صوم وعيد


الأرشمندريت غريغوريوس اسفان

رئيس دير رقاد والدة الإله بكفتين

عن نشرة الكرمة عدد 52

أحد النسبة- في 24 كانون الأول 2017

قبل الأعياد الكبيرة توجد أصوام كبيرة، على قياس قامة العيد. كلّ صوم هو فرصة لنتذكّر ونتوب؛ وكلّ عيد هو فرصة لندخل في سرّ الحدث الذي نحتفل به. في الميلاد، لنا فرصة الدّخول في سرّ الإله الّذي، قبل أن يدين، يُحبّ ويبذل نفسه لأجل أحبّائه. إن صُمنا وقاتلنا العدوّ الذي يُحاول إبعادنا عن المسيح، عبر إغراقنا في انشغالات التحضيرات الدنيويّة للعيد، فإنّ المسيح سيكشف حضوره فينا، لا على الأرض المنظورة ولا في السماء غير المنظورة، إنّما في هذا المذود الصغير، قلبنا، المنظور وغير المنظور.

مَن يصُم حقيقة، بالتّوبة والدّموع، ينتظرِ العيد ليحتفل به بالسّهر والصلاة والتمجيد. هكذا يستحقّ المسيحيّون الحقيقيّون أن يحتفلوا بأعيادهم ويدخلوا في أسرار تدبير مسيحهم. الأعياد هي للصائمين، وغير الصائمين غير قادرين على أن يدركوا شيئًا من جوهر هذه الأعياد. لا لأنّ الله لا يقبلهم، إنّما من ذاتهم هم غير قادرين على لقاء الله؛ هكذا، الله لم يختبئ عن آدم، إنّما آدم كان غير قادر على مواجهة الله، لأنّه تهاون واستسلم للشهوة. إنّ الصّوم بمعرفة وإدراك يعني شيئًا واحدًا: جهادًا لا يلين ضدّ الخطيئة التي في داخلنا، ضدّ الأهواء والشّهوات التي تقف حاجزًا بيننا وبين الله. هذه هي الذبيحة التي يقدّمها الإنسان لله في أعياده: نفسٌ مُجاهدة تُحبّ الأصوام، وتكره الأهواء والشّهوات. لهذا نقول: من لا يصوم لن يعرف أبدًا معنى العيد.

صوم الميلاد دخل لاحقًا إلى حياة الكنيسة، بعد فترة من دخول العيد في القرن الرّابع، وذلك لأنّ الكنيسة نظّمت حياتها الليتورجيّة تدريجيًّا. لا شيء في الأرثوذكسيّة نزل من السماء كما هو، لكن حقًّا كلّ شيء فيها أُوحي به من السماء. نعمة الرّوح القدس موجودة دائمًا في الكنيسة، لكنّها تُعطى لمن يشترك فيها باستحقاق. نحن نعلم، يقينًا، أنّ الله يُعطي نعمة خاصّة في أعياد الكنيسة، نعمة فائضة للّذين يشتركون في هذه الأعياد بتعب الصّوم والتّوبة. أمثال هؤلاء يكونون حقًّا مع المسيح في أعياده وأعياد قدّيسيه.

وذكرى هذه الأعياد لا تأخذ معناها العميق إلّا في اللّيتورجيا. هناك تتحوّل الذكرى من مستوى العقل المجرّد إلى الشركة الحقيقيّة للإنسان في هذه النعمة الإلهيّة الّتي توجد في العيد. خطأ كبير ما يحصل في الرعايا، اختصار اللّيتورجيا، وإقامة قدّاس العيد في المساء، ساعة أو ساعتين، وينتهي ما هو للمسيح ويبدأ ما هو للعالم. بالطبع إنّ احتفالنا العائليّ وأكلنا وشربنا ليست عائقًا أمام التعييد. الخطأ هو في تحوّل هدف العيد إلى هذا اللقاء الدنيويّ، بدلاً من عيش حدث الميلاد في السهر والصّلاة الليليّة، مع المسيح المولود من أجلنا. أيُّ معنًى يبقى للعيد حين يبدأ بقدّاس سريع يشترك فيه المؤمن بدون تهيئة مسبقة، وكأنّه واجب اجتماعيّ، وينتهي بالسهر طوال اللّيل إلى الموائد الدنيويّة؟ لا يجوز أن يُقام هذا العيد مساءً، المساء ليس يوم العيد.

هذا كي لا نقول إنّ كلّ فكرة القدّاس المسائيّ هي خطأ. هذه هي خطيئة الكنيسة التي لن تُغفر لها، حين تبدأ بالرّضوخ لتهاون أبنائها، مكرِّسة لهم طريقة حياتهم الدنيويّة، التي تتجاذبها الأهواء والضعفات. الكنيسة التي يهمّها خلاص الناس، وهم سيكونون قلّة، بقيّة، لا تتنازل عن حرف واحد من ناموسها الروحيّ، الّذي ينتشل مؤمنيها من الغرق في الدنيويّات ويوجّههم إلى اشتهاء ما هو لله فقط. الحاجات الرعائيّة لا تُبيح التنازل عن قواعد الحياة اللّيتورجيّة؛ لأنّ هدف الكنيسة في هذا العالم ليس تجميع أعداد من البشر يكتفون بالحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة الكنسيّة، إنّما إعداد قدّيسين، من خلال عيشهم ملء هذه الخبرة اللّيتورجيّة الروحيّة.

لهذا الهدف تجسَّد المسيح، ليوجّه كلّ مسيرة حياتنا إلى السماء. الخطر الحقيقيّ الّذي تواجهه الكنيسة اليوم لا يُحدّد فقط في هذا التعييد الدنيويّ لميلاد المسيح، بل أكثر، في أن يقودنا العالم إلى طمس كلّ حقيقة وكلّ هدف تجسّد المسيح، كما حصل في الغرب المسيحيّ حيث المسيحيّة تحوّلت إلى نظام أخلاقيّ، هدفه المجتمع المثاليّ، لا الإنسان الجديد، المتّحد بقيامة مسيحه.

لقد انتظرت البشريّة هذه اللّيلة آلاف السنين. كلّ مسيرة العهد القديم اكتملت في هذه اللّيلة التي سيتجسّد فيها الإله ويصير إنسانًا. ويشهد التاريخ أنّ الله احتمل، بصبر كثير، ضُعفات البشر وخطاياهم وآثامهم، حتّى صاروا قادرين على أن يقبلوه كأبناء لا كعبيد. هذا ما يعنيه "ملء الزمان". ملائكة من السماء أتَوا ليبشّروا الخليقة بهذا الحدث. مجوس من المشرق البعيد أتوا؛ لا بدّ وأنّهم عاينوا حركة الملاك الذي بشّر بالحَبَل بالمسيح في بطن العذراء، حتّى أنّهم وصلوا يوم مولده. صاموا وتعبوا ثمّ عيّدوا مع المسيح نفسه.

حياتهم كانت انتظارًا وترقّبًا لهذا الحدث العظيم الذي سيعاينون فيه ربّ الكواكب والنجوم آتيًا في جسد لخلاصهم. وأمّا نحن فبعجلة، في هذا القدّاس الإلهيّ المستعجل، وكأنّنا نقول للمسيح: لك أعيادك ولنا أعيادنا. لا بدّ للكنيسة من أن تُذكّر مؤمنيها بأنّ ملكوت الله "ليس أكلاً وشربًا، بل برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس" (رو 17:14)؛ وهذا يتحقّق حصرًا في الكنيسة، في أصوامها ودقّة عيشها لإيمانها ولحياتها اللّيتورجيّة.

لقد نسِي المسيحيّون أنّ التجسّد الإلهيّ كشف كيف أنّ الله يبحث عن الإنسان لا ليقيّد حريّته، إنّما ليُعطيه ذاته. لم يأتِ الله كعظماء هذا الدهر؛ الله كشف نفسه بهذه الطريقة المتواضعة، ليس فقط ليظهر بالفعل أنه "وديع ومتواضع القلب"، إنّما لأنّ هذه الطريقة هي الوحيدة التي لا تُمارس تأثيرًا سلبيًّا على حرّيّة الإنسان في إيمانه بالله. في هذا التجسّد الوضيع، أبقى الله للإنسان فرصة ليكتشف فيها الله.

الله لم يخلقنا للموت بل للحياة. هدف التجسّد أن يلدنا ثانية من هذا الموت الأبديّ، الذي قبلناه باختيارنا. "لأنّ ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك" (لو10:19). وتراتيل العيد تعلّمنا كيف نتهيّأ لهذا الخلاص الآتي: "هلمّوا يا مؤمنون لنرتقِ بالرّوح ولنعاين تنازلاً إلهيًّا في بيت لحم، ونسبق فنهيّئ مداخل عيد الميلاد مطهّرين عقولنا بالسيرة الحسنة ومقدّمين الفضائل صارخين: المجد لله في العلى".



آخر المواضيع

آباء الفيلوكاليا
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-10-12

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-29

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (2/3)
الفئة : عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 2024-06-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا