنيسة، على غرار محاولات الأمبراطور يوليانوس الجاحد في القرن الرابع إحياء الهللِّينيَّة المَحضة بدل المسيحيَّة، ومحاولات برلعام الكلابري في القرن الرابع عشر لإدخال سكولاستيكيَّة وعقلانيَّة النهضة الغربيَّة إلى الأرثوذكسيَّة البيزنطيَّة رافضًا المنهج المجرَّب والحقيقيّ للاستنارة والكمال الذي اتَّبعه آباء الكنيسة ويشدِّد على الحكمة الإلهيَّة من دون رفض الحكمة البشريَّة أو الدنيويَّة. منع آباء القرن الرابع الثلاثة باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتيّ ويوحنا الذهبي الفم بتعليمهم اليونانيّ الكلاسيكيّ الرائع مثل القدِّيس غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر طريق العودة إلى الكلاسيكيَّة المؤذية التي تضع المخلوق فوق غير المخلوق، والحكمة البشريَّة فوق الحكمة الإلهيَّة، كما قال الراهب المبارك خريستوفورس في ملاحظته عن المسار الخاطئ الذي اتَّخذه بعد العام 1821 العلماء والإكليروس اليونانيّون الذين أصبحوا غربيّين والذين تبنُّوا بالكامل أفكار التنوير الأوروبيّ.

 

من الجدير بالذكر أنَّ الأبطال الثوريِّين لعام 1821 مثل كولوكوترونيس (Theodoros Kolokotronis) وماكرييانِّيس (Yannis Makriyannis) وبابافلاساس (Grigorios Dimitriou Dikaios-Flessas, known as Papaflessas) وآخرين، الذين نشأوا في روح التقليد، قد شعروا بالخيانة في هذه المرحلة. لقد ناضلوا لتحرير اليونانيين من الأتراك جسديًّا، والآن يرون اليونان مستعبَدة روحيًّا ومُسَلِّمة نفسها للأوروبيِّين.

 

عادت اللَّيْتَنة (latinisation) في شكل غَرْبَنة (westernization) ونمط أوروبيّ (europeanisation). حاول الغرب، الذي لم يكن قادرًا على "تنوير" بيزنطية الحرَّة مع برلعام الكلابري، أي إغراق اليونانيين في الظلام، لأنَّ القدِّيس غريغوريوس بالاماس كان يتفاعل مع الحركة الهدوئيَّة، ولا لاحقًا تحت الاحتلال التركيّ بسبب الحركة الهدوئيَّة للكولِّيفاديس، مرَّة أخرى بعد العام 1821 وضع الدولة اليونانيَّة الحديثة والتعليم والثقافة تحت الوصاية الروحيَّة. مع ذلك، انهزموا مرَّة أخرى.

 

كان للكولِّيفاديس، الذين شُتِموا حتَّى بالاسم الذي أُطلِقَ عليهم، تأثيرٌ عميقٌ على الإيمان والحياة الأرثوذكسيَّين كخلفاء حقيقيين للتقليد الآبائيّ الهدوئيّ. كلٌّ من الجبل المقدَّس، الذي ربَّاهم، والقدِّيس غريغوريوس بالاماس يمكنهما أن يفخرا بهؤلاء المعلِّمين العظماء للأرثوذكسيَّة والأُمَّة.

 

https://pemptousia.com/2017/01/the-kollyvades-movement-and-its-significance/

 

 

[1] الآباء المقصودون هنا هم ربَّما الأقمار الثَّلاثة: باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم، أو أعمدة الكنيسة الأرثوذكسيَّة: فوتيوس الكبير وغريغوريوس بالاماس ومرقس الأفسسي (المُعَرِّب).



آخر المواضيع

ماذا حَلَّ بِكنيسة أعمال الرّسل؟
الفئة : زمن البندكستاري

الأب جيمس جرجس 2023-05-27

آلام المسيح تَغلبُ الموت.
الفئة : زمن البندكستاري

الأرشمندريت إفرام، رئيس دير الفاتوبيذي. 2022-06-11

قيامة المَسيح
الفئة : زمن البندكستاري

2022-06-01

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا