الرُّوحانيّة الأرثوذكسيّة وروحانيّات البِدع
الأرشمندريت المتوحّد غريغوريوس اسطفان
رئيس دير رقاد والدة الإله- بكفتين
عن نشرة الكرمة العدد 13- الأحد الثالث من الصوم
لم تعرف الأرثوذكسيّة يومًا هذا الاِنفصال بين اللّاهوت والحياة الرّوحيّة أو حياة التّقوى.
فاللّاهوت العقَائديّ الأرثوذكسيّ لم يَنمُ كعلم مجرّد، إنّما كان مواهبيًّا، ارتبط دائمًا بخبرة معرفة الله الرّوحيّة. ما تؤمن به الكنيسة تعيشه في أسرارها الإلهيّة؛ والصّلاة والحياة النّسكيّة، في مجملها، هي الوسائل الوحيدة التي تجعل النفس مهيَّأة للدّخول في عمق هذه الحياة الأسراريّة والاِمتلاء من معرفة حيّة ومباشرة لله.
فاللّاهوت العقَائديّ الأرثوذكسيّ لم يَنمُ كعلم مجرّد، إنّما كان مواهبيًّا، ارتبط دائمًا بخبرة معرفة الله الرّوحيّة. ما تؤمن به الكنيسة تعيشه في أسرارها الإلهيّة؛ والصّلاة والحياة النّسكيّة، في مجملها، هي الوسائل الوحيدة التي تجعل النفس مهيَّأة للدّخول في عمق هذه الحياة الأسراريّة والاِمتلاء من معرفة حيّة ومباشرة لله.
فالحياة الرّوحيّة النسكيّة، في الأرثوذكسيّة، ليست سوى الحياة العمليّة للاهوت الكنيسة العَقَائديّ.
لقد صارعت الكنيسة، في فترات عديدة في تاريخها، لتحفظ لاهوتها المواهبيّ مقابل إغراء الفلسفة الإنسانويّة الآتية من الغرب. الفلسفة الإنسانويّة، التي تركّز على قدرات الإنسان البشريّة بمعزل عن معونة الله، أتت نتيجة حتميّة للاهوت المقاربة الأكاديميّة لمعرفة الله، في محدوديّة العقل والمنطق البشريَّين.
نتيجة هذا التحوّل الحتميّة للّاهوت الغربيّ، كانت تغيّرًا في الروحانيّة من الجهاد النسكيّ للنّفس والجسد، لأجل تطهير القلب من الأهواء وبلوغ معرفة الله، إلى جهاد عقلانيّ، والاِكتفاء باقتناء حياة خُلُقيّة صالحة ممدوحة.
من ناحية أخرى، وبفعل عقلنة الإيمان التي نتجت عن الحركات الإنسانويّة والمذهب السكولاستيكيّ، أخذت تنتشر في الغرب تقوًى شعبيّةٌ، أو نوع من التصوّف، قامت مبادئُه الرّوحيّة على تقوًى عاطفيّة تحرّكها الأحاسيس والمشاعر البشريّة، مع التّشديد على معاناة المسيح وعلى آلامه ودمه وعرقه، وطلب اختبار هذه الآلام الحسّيّة.
ومع ازدياد هذه الخبرات، القائمة على ظهورات وعجائب مُضلّلة، واختبار آلام المسيح في خبرة الجراح، ازدادت الحركات الدّينيّة تغرّبًا عن التقليد النسكيّ، وابتدعت كلّ واحدة ما يُناسبها من أساليب التقوى في الحياة الرّوحيّة.
ولم تتوقّف هذه الحركات الدينيّة مع الزمن بل استمرّت تمتدّ، حتّى زمننا المعاصر، تحت أشكال وأسماء متعدّدة، وكلّها تبني حياتها الرّوحيّة على هذه الحالة العاطفيّة الحماسيّة، وتقوم في مجملها على اتّباع نمط بشريّ صرف في التأمّل والتفكير والتخيّل. هذه الخبرات لا يمكن أن تحرّك أكثر من الأحاسيس الخارجيّة للنّفس البشريّة. الحياة الرّوحيّة في الأرثوذكسيّة هي فوق كلّ هذه الأساليب الحسّيّة والعقلانيّة.
الله متسامٍ على كلّ أحاسيسنا البشريّة المريضة بالأهواء. في الأرثوذكسيّة، الإيمان بالله ليس مسألة عقلانيّة، ولا يمكن البلوغ إليه عبر الصّوَر الحسّيّة أو المشاعر أو المفاهيم الّتي نتقبّلها في ذواتنا. الإيمان الحيّ هو نموّ في خبرة معرفة الله، لهذا يتطلّب نسكًا وتطهيرًا حقيقيًّا للقلب.
الله يكشف ذاته في قلوب تلك الأجساد الّتي ماتت، بالنّسك، عن أهواء هذا العالَم. كلّ إعلانات الله للبشر لا تُدرَك بالعقل ومنطقه بل بالخبرة الهدوئيّة، خبرة التطهّر والاِستنارة.
وهكذا، طريق خلاص الإنسان هي واحدة، نسكيّة هدوئيّة، تتمّ من خلال جهاد ضدّ الأهواء لا يلين، والغاية هي تقديس الذّات. يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "الحياة النسكيّة هي أمّ التقديس؛ إنّها تذوّق مسبق لأسرار المسيح... نقِّ جمال عفّتك بالدموع والأصوام..." إنّه في الضيقات لا في الرّاحة امتُحن القدّيسون في محبّتهم للمسيح...
فالصّلاة، ترافقها الجهادات الجسديّة المختلفة: الصّوم، السّهر، وتعب السّجدات، هي المدخل الوحيد إلى الحياة الرّوحيّة، وكلّها تدفع القلب إلى التواضع والاِنسحاق والتّوبة وتوجّه النفس بثبات نحو الهدف الواحد الّذي هو بلوغ الحياة بيسوع المسيح.
وهذه الغَيرة النسكيّة، التي تُحرّكها محبّة المسيح، ليست سوى تعبير عن موت الإنسان عن محبّة الذّات الأنانيّة ومحبّة هذا العالم. هكذا تتهيّأ النفس البشريّة لسكن النّعمة الإلهيّة فيها التي تحقّق فيها كلّ برٍّ وصلاح.
هذه هي الطريقة التي تكسر تعظّم الأنا البشريّة وتقود إلى الاِتّضاع الّذي فيه يكتمل إحساس الإنسان بخطاياه وبحاجته إلى التوبة المخلِّصة.
في الجهادات النسكيّة تولد الصّلاة الرّوحيّة لا في التأمّلات، التي يتذوّق فيها الإنسان محبّة الله. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "حين نصلّي نحتاج، بالتأكيد، إلى التعب الجسديّ الّذي يولّده السّهر والصّوم وما إليهما".
الحياة الرّوحيّة لا تتجزّأ، إنّها خبرة واحدة عاشها آباؤُنا القدّيسون، وهي ذاتها بدون توقّف.
أمّا كلّ هذه البدع وروحانيّاتها الكاذبة الناشطة في رعايانا الأنطاكيّة، التي تنشر خبرات غريبة كلّيًّا عن تقليدنا النسكيّ، تدّعي تجديد الرّوح في الكنيسة، من الكاريزماتيك وصولاً إلى حركة تيزي Taizé المعاصرة، التي يحاول البعض التّرويج لها بين شبابنا، فلَيست سوى شعوذات وأضاليل هدفها علمنة الحياة النّسكيّة الأرثوذكسيّة الآبائيّة والتّرويج لروحانيّة مسكونيّة تُهمّش كلّ طريقة الجهادات الرّوحيّة الأرثوذكسيّة، على طريقة الحوارات المسكونيّة المعاصرة التي تهمّش كلّ خصوصيّة الإيمان الأرثوذكسيّ.
لهذا، هذه الحركات ليست سوى امتداد لروح العولمة الدّهريّة؛ ومهما ادّعت من خبرات روحيّة فخبراتها فاسدة ومُضلِّلة، مجبولة بأهواء الإنسان الأرضيّ في حالته الساقطة.
كلّ الرّوحانيّات التي تنشأ خارج الخبرة الأرثوذكسيّة، خبرة الجهاد الرّوحيّ الأرثوذكسيّ، هي روحانيّات نفسانيّة كاذبة، تُعطي الإنسان راحة نفسانيّة لا علاجًا روحيًّا وشفاءً من أهوائه. وهي، حتمًا، لا تقود إلى تطهير القلب وإلى خبرة معاينة الله. تدعو هذه البدع المتنوّعة إلى روحانيّة لكن من دون نسك، روحانيّة ترضي أهواء الإنسان الساقط وراحته ومحبّته للّذّة، بدلاً من قمع هذه الأهواء. لا خلاص إلّا عبر صليب المسيح. الصّليب يعلّمنا إنكار محبّة الذات والثبات واحتمال آلام النسك والتجارب وسخط الشّياطين، حبّاً بالمسيح الذي احتمل كلّ شيء من أجلنا.
الرّوحانيّة الأرثوذكسيّة تعتبر النّسك الجسديّ هو المعين الأكبر في تجميع الذّهن إلى ذاته.
أمّا هذه الطريقة في التأمّل للحركات والرّهبنات اللّاتينيّة فهي مؤذية للّذين ما زالوا تحت سلطة الأهواء، لأنّها تقودهم، بسهولة، إلى التخيّلات والتشتّت في صور أهوائيّة وإلى تقبّل إيحاءات إبليس.
مَن تحرّر من سلطة الأهواء يصِر يسوع المسيح هو الصورة الوحيدة في ذهنه وقلبه؛ حينها لن يوجد خطر في التأمّل لأنّه يُصبح حقًّا طريقًا للنموّ في التّوبة وفي محبّة الله.
الرّوحانيّة النّسكيّة في الصّلاة الهدوئيّة، وحدها تقود إلى معاينة صحيحة وحقيقيّة لمجد الله الأزليّ غير المخلوق. الرّوحانيّة الحقيقيّة هي اشتراك حقيقيّ في نعمة الله غير المخلوقة.
كما أنّ الإيمان هو واحد، وعقائده هي واحدة، هكذا خبرة الكنيسة الرّوحيّة هي واحدة، وطريق جهاداتها الرّوحيّة هي واحدة.
هذا ما ينبغي للكنيسة السّاهرة على خلاص أبنائها أن تدينه، لا أن تسمح بتسرّب الفساد الرّوحيّ إلى إيمانها وأسرارها وإلى مسيرة جهاد أبنائها.
ألا يعلم أولئك الّذين يسمحون بهذه الأمور أنّهم يُصبحون كبلعام، "الّذي كان يُعلّم بالاق أن يُلقيَ مَعْثَرةً أمام بني إسرائيل: أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان، ويزْنوا" (رؤ14:2)؟
آخر المواضيع
آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
الأشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-10-12
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-29
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-28
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني