ترقّب يوم الدينونة أتظنّون أن الله ينام؟

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان


رئيس دير رقاد والدة الإله بكفتين

عن نشرة الكرمة العدد 8، أحد مرفع اللحم في 23 شباط 2020

يوم الدينونة ليس غريبًا عن حياتنا التي نعيشها الآن. فمنذ زمن تجسّد المسيح بدأت المرحلة الأخيرة من سرّ تدبير خلاص الإنسان، مرحلة ترقّب ملكوت السماوات، والمسيح نفسه عرَّفَنا عن هذه الحقيقة حين أعلن في بداية كرازته عن اقتراب "ملكوت السماوات". لهذا تجسّد المسيح كان بداية النهاية، والآن نحن ننتظر استكمال النهاية والاستعلان الأخير لملكوت السماوات، الّذي سيلي يوم دينونة جميع البشر. فالمسيح حدّثنا بوضوح أنّه "أقام يومًا هو فيه مُزْمعٌ أن يَدينَ المسكونة بالعدل" (أع31:17)، ويجازي "كل واحد حسب أعماله" (رو6:2).

كثيرون في هذا الزمن الحاضر، يُحاولون إنكار حقيقة الدينونة الأخيرة وترقّب ذلك اليوم الرهيب، أو على الأقل تهميش هذه الحقيقة؛ يُحاولون نزع كل فكرة تذكّرنا بالموت والدينونة. فيما الكتاب المقدّس، من العهد القديم، يصف ذلك اليوم أنّه سيكون يوم ضيق رهيب، "أليس يوم الرّبّ ظلامًا لا نورًا، وقَتامًا ولا نور له؟" (عاموس20:5)، "يوم نار تأكل الأرض كلّها" (صفنيا18:1)؛ هوذا يوم الرّبّ قادمٌ، قاسيًا بسَخَطٍ واضطرام غضب، ليجعل الأرض خراباً ويبيد خطأتها منها" (اش9:13).

 عمل الكنيسة كان دائمًا التذكير بحقيقة الدينونة. يقول القدّيس بوليكاربوس من القرن الثاني، "إن الّذي ينكر القيامة والدينونة هو ابن الشيطان البكر".

يسأل كثيرون في زمننا عن علامات الأيام الأخيرة والدينونة، وإن كانت قد بدأت تظهر معالمها. يتكلّم الكتاب المقدّس بوضوح عن تلك الأيام، وعن ازدياد الاثم وتعاظم الشرّ الطبيعيّ والخلقيّ فيها. تفاقم ثورات الطبيعة ليس سوى نتيجة حتميّة لتعاظم تجديف الإنسان وارتداده عن الله. وعلامة الارتداد الشامل ستكون ظاهرة في حياة الناس. ومن اللافت للنظر أنّ علامات الزمن الأخير، كما يذكرها بولس الرسول، هي العلامات ذاتها التي سبقت المجيء الأوّل للمسيح. قبل مجيئه الأوّل كانت مجتمعات الأمم تعيش في شذوذ جنسيّ مقيت، استبدل فيه الناس استعمال أجسادهم الطبيعيّ "بالّذي على خلاف الطبيعة". وكانوا "مملوئين من كلّ إثمٍ وزنًا وشرّ وطمعٍ وخُبثٍ، مشحونين حسَدًا وقتلاً وخصامًا ومكرًا وسوءًا، نمّامين مفترين، مبغِضين لله، ثالبين مُتعظّمين مُدَّعين، مُبْتدِعين شُرورًا، غير طائعين للوالدين، بلا فَهْمٍ ولا عَهدٍ ولا حُنُوٍّ ولا رضىً ولا رحمة" (رو29:1-31).

هكذا كانت حياة العالم قبل المجيء الأوّل للمسيح. ويتكلّم الرسول بولس عن الحالة التي سيكون عليها الناس قبل المجيء الثاني للمسيح: "أنّه في الأيّام الأخيرة ستأتي أزمِنةٌ صعبةٌ، لأنّ النّاس يكونون مُحبّين لأنفُسهم، مُحبّين للمال، مُتعظّمين، مُستكبرين، مُجَدّفين، غير طائعين لِوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حُنُوٍّ، بلا رضًى، ثالبِين، عديمي النّزاهة، شَرسين، غير مُحبّينَ للصّلاحِ، خائنين، مُقتحمين، مُتصلّفين، مُحبّين للّذّات دون محبّةٍ لله، لهم صورة التّقوى، ولكنَّهم منكِرون قوّتها" (2تيم1:3-5). وأخطر الكلّ، وهو من دلائل الأيام الأخيرة، هذا الانتشار المقيت للشذوذ الجنسيّ وتشريعه في زمننا، الّذي ليس هو سوى صورة عن اكتمال الفساد.

هكذا كان العالم يعيش في وثنيّة بشعة، دخل الإنسان في عبادة ذاته، وأصبحت أهواؤه هي آلهته، يعبدها ويُغذّيها، يعيش ليُشبع غرائزه وشهواته بطريقة حيوانيّة. أتى المسيح فغيّر صورة هذا العالم الجاحد ومبادئه وكل طريقة حياته. أصبحت مبادئ الإنجيل هي الروح التي على أساسها سنّت الشعوب المختلفة، التي عرفت الإنجيل، قوانين حياتها العامّة. ولكن في الأيام الأخيرة، التي ستسبق يوم المجيء الثاني للمسيح، سيعود العالم من جديد، بحسب بولس الرسول، إلى هذه الوثنيّة الجديدة، التي ستبطل كل مبادئ الإنجيل، وهي تُعظّم أنانيّة الإنسان ولا ترى فيه سوى شهوات وغرائز حيوانيّة؛ هذه الوثنيّة التي تهدم عمل الله وكل حياة خليقته "الحسنة جدًّا"، لتجعلها "بشعة جدًّا".

ومن علامات اقتراب يوم الدينونة، اضطهاد مُخيف للمؤمنين الحقيقيّين. والقليلون الّذين سيثبتون مع المسيح الحقيقيّ ويُقاومون المسيح الدجّال الّذي سيخلقه إبليس، سيهربون إلى البراري. الكنائس العامّة ستخضع لروح الارتداد، وعبادتها لن تكون مقبولة من الله. يقول هيبوليتوس، من القرن الثالث، في وصفه للأيام الأخيرة: "والكنائس أيضًا ستنوح وتولول في بكاء عظيم، لأنّه لن يكون هناك ذبيحة قربان ولا بخور يقدّم ولا خدمة مقبولة أمام الله، بل تصبح الهياكل كناطور الكروم. ولن يكون جسد ولا دم، وتتوقّف الخدمة العامة ويبطل التسبيح بالمزامير ولا تُسمع قراءة أسفار، بل يكون ظلام للناس ونوح على نوح وويلات على ويلات".

فإبليس، الّذي لا ينام، استطاع في الزمن الحاضر أن يفرض ناموسه الجديد على البشر، "الّذين استبدلوا حقَّ الله بالكذب" (رو25:1)، استبدلوا ناموس النعمة بناموس الخطيئة والارتداد عن الحقّ. "ولكنّ الرّوح يقول صريحًا: إنّه في الأزمنة الأخيرة يرتدّ قومٌ عن الإيمان، تابعين أرواحًا مُضلّةً وتعاليم شياطين" (1تيم1:4).

ما علاقة الحقّ بالمسيح؟ ما يعنيه الرسول بولس هو الارتداد عن الإيمان المستقيم الحقيقيّ، وليس عدم الإيمان الكليّ. من انحرف عن الإيمان المستقيم يتبع تلقائيًّا أرواح الشياطين. لهذا سيكثر في الزمن الأخير وجود الأنبياء الكذبة، آباء كل البدع والهرطقات، الّذين يعملون بإرادة الشيطان، الّذي من البدء يكره كنيسة المسيح الحقيقيّة وعقائدها وقوانينها الإلهيّة.

لهذا، يوم الدينونة العادلة، كما يصفه متّى الإنجيليّ، أعمال الناس ستُقاس بمقياس روح الإيمان ومعرفة المسيح. لن تكون الأعمال مقياسًا بحدّ ذاتها، إنّما أعمال الإيمان ومعرفة ابن الله. "الّذي يُؤمن به لا يُدان، والّذي لا يُؤمن قد دين، لأنّه لم يُؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يو18:3). ارتباط الأعمال بالإيمان بالمسيح واضح في الكتاب: "إنّ من يسمع كلامي ويُؤمن بالّذي أرسلني فله حياةٌ أبديّة، ولا يأتي إلى دينونة" (يو24:5).

أعمالنا الصالحة تستحقّ مكافأة الله إذا كانت ثمرة لهذا الإيمان الحقّ. من المستحيل الوصول إلى المسيح بواسطة الأعمال الخارجيّة مهما كانت حسنة، إنّما بواسطة تحوّل القلب الداخليّ عبر الإيمان الأرثوذكسي الحقيقيّ. فالحقّ هو عطيّة الله الكاملة لكي يستطيع الإنسان أن يتبع المسيح الحقيقيّ ويعمل الفضيلة بالنعمة لا بالأهواء. خارج الحقيقة لا يوجد مسيح ولا إيمان ولا أعمال صالحة، إنّما عبادة وثن وأهواء بشريّة وشهوات قلوب تميل إلى النجاسة.

قد تكون دينونة هذا العالم قد اقتربت. لقد تجاوز فساد العالم ذاك الّذي كان لسدوم وعمّورة، وذاك الّذي كان لأهل نينوى، وللعالم كلّه قبل طوفان نوح. كل هذا الارتداد وهذا التجديف، كل هذه الشرور وهذا الفساد، أليس له نهاية؟ أتظنّون أن الله ينام وسيسمح بأن يزول اسمه من بين الشعوب وأن يُجدّف عليه بأعمال نجاساتهم. أتظنّون أنّ الله ينام وسيسمح بأن تغلب شرور الناس خليقته الحسنة ويشوّهوا عمل يديه. إنّ غضب الله آتٍ على البشر، "يأكلون ويشربون، ويتزوّجون ويُزوّجون"، وفجأة يأتي الطوفان (مت38:24).

الله يحتاج إلى مسيحيّين تائبين، وحدهم التائبون يمكنهم أن يُغيّروا قرار الله باستعجال الدينونة. دعوة المعمدان والمسيح: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات"، تعني توبوا فقد اقتربت دينونة الله، وأن لا أحد يدخل ملكوت السماوات من دون توبة. وحيث توجد التوبة الحقيقيّة لا توجد دينونة. لكن، لا يبدو أن العالم سيعود إلى توبة صادقة، كما عاد أهل نينوى قديمًا. واضح أنّ إثم العالم وجحوده وارتداده عن المسيح الحقّ قد استفحل ولا عودة عنه، وهذه هي علامة الزمن الأخير الكبرى.

الله لا ينام، وإن كان ما زال يمهلنا رغم خطايانا وعدم حملنا ثمار التوبة، فهذا لأجل المختارين، البقيّة التي ما زالت تصوم وتصلّي وتتوب لتخلص وتُقاوم بجهادها فساد وإثم هذا العالم. وبمقدار ما يتناقص عدد هؤلاء المجاهدين بهذا المقدار تقترب دينونة الله، حيث يدّخر غير التائبين لأنفسهم "غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رو5:2).

 

 



آخر المواضيع

آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-10-12

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-29

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا