في الحياة الروحيّة واتّضاع الفكر
في الحياة الروحيّة واتّضاع الفكر
الشّيخ ذيونيسيوس (إغناطي)
نقلته إلى العربيّة: دونّا جرجس
لقد لَمَعَ الشّيخ ذيونيسيوس الأعمى الرّومانيّ الآثوسيّ (١٩٠٩-٢٠٠٤) بموهبة الرّؤيا خلال حياته. وقد حظيَ بتكريمٍ كأبٍ روحيٍّ في جبل آثوس، وسيتمّ إعلان قداسته بعد عام من الآن. وقد دوّن نصائحه بجهدٍ العديد من أولاده الرّوحيين والحجّاج، ومن ثمّ تمّ جمعها في كتب. لنلقِ نظرة إلى إحداها، ولنتنعّم بغذاءٍ روحيّ وفير يقدّمها لنا الشيخ الحكيم الموقّر، البار ذيونيسيوس الآثوسيّ الحديث.
«لماذا قال الآباء القدّيسون إنّه يجب علينا أن نعتبر الناس من حولنا قدّيسين؟ وذلك لكي تصبح أنتَ قدّيسًا. إذا اعتبرتهم قدّيسين، فإنّكَ بذلك تتّضِع. ومتى اتّضعت تصبح قدّيسًا. في النّهاية، وفقًا لجميع التّعاليم والأعْراف، أعظم المعاصي أمام الله هي الكبرياء».
ماذا يمكنك أن تفعل إن كنت لا تفكّر باللّه؟
أيّها الأب، يأتي إلى الأديار مؤمنون علمانيّون ويخبرونا بأنّهم يعانون من إخفاقاتٍ في أعمالهم، وبأنّهم لا يستطيعون القيام بما خطّطوا له، ويسألون لماذا.
كما ترى، حين يصرخ أحدٌ: «ساعدني يا ربّ!» يُسرع الرّب لمساعدته. ولكن ليست كلّ رغباتنا حسنة. وبما أنّ رغباتنا تؤدّي إلى الشّرّ وإلى هلاك نفوسنا، فيُبطئ الله في المساعدة. وقد يحدث أنّه لا يساعدكَ أحيانًا لمصلحتك!
عندما نطلب أمرًا ما ويكون طلبنا متوافقًا مع مشيئة الله، وهو، بما أنّه الله، يعلم أنّه عندما يستجيب طلبتكَ، سَتَفي بوعدكَ وتبقى بالقرب منه، يساعدك على الفور. لأنّ الله وحده لا يكذب، ووحده صالحٌ. ولكن ترى، أحيانًا عندما تطلب شيئًا يؤدي إلى هلاككَ لا يستجيب لكَ. لماذا؟ لأنّه يحبّك.
وهذا يعني أنّه ربّما لم يكن طلبنا صالحًا، أو ربّما لم تكن صلاتنا غير كافية.
«صلّوا بلا انقطاع!» (1 تسالونيكي17:5). طبعًا، لدى الكنيسة صلوات متنوّعة لطلب ما نريد. ولكن في داخل كلّ واحد منّا، يمكن أن تنشأ في نفوسنا وأذهاننا صلاةٌ واحدةٌ قصيرةٌ لكنّها قويّة: «أيّها الرّبّ يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ». وإذا صرخت مع كلّ نَفَسٍ: «أيّها الرّب يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ»، حينها تُزيل الخطايا من أفكارك وخواطِركَ، ويترسّخ يسوع المسيح في قلبك.
أيّها الأب، نعرف أناسًا يتحمّلون مسؤوليّات كثيرة وهم مشغولون للغاية. ماذا تنصحهم؟ وهل يجب أن يكون لديهم قانون صلاة أيضًا؟
نعم، طبعًا. كمسيحيّ، يجب أن يكون لديكَ قانون صلاة. لا يمكنك أن تصلّيَ كما يصلّون في الأديرة، ولا أن تكون مثل الرّهبان، لكن هل من الممكن للمسيحيّ ألّا يصلّي؟ على الأقلّ اِقرأ قانون والدة الإله حينما تعود إلى منزلك أو قبل أن تستلقيَ للاستراحة. وإن لم تكن مشغولًا، من الجيّد أن تقرأ صلاة النوم في المساء. فماذا لو قرأنا جميعنا نحن المسيحيّين صلاة النوم؟ فيها صلوات لوالدة الإله؛ إنّها صلاة مفيدة جدًّا ومجدية للغاية.
ولا تصلّي بحيث عندما تستيقظ في الصّباح وترسم إشارة الصّليب، أو لم ترسم إشارة تقول: «هيّا، أسرع، نحن ذاهبون إلى العمل». بل فلنطلب المعونة من الله أوّلًا؛ فلنطلب بالصّلاة أن يكون الله معنا. وإن لم تفكّر باللّه فماذا تقدر أن تفعل؟ فأنتَ لن تفعل شيئًا. في النهاية، يقول المخلّص نفسه: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا» (يوحنّا 15: 5). وبما أنّنا غير قادرين على فعل شيء من دونه، فلنلجأ إلى صلاحه. لا يمكننا فعل الكثير والكثير، لكن القليل في كلّ مرّة، لا تتغافلوا، وحينها سيكون الله معنا.
ولكن كمسيحيّ، يجب أن يكون لديك قانون صلاة. ينبغي على العائلات قضاء ساعة للصّلاة. ساعة صلاة في المساء وفي الصباح قبل أن تغادروا المنزل ساعة أخرى، هكذا ستساعدك نعمة الرّوح القدس. المَغزى من هذا كلّه هو ألّا نكون لامباليين لأنّ هذا الأمر محفوفٌ بالمخاطر.
أيّها الأب، كيف نتصرّف مع الذين يُخطئون مرارًا وتكرارًا؟ في العمل، تسامح مرّةً واثنتين (بالطبع، نتكلّم هنا عن الأخطاء الأرضية)، وأحيانًا تطردهم عند ارتكابهم أخطاء كثيرة.
اُنظر، كم مرّة قال المسيح يجب أن نسامح؟ ليس سبع مرّات فقط، بل سبعين مرّة سبع مرّات (راجع متّى 18: 22). أترى؟ لو سامحنا سبع مرّات فقط... يخطئ المرء مئات المرّات في النّهار، لذلك، يقول المسيح نفسه إنّه بغضّ النّظر من عدد المرّات التي يخطأ فيها، فعند قوله: «اِغفر لي يا ربّ لأنّي قد أخطأتُ» فليُغفر له (راجع لوقا 17: 4).
فإنّ المرء لا يُلام على كلّ شيء. إنّه مذنبٌ لأنّه وضع الخطيئة في ذهنه وفي فكره، ألا وهي همسات الشّيطان. فنحن مذنبون لأنّنا نرتكب خطايا أنّها خطايا، ولكن اللّوم يقع على همسات العدو.
(حديث مع مجموعة من زوّارٍ من مقاطَعة ألبا)
لنطلب بفكرٍ متّضعٍ
إنّ صلاح الرّب يؤازركِ في كلّ مرّة تلتجئين إليه وتصرخينَ نحوه: «يا الله، أصلّي لك، ساعدني»! وبتلك اللّحظة بالذات، تحلّ عليكِ نعمة الرّوح القدس وتساعدكِ. ولكن، كما يقول الآباء القدّيسون، لنطلب بفكرٍ متّضعٍ. فلنحسب أنفسنا خطأة أمام الله وغير مستحقّين لمعونته: «استجب لي يا ربّ، يا مَن هو أحد أقانيم الثالوث القدوس ونزلتَ من السّماء، وتأنّستَ لتنجّينا من الشّرير، أصلّي لك، ساعدني». عندما تقولين ذلك بفكرٍ متّضع، فمن المستحيل ألّا يساعدكِ الرّب في أيّ موقفٍ كنت.
لكنّنا متبلّدون فنقول: «يا ربّ، ساعدني. إيه!... إن أردت ساعدني، وإن لم تريد فلا بأس». لا! لنعتبر أنفسنا غير مستحقّين، وهذا ما نحن عليه. في النّهاية، انظر إلى ما يقوله الله: «كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس» (1 بطرس 16:1، لاويين 19: 2). فنحن دائمًا نخطئ، ولا يمكن حتّى أن نعتبر أنفسنا مستحقّين مساعدته. إن شئنا أم أبينا، نحن دائمًا نتجاهل مشيئة الله. إذًا، إن طلبنا مساعدة الله بوداعة وبفكر متّضع ستحلّ نعمة الرّوح القدس بتلك اللّحظة لتساعدنا. ليُعِنّا الله.
(حديث مع راهبات دير اواشا، في 15 تشرين الثّاني 2002)
اعتراف الضّمير
لنكنْ غيورين، لأنّنا نعيش في هذا العالم كما هو اليوم، ولكن دعونا، قدر استطاعتنا، ألّا نكون متغافلين الحقيقة، لأن هذا هو الخطر الأكبر. لا نستطيع أن نقوم بكلّ ما تنصحنا به الكنيسة والآباء القدّيسون والكتب المقدّسة بدّقة. حسنًا، لا يمكننا أن نكون دقيقين، لكن على الأقل دعونا ألّا نكون غير مبالين؛ فلنعترف أنّه في الواقع «كان ينبغي عليّ أن أفعل ذلك اليوم، لكنني لم أفعل».
بالتّالي، يقول الآباء القدّيسون، عندما يعود المرء إلى منزله ويمضي إلى فراشه، فليفكّر فيما فعله في هذا اليوم، وما هي الأعمال الجيّدة والسّيّئة التي فعلها، وما لم يكن عليه فعله؛ «إلى أين ذهبتُ وماذا قلتُ؟»، «ما كان عليَّ فعله ولم أفعله؟ كم سجدة كان عليَّ أن أتمّم اليوم – كان من الممكن أن أفعل خمسين أو مئة أو أكثر ولكنّني أتممتُ اثنتين أو ثلاث فقط»؟
وهكذا يكون ذلك نوعٌ من الاعتراف أمام الله وأمام ضميرنا، فبالتّالي يمكننا أن نُثَبّت أنفسنا في الحقّ لأنّ الحقّ هو الكنيسة. «وإذا أكلت أو شربت أو أي شيء آخر، كّلا!... ذهبت لرؤية صديق، وما الذي تحدثنا عنه؟ بدلاً من قول شيء سلميّ، تحدّثنا بسوء عن شخص آخر. هل ترى؟ انظر، الله يساعدني كي لا أفعل ذلك بعد الآن». أو: «كان من المفترض أن أذهب إلى مكانٍ ما لأساعد هذا الصّديق الفلانيّ لأنّه أراد شيئًا، ولكنّني لم أذهب».
فيكون ذلك اعترافًا براحة ضميرٍ، من أجل تصحيح مَسار حياتك. كما ترى، لقد علّمنا الآباء القدّيسون الصّالِحات فقط. علينا أن نعمل بكلّ قُدرتنا، وسيكون الله معنا.
(2001)
كيف نُعاتِب بعضنا البعض؟
كيف يمكننا أن ننصح شخصًا ما بتصحيح نفسه بنفسٍ متّضعة؟
لا تبتعد عن نصائح الآباء القدّيسين، ويجب دائمًا أن تقدّم نصيحة بفكرٍ متّضع. أنتَ الذي تَعِظْ، يجب أن يكون لديك فكرٌ متّضعٌ. وقد أصبح النّاس عكس هذا. لا تنصحْ كما لو كنتَ تعطي أوامر. لن يستمعَ إليك أحدٌ إذا تكلّمتَ معه كما لو كنتَ تعطي أوامر، مهما كان مؤمنًا أو قريبًا من الله. بالتأكيد، لن يستمعَ إليك بشأن أيّ موضوع، سوف يعتبركَ مخطئًا.
لذلك، ينصح الآباء القدّيسون لمن يَعِظْ أن يقتنيَ كلّ فضيلة. حتّى لو لم يكن لديكَ أي فضيلة، فانصح مَن يحتاج إلى النصيحة كما لو أنَّكَ تستشيره، ولا تأمره.
كذلك، اذكرْ له تعاليم الآباء القدّيسين، الّذين يقولون إنّه إذا لم نُنْجِزْ ما هو ضروريّ لخلاصِنا، سينتهي بنا المَطاف في الجحيم. لكن انصحه بهذه الطريقة: انظر إلى ما كتبه الآباء القدّيسون لنا، هكذا يعلّمنا المسيح بنفسِه. حينئذٍ، سيشعر في نفسه بميلٍ نحو الحقيقة.
ففي نهاية المَطاف، ليست حكمة هذا العالم سوى حرب شَعواء لإبعاد الإنسان من الحقيقة، فيسير وفقًا لقوانين هذا العالم. كلّ حِكَمة هذا العالم هي عداوة لله، فهكذا يضمن مُناصِروها أن الإنسان كَفَّ عن عبادة الله.
وإليكم مثالٌ عن ذلك الشّباب في أيّامنا. يذهب شابٌّ للدّراسة في عدّة جامعات. عند عودته إلى المنزل ويبدأ أهله، الّذين هم أدنى منه من حيث الدّراسة، بالتّحدّث حول الكنيسة (مثلًا: «هكذا تعلّمنا الكنيسة؛ هكذا ينصحنا الآباء القدّيسون»)، ماذا يُجيب الشّاب؟ «آه، كفى! استريحا. لقد قضيت سنوات عديدة على مقاعد الدّراسة الجامعيّة وأنا أجتهد في دراسة أساسيّات العلوم. هؤلاء الأشخاص التّعساء الّذين تتكلّمون عليهم كانوا موجودين قديمًا، ولكن زمانهم قد ولّى».
أسمعتم ما كان جوابه؟ وكأنّه يعلم كلّ شيءٍ الآن بعد ما درس لفترة طويلة. أجل، لقد درس، ولكن ماذا تعلّم؟ تعلّم كيف يتبع هذا العالم الزّائل.
فإنّ رئيس هذا العالم هو المُجرِّب. يقول المسيح نفسه عندما جُرِّب إنّ: «رئيس هذا العالم آتٍ، وليس له فيّ شيءٌ» (يوحنّا 14: 30). كما ترون، الجنس البشريّ هو في سلطة الشّيطان. بالتّالي، لا يسمح اللهُ للشّيطان أن يتصرّف بكامل قوّته، فقد يُهلِك الجنسَ البشريّ كلّه بِخُبْثِه. لكنّ الله يتجلّد بالصّبر، فيما نحن، الجنسُ البشريُّ بكامله، نسجد للشّيطان.
يحبُّ النّاسُ الحكومةَ الحديثةَ في عالمنا، الّتي تلبّي كلّ الرّغبات البشريّة؛ إنهم يعبدون الشّيطان ويبتعدون من الله دون أن يلاحظوا ذلك. آنذاك، كما يُذكَر في الكتب المقدّسة، كلّ من يستطيع تمييز الصّالِح من الطّالِح يكون مثل فم المسيح (راجع إرميا 19:15)1. ولكي تدحض الطّالِح، يجب أن تملك الكثير من الصّبر والوداعة لإقناعه باقتلاع الأهواء المدمّرة من قلبه وروحه.
أيّها الأب ديونيسوس، كيف يمكنك قبول الإهانة إذا لم تستطع قبوله كمَدحٍ؟
آه! إذا كان بإمكاننا قبول الإهانة كمدحٍ فهذا يعني أنّنا أُناس روحيّون. يقول الآباء القدّيسون إنّنا نقترب من الله إذا قبلنا الإهانة كمدحٍ. كما ترى، «تذلّلتُ فخلَّصَني» (مزمور 6:116).
لقد أبدى القدّيسون العظماء التّواضعَ أمام الجميع. وحَدا تواضُع البعض منهم لأن يقولوا: «أنا أسوأ من كلّ النّاس». وحتّى لو رأوا شخصًا يرتكب خطيئة، لا يفكّرون في الأمر، بل يقولون: «هو ارتكب هذه الخطيئة لكنّه أفضل منّي أمام الله، وأكثر قداسة. فعندما حلّ الليل، انتصب أمام الله وانحنى له بذهنٍ متواضعٍ، وغفر الله له؛ أمّا أنا، فحين أفكّر بشيءٍ سيّئٍ، إن فكّرتُ بشيءٍ سيّئٍ فحسب، سيدينني الله»، حتّى أنّه لم يتفوّه بأيّ شيء سيّئٍ عن ذلك الشّخص.
أترى؟ لا يسمح لنا الله أن نحكم على الآخرين في أيّ موقف كنّا، فعندئذٍ نُخضِع أنفسنا إلى الدّينونة ذاتها.
لماذا نحبّ أحيانًا مقارنةَ أنفسنا بالآخرين؟ هل يمكننا أحيانًا تهدئة ضميرنا من خلال النّظر إلى الآخرين على أنّهم بلا ضمير؟
لأنّ هناك خبثٌ في أنفسنا. إذا رأيت شخصًا سقط، فأنت مَدينٌ لله أن تساعده على النّهوض. أي كما سبق وقلتُ: «وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون» (راجع إرميا 19:15). فليس سهلاً تأديبُ شخص مرذول وبعيد عن الله وبعيد من جميع نِعَم الرّوح القدس، إلّا إذا نصحته بوداعة وليس كأنّك تتأمّر عليه... قدِّمْ له نصيحة، لأنّك إذا تحدّثت معه وكأنّك تعطيه أوامر، فلن يتقبّل أحدٌ ذلك... حسنًا، لا يزال هناك أشخاص تتقبّل الأوامِر، لكنّنا نقول هذا لأنّنا نرى أنّ النّاس لا يميلون إلى التّواضع على الإطلاق. يمشي الجميع برؤوسٍ مرفوعة. لهذا، يجب أن يتمّ توجيههم بعناية شديدة لكي تتمكّن من إخراج الثّمين من المرذول.
(حديث مع الأب سبيريدون من دير تيت، في 12 كانون الثّاني 2004)
«لا تستطيع فعل شيء بلا التّواضع»
أكثر شيء مبارك هو أن يملك المرء اتّضاع الفكر، فعندئذٍ يأتي السّلام الرّوحي. ماذا يمكنني أن أقول؟ مهما حصل، سيحضر السّلام والفرح الرّوحي بسبب امتلاكك أقوى سلاح ألا وهو اتّضاع الفكر. لأنّك تقول: «أنا خاطئٌ أكثر منه،» أكثر من الذي رأيته يخطأ، «الويل لي، أنا أسوء منه، أسوء بكثير، ماذا عليّ أن أفعل؟»
نعم، لكن لا تقل ذلك بفمك فقط. بل كما قال القدّيس يوحنا الدّمشقي في الثيوطوكاريون (كتاب الثاوطوكيّات، أي التّرانيم لوالدة الإله) إذا لاحظت ذلك: «يا رب، أنقذني بصلوات والدتك الكلية الطهارة، لأنّني أكثر إثماً من أي إنسان على وجه الأرض». لكنّه لم يقُل ذلك لمجرّد القول، بل آمن به حقًّا وبشدّة في نفسه وذهنه وقلبه. فلهذا السّبب رفعه الله لمرتبة عالية من القداسة. وأنت ماذا تقول في نفسك؟ «إنّي أقول ذلك، ولكنّي بالحقيقة لست أكثر إثمًا من الجميع!» أترى؟ هذا خطأ، بل آمِنْ بما تقول، وأقنِعْ نفسك أنّه هو حقيقيّ.
لهذا السّبب بدأ القدّيس يوحنا الدّمشقي باكتساب الصّالِحات في هذا العالم. أرسله رئيس الدّير لبيع السّلال في السّوق، وكان القدّيسُ يوحنا شخصيةً بارزةً في دمشق سابِقًا، وقد قصد الدّير ليصبح راهبًا، وقال له: «اِذهب، أيّها الأخ، إلى دمشق، فالنّاس سوف يبتاعون السِّلال هناك، وستجني الكثير من المال. اُطلب كذا وكذا ثمن كلّ سلّة، لا أكثر ولا أقلّ، اُطلب هذا المبلغ، فالدّير يحتاج إلى هذا المال».
ولم يُجِب القدّيسُ قائلاً: «اِسمع يا أبتِ، ألم تفكّر بأنّي كنتُ سابقًا شخصيّةً بارزةً؟ وعليّ الآن أن أذهب إلى ذلك المكان مع سلال؟»، هكذا يتكلّم النّاس اليوم... أمّا هو فلم يقلْ أي كلمة، بل أخذ السّلال وغادر. وقف هناك في السوق، ومهما كان الثمن الّذي كان يطلبه، لم يعطِهِ أحدٌ شيئًا، ولا فلسًا واحدًا. «هذا باهظ الثّمن يا رجل. ماذا تفعل يا أبتِ؟» بيد أن أحد أصدقائه القدامى عرفه، وكان شخصيّةً بارزةً في تلك المنطقة، «أيّها الأب، بِكَم تبيع هذه السّلال؟»، «بهذا السّعر، انظر، هذا ما قاله رئيس الدّير». فأخذ المال من جيبه واشتراها كلّها. لم يكن بحاجة إلى السّلال، لكنه ترأّف بالقدّيس يوحنا وفكّر في نفسه قائلاً: «انظر إلى التّواضع».
أخذ القدّيس المبلغ وعاد إلى الدّير، وتفاجأ الشّيخ حينها.
هل رأيتَ التّواضع الحقيقيّ؟ أين تجده في هذه الأيّام؟ لهذا السّبب أعطته والدة الإله اليد المقطوعة الّتي كانت قد شفتها، وراح ينظّف بها حمّامات الدّير. هل ترى هذا العمل الفظيع؟ ليس بإمكان أحد فعل هذا من دون التّواضع. لم يقُل: «يا للقَرَفَ! لماذا عليّ تنظيف الحمّامات بهاتين اليدين الّلتين لأجلهما مَنَحَني الله بركةً؟»
أترى؟ لأنّ ذلك كبرياء. لقد عُيِّنَ لتنظيفها لأنّه كان مرتّلًا عظيمًا، رجلًا موهوبًا، وطلب منه أحد الرّهبان نَظمَ طروباريّة. عدا أنّه لم يُعطى بركةً لذلك، ولكنه نَظَمَ له الطروباريّة. وسمع الشّيخ بهذا، ليس رئيس الدّير، بل الشّيخ. فكلّما جاء مبتدئٌ، كان رئيس الدّير يعهد به إلى راهب شيخٍ ليرشده. إذًا، أرسله هذا الشّيخ لتنظيف الحمّامات بسبب معصيته، ففعل ذلك.
فنحن نعرف جيّدًا كيف يجب أن نعيش، ولكن معرفتنا عَبَثٌ إن لم نطبّق ما تكلّمنا عليه. إنّما رحمة الله مُعطاة للجميع، رحمة الله!
(2002)
عن الجهاد الرّوحي
بأي سلاح يمكننا محاربة الكبرياء وتعزيز السلام بين الناس المتكبّرين؟
يمكنك دائمًا تصحيح شخص عزيز عليك، ولكن عندما تتكلّم معه بوداعة، وكأنّك تمنحه الحقّ أيضًا... وشيئًا فشيئًا، يقوِّمُنا الآب السّماوي، بنعمة الرّوح القدس، ويُشفى هذا الشّخص.
وعند الجهاد لاكتساب التّواضع والانعتاق من الكبرياء، كيف يجب أن نصلّي وماذا علينا فعله أوّلًا؟
هناك طريقة واحدة للتّغلّب على الكبرياء، وهي أن تجاهد بكلّ قوّتك لإنشاء فكر متواضع في قلبك ونفسك.
كيف يمكننا شَنّ هذه الحرب؟
بطلب عون الله وبإظهار الشجاعة طوعًا. فإن أظهرتَ أنّ لديك الشّجاعة، وطلبت مساعدة الآب السماوي الصالح، فيمكنك عندئذٍ، شيئًا فشيئًا، وضع الأساس لجميع الفضائل.
كيف يمكننا محاربة البرودة في الصّلاة وقلّة الحَماس الجهاد الرّوحي؟
حاوِلْ، بِغَضِّ النّظر عن كيف ترى نفسك أو مدى برودتك. لن يكون فيك تقوى حقيقي إذا ذهبتَ إلى الكنيسة قائلاً «أنا ذاهِبٌ على أي حال». بل قُلْ: ستذهب اليوم، وسأذهبُ غدًا، و سترسل لك نعمةُ الرّوح القدس البركةَ لتُصحّح ذاتك. ولكن إذا لاحظت أنّك تغادر الكنيسة اليوم، وغدًا، وفي اليوم التّالي، من دون أيّة إفادة، وقلتَ: «لماذا يجب أن أذهب بعد الآن؟ أعني، إنني أخرج من الكنيسة كما دخلتها». عندها يخطفك المُجرّب ويصير الخطر أكبر.
«بصبركم اقتنوا أنفسكم» (لوقا 19:21). أترى؟ كُن صبورًا. فمهما كنتُ مهمِلًا، أنا موجودٌ في الكنيسة، في سفينة نوح، ولديّ رجاء بأنّي لن أغرق. أمّا إن لم تذهب البتّة، فيكون الخطر أكبر بكثير.
المرجع:
https://orthochristian.com/159540.html
1.« وإذا أخرجتَ الثّمين من المرذول فمثل فمي تكون» (إرميا 19:15).
آخر المواضيع
كيف تتعامل مع شخصٍ لا تحتملُ التَّعاملَ معه
الفئة : قصص روحية
محاضرة في جماعة الخمسينيّين وخبرة النعمة الإلهيّة (7/7)
الفئة : قصص روحية
محاضرة في جماعة الخمسينيّين وخبرة النعمة الإلهيّة (6/7)
الفئة : قصص روحية
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني