القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الرابع والأخير)
القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الرابع والأخير)
الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس
ترجمة: مجد زغيب، وطوني حرب.
كيف يبلغ الإنسانُ حالةَ القسوة؟
كان المسيح، يجذب أشخاصًا خطأةً إلى التّوبة مثل اللّصوص وجُباة الضّرائب. انتبه لهذا. في مَثَل الفرّيسيّ والعشّار1، لم تكن للأخير أيّ فضيلةٍ يُظهرها لنفسه، لكنّه بدلاً من ذلك، قرع صدره قائلًا: «يا الله، اغفر لي أنا الخاطئ». في مثل الابن الضّالّ2، مَن يخلص؟ الّذي ترك والده، وصرف كلّ شيءٍ وعاد. هل يملك أيّ شيءٍ يتمسّك به؟ لا شيء. لم ينفق ثروة أبيه فحسب، بل عاد ذليلًا، رقيقَ البُنية. عاد بثقةٍ تامّةٍ إلى حضن والده - الّذي كان رحيمًا للغاية، حتّى أنّه أعدّ وليمةً كبيرةً - وقال: «لقد أخطأت».
في قصّة الغنيّ ولعازر3، هل يملك لعازرُ المسكينُ، أيَّ شيءٍ يُظهره لنفسه؟ منصبًا، أو قيمةً، أو مجدًا؟ لا شيء. إنّه شخصٌ مهمَلٌ، لا يُقدّره أحد. لكنّه ارتاح أخيرًا في أحضان إبراهيم. والرّجل الغنيّ، لابسُ الأرجوان، كان يطلب قطرةَ ماءٍ من لعازر؛ ليبلّلَ بها شفتيه. حسنًا، كيف يمكننا تعليم الفتاة العائشة في المدينة، كما ذكرنا سابقًا، أن تتبعَ النّهج الصّحيح بدلاً من المعاناة؟ إنّه لأمرٌ صعبٌ جدًّا. نحن بحاجةٍ إلى تعليم النّاس القدرةَ على التّحمّل، والتّواضع الّذي، كما قلنا، يسمو على كلّ شيءٍ، والمحافظة على الصّراحة، والشّفافيّة في المواقف جميعها. «لقد فعلتُ هذه الأشياء. هذه هي الحالة الّتي أنا عليها. لكنّ الرّبّ سيخلّصني». وبعد ذلك، اُركض، فوراً إلى رحمة الله. قد يعتقد البعضُ، بأنّهم لا يعانون من القلق والعصبيّة، ويطلبون منّي إلقاء هذه المحاضرات لمن يُعانون من هذه المشاكل.
لتأكيد عدم استثناء أيّ شخصٍ ممّا ذُكر سابقًا، سأضيف شيئًا آخر ينبغي أن نوليه اهتمامًا خاصًّا. ربّما يقول الكثير منّا: «أنا، لا أعاني من القلق أو العصبيّة. أنا لا أختبر مثل هذه الحالات. فليَعِظ الأبُ، الأشخاص الّذين يعانون من هذه المشاكل فقط».
بقدر ما قد يبدو هذا غريباً بالنّسبة إليك، فإنَّ هؤلاء النّاس الفقراء، وهذه النّفوس المتعبة، والمثيرة للشّفقة، أفضلُ حالاً من بقيّتنا؛ هذا لأنّهم، في مرحلةٍ ما، فهموا بالضّبط من الّذي يخلّصه الله. إنّه لا يسرع، لإنقاذ أصحاب الفضائل؛ إنّما أولئك الّذين يشعرون ببؤسهم. يتواضعون، ويعترفون بضعفهم، ويثقون برحمته؛ فيصبحون مستعدّين لاستقبال العريس، كالعذارى العاقلات.
ماذا بالنّسبة للّذين يخطئون، ولا يقمعون شعورهم بالذّنب، حابسين إيّاه في وعيِهم بدلاً من اللّا وعي؟ إنّهم يبتعدون شيئًا فشيئًا من الله. وبالرّغم من أنّهم مسيحيّون، يصبحون متآلفين مع الخطايا، ومتعايشين معها. إن أخطَئوا، يلجَئون إلى الرّبّ، بتواضعٍ وتوبة. لا يعيشون قطّ، حالةً من إنكار الخطيئة، ويواجهونها وكأنّ شيئًا لم يحدث. في حالتِهم هذه، عبثًا يحاولون التّقدّم روحيًّا، مع أنّهم يعترفون بخطاياهم. أريد أن أقول، إنّ وعيَهم يتراجع، وضميرَهم يقسو. وضَعَ اللهُ قانونًا غير مكتوبٍ، في داخل كلٍّ منّا، يخبرنا بما يجب علينا فعله، وبما لا يناسبنا. إذن، كيف لا يستفيدون منه؟ هل لأنّهم لا يملكون روح التّمييز؟ هل عبثًا يحاولون أن يتوبوا، وأن يتواضعوا؟ أيريدون عيشَ حياةٍ تقيّةٍ، ولكنّهم لا يستطيعون ذلك؟ هذا النّوع من التّفكير، هو في الواقع أولى علامات القسوة. وإذا لم يستيقظوا، فسوف ينامون ببطءٍ، في ذهول القسوة هذه. لا يتركهم الشّرّير وشأنَهم. وهذا أمرٌ جيّدٌ بالفعل. يزعجهم الشّعورُ بالذّنب المكبوت باستمرار؛ حتّى يستيقظوا في وقتٍ ما، ويفهموا الأشياء بالطّريقة الّتي وصفتُها. في هذه المرحلة، يرَون حقيقة أنفسهم في عينَي الله، ويصبحون قادرين على أن يتواضعوا ويتوبوا.
قبولُ الخطيئة، يضعُ الإنسانَ أمام ثلاثة خياراتٍ مختلفةٍ.
في الواقع، هناك ثلاثُ اتّجاهاتٍ تتجلّى أمام الإنسان بعد أن يخطئ. في وقتٍ سابقٍ، ناقشنا سقوط آدم، وقلنا، إنّه بعد السّقوط، كان بإمكان آدم التّصرّف بثلاث طرائقَ مختلفةٍ، وواحدةٌ هي الطّريقة الصّحيحة. عندما أخطأ آدم، كان بإمكانه أن يندم، ويقول: «أستحقّ أن أعاني، وأن أخسر الفردَوس. أخبرَنا الله بما سوف يحدث، إذا عصَينا وصيّته. ولكنّنا لم نصغِ إليه، وفعلنا ذلك. نحن نستحقّ المعاناة». ثمّ ينتظر بشوقٍ مجيء الله، مستعدًا لقبول العواقب كلّها، هاتفًا من أعماقه: «لقد أخطأتُ». يقول بعضُ الآباء، إنّه لو سارع آدم إلى الاعتراف والقول: «يا ربّ، قد أخطأنا. اغفر لنا حسب رحمتك، وكثرة محبّتك. لكن، لتكن مشيئتك»، كان الله قد غفر لهم.4 هذا هو الموقف الصّحيح، الّذي يجب أن يتمسّك به كلُّ شخصٍ دائمًا عندما يخطئ. ولكنّه، في الواقع، تمامًا مثل آدم، يفعل عكس ذلك.
الطّريقة الثّانية، الّتي كان يمكن أن يتصرّف بها آدم وحوّاء، هي كما لو أنّهما غيرُ مكترثَين لما فعلوه، لكنّهما لم يستطيعا فعل ذلك. كان هذا مستحيلًا؛ لأنّ ما حدث، كان أوّلَ تجربةٍ لهم مع الخطيئة. فلو استخدما هذه الطّريقة، لَقالا ما يقوله كثيرٌ من النّاس اليوم: «يمكننا أن نتناسى وجود الله. ليس بأمرٍ خطيرٍ، أنّنا عصينا وصيّته، وسقطنا». هذه القسوةُ، هي الّتي تُخسِرنا الخلاص.
أمّا الطّريقة الثّالثة، فهي ما فعله آدم وحوّاء بالضّبط. أي أنّهما أخطأا، وبعد أن سيطر عليهما الخوف، ظنّا أنّهما يستطيعان إخفاء نفسَيهما، فحاولا الاختباء حتّى لا يراهما الله. وعندما سألهما عمّا حدث، دافعا عن أنفسهما.5 هذا شيءٌ يمكن رؤيته داخل كلّ واحدٍ منّا. إذا ألقينا نظرةً داخل أنفسنا، فسنرى أنّه، إلى حدٍّ ما، نحاول جميعًا إيجاد التّبريرات. من النّادر، أن يحنيَ الإنسان رأسَه، وأن يقدّم نفسه بصدقٍ كاملٍ أمام لله. عادةً، حتّى لو اعترف أحدٌ بخطيئته، فإنّه يحاول إظهارها على أنّها عاديّةٌ جدًا، وغيرُ مسيئة. يَعدّ الأخطاءَ سلاسلَ مزيّنةً بالورد، بدلًا من الاعتراف بأنّها صدئةٌ، وسامّة. إذن، هذه هي الطّريقة الّتي تصرّف بها آدم وحوّاء. كما قلنا، كانا أضعف من أن يتصرّفا، وفقًا للطّريقة الثّانية؛ لأنّ ضميرهما كان لا يزال حيًّا. ولهذا السّبب، شَعَرا، بمجرّد حدوث الشّرّ، بأنّ التّغيّر والفساد يسيطران عليهما. وبما أنّهما لم يتمكّنا من تحمّل شعور الذّنب، قدّما الأعذار لله. انطلاقًا من هذا الحدث، تجذّرت نزعة التّبرير للذّات في البشريّة. يقول الآباء، إنّ آدم فقَدَ الحالةَ الفردوسيّة في جنّة عدن؛ فتاب، وبكى كثيرًا بعد السّقوط. في أحد مرفع الجبن، نرتّل قائلين: «إنّ آدم، جلس إذ ذاك إزاء نعيم الفردوس، وانتحب، ضاربًا وجهه بيديه قائلًا، يا رحيمُ، ارحمني أنا الواقع...» يا لها من كلماتٍ عذبة!
قَبِلَ اللهُ توبةَ آدم وحوّاء، ولهذا السّبب، خلّصهم المسيح أوّلًا عند نزوله إلى الجحيم. في أيقونة القيامة، يظهر المسيح ماسكًا آدم بيدٍ، وحوّاء بيَده الأخرى، لإخراجهما، وإنقاذهما من الجحيم. لذا، كما قلنا، هناك طريقتان خاطئتان، وطريقةٌ واحدةٌ صحيحةٌ فقط، لمواجهة السّقوط.
5 كانون الأوّل 1976
ما يقوله القدّيس بورفيريوس، في موضوع مواجهة القلق.
«سأذهبُ إلى المسيح».
يجب أن تحكمنا محبّةُ المسيح؛ يجب أن تسود أذهانَنا، وفكرَنا، وتصوّرَنا، وقلبنا، ورغبتنا؛ يجب أن تبذلوا جهدًا، شديد العزيمة، لمقابلة المسيح والاتّحاد معه، واحتضانه في أنفسكم. «تخلّصوا من نقاط ضعفكم كلّها؛ كي لا تسمحوا للشّرّير، بأن يندفع إليكم، ويمسك بكم، ويصرعكم بالقلق». هنا، يؤكّد الأب بورفيريوس على التّخلّي عن نقاط ضعفنا. هذا لا يعني، أن نركّز على ضعفاتنا وعيوبنا، قائلين: «لديّ هذا الضّعف، هذا الهوى، هذا العيب». فإذا فعلنا هذا، يبدو وكأنّنا نظنّ أنّه بمقدارنا اقتلاع هذه الأشياء من أنفسنا، لكنّها في الواقع تستهلكنا، وتستنفد قوانا فقط. من المهمّ، بالنّسبة إلينا، أن نعيَ، أنّه يجب علينا- في أيّ موقفٍ مشابهٍ يتطلّب منّا التّحرّك - أن نركض سريعًا إلى المسيح صارخين: «يا ربِّ، يسوع المسيح، ارحمني»، تاركين وراءنا السّلبيّات، أيًّا كانت، ومهما كانت متجذّرةً في داخلنا.
لا يوجد ما يمنعنا من الذّهاب إلى المسيح، متمتّعين بالإيجابيّة التّامّة، ومتمسّكين بالرّجاء، وهاتفين: «يا ربِّ، يسوع المسيح، ارحمني». قد يبدو الأمر صعبًا، في أوقاتٍ معيّنةٍ، عندما نكون، على سبيل المثال، نغلي من الغضب، والشّرّ، والكراهية، أو ما شابه. كما قلت سابقًا، السّلبيّة، والشّرّ اللّذان يحارباننا من الدّاخل، هما السّبب في تمسّكنا بالمسيح، وفي الرّجوع إليه.
«تخلّصوا من نقاط ضعفكم كلّها؛ كي لا تسمحوا للشّرّير، بأن يندفع إليكم، ويمسك بكم، ويصرعكم بالقلق». من خلال هذا، يبدو لنا، أنّ الأب بورفيريوس واثقٌ تمامًا بأنّ كلّ سلبيّةٍ يكون الشّيطان وراءها، وكلّ خطيئةٍ، وكلّ شرٍّ يأتيان من عنده. إذن، مهما تجاهلنا هذه الحقيقة، وتصرّفنا كأنّها غيرُ صحيحةٍ، أو غيرُ موجودةٍ، فإنّنا نلغي وجود الشّيطان نفسه. وعندما نحاول أن نتخلّصَ من الشّرّ، من دون اللّجوء إلى المسيح، فإنّ الشّيطان يعانقنا ولا يُفلتنا.
للتّحقّق من فهمكم هذا تمامًا، دعوني أخبركم بشيءٍ آخر. أتذكّر أنّي، منذ فترةٍ وجيزةٍ، ربّما قبل خمسين عامًا أو أكثر، كنتُ أتعامل مع قضايا معيّنةٍ، وقرأتُ بعض الأشياء المتعلّقة بهذه القضايا في أحد الكتب. قرأتُ عن شابٍّ، كان يرغب في اللّقاء بشابّةٍ، في موعدٍ حميميٍّ غير لائق. كان عليهما، رفض هذا الإغراء الكبير، أي الذّهاب إلى حيث لا ينبغي أن يذهبا، وأن يتوجّها إلى المسيح عوضًا عن ذلك. ولكنّهما، لم يفكّرا بهذه الطّريقة. وماذا حدث؟ ذهب كلٌّ منهما إلى ذلك المكان. لقد واجها الآن لحظةً حرجةً، اضطرّا فيها إلى الكفاح حتّى لا يستسلما لها. بشكل مثير للدّهشة – على الرّغم من أنّهما كافحا وقاوما – إلّا إنّ الإغراء تشبّث بهما، وأصبحا مرتبطَين به، وحدث ما يجب ألّا يحدث. أرأيتم كيف يوجّه كلٌّ منّا أهواءَه، وضعفاتِه؟ نحن لا نغضب، لأنّ الشّيطان يدفعنا لذلك فقط؛ بل لأنّنا نشعر بنوعٍ من المتعة عندما نغضب. لذلك، في بعض الأوقات، عندما يحاول شخصٌ ما، التّخلّص من هوىً معيّنٍ، من المفترض أن يحرّر نفسه منه، ولكنّه في تلك اللّحظة، يتشبّث به أكثر.
«تخلّوا عن الآلامِ والتّجارب، واجعلوا دافِعكم اللّجوءَ إلى المسيح». يمكن تفسيرُ كلماتِ الأبِ بورفيريوس، كالآتي: لا تحاولوا تخليص أنفسكم من هذه الأمور. جاهدوا بلطفٍ، وبساطةٍ من دون أيّ ضغطٍ أو قلقٍ. من الممكن، أن تفكّروا أنّ هذا غريبٌ، لكن، في الواقع، ما يقوله هنا صحيح. في لحظة تعرّضك للتّجربة، أو ضعفك، أو خطيئتك، يجب أن تتحلّى بالشّجاعة الدّاخليّة، لتقول: «بدلاً من الاستسلام لأهوائي، أو ضعفي، أو خطيئتي، أركض نحو المسيح. بالقوّة نفسِها الّتي تدفعني بها هذه الأهواء، والضّعف، والخطيئة، أذهب إلى المسيح». وبقدر ما تذهب إلى المسيح، فإنّ التّجربة تضعف، وتتلاشى. لكن احذروا، من الغرور الّذي يوقع بنا كلَّ حينٍ، حتّى في المواقف العاديّة، ويستدرجنا لتحقيق رغباتنا.
اِجعلْ كلَّ يومٍ بدايةً جديدة.
يمكنُكم أن تكونوا قدّيسين، أينما كُنتم – حتّى في عملكم – شرطَ أن تتحلَّوا بالوداعة، والصّبر، والمحبّة. اِجعلوا كلَّ يومٍ بدايةً جديدةً، واتّخذوا موقفًا جديدًا بحماسٍ، ومحبّةٍ، وصلاة. لا تقلقوا كثيرًا؛ لئلّا تتألّموا من الدّاخل. بَسِّطوا الأمور، وكونوا حَذِرين، فتصبحَ أمورُكم سهلة. تشجّعوا على أن تنطلقوا من جديدٍ، كلّ يومٍ، مهما كانت مسؤوليّاتكم تجاه الآخرين، بصفتكم أزواجًا، أو تلامذةً، أو...
إنّ ما يعاني منه النّاس، يكون أحيانًا موجِعًا كالموت. يقولون: «حاولنا أن نعمل بنصيحتك، لكنّ شيئًا لم ينفع». لا تُسيئوا فَهمي، فالبداية الجديدة لا تكون في الصّباح الباكر عندما نستيقظ وحسب؛ إنّما في كلّ لحظةٍ من اليوم. كلّنا نمرّ بتجاربَ مختلفةٍ، ونشعر بالإحباط، لكن ينبغي للفرد ألّا يسمح لحالته النّفسيّة بأن تحدّد مجرى يوميّاته. كلَّ مرّةٍ تشعرون فيها بالإحباط، ردّدوا صلاةَ يسوع: «اِرحمني، يا ربِّ يسوع المسيح، أنا الخاطئ». فيسوع يقبلنا بِعِلّاتنا، وإحباطنا، ومشاكلِنا كلِّها. تدرّبوا على فعلِ ذلك، فتكونوا على دربِ القداسة. لا تسمحوا للضّغوطات، والقلق، والمشاكل بأن تنسيَكم أن تُقبِلوا إلى الله، أو بأن تُلهِيَكم عن ترداد الصّلاة: «اِرحمني، يا ربِّ يسوع المسيح، أنا الخاطئ».
لا تعطوا أهميّةً لما تشعرون به.
إذا فهمتم الأشياء جيّدًا، فإنّ السّرّ يكمن في تجاهل ما تشعرون به. من المؤكّد، أنّه عند مواجهة صعوبةٍ شديدةٍ، يَغمُرُكم الحزن الّذي يصعب التّخلّص منه. ربّما لديكم بعض المشاكل، أو قد اعتدتُم التّفكير بأنّه عليكم إدارة الأمور بنفسكم، وإيجاد حلولٍ لها، أو تظنّون أنّه لا يمكنكم تحقيق أيّ شيءٍ، وكأنّ جهادكم قد ذهب سدى. برأيي، تختفي الأنا بين الأفكار هذه.
في الواقع، كلّ من يسعى لمعرفة نفسه حقًّا، سيدرك أنّه غالبًا ما يواجه الغرور. سوف يفهم، أنّه في لحظة حزنه، يصعب عليه التّخلّي عن هذا الحزن، بسبب الغرور. إذا نظر بشكلٍ أعمق، وانتبه أنّه، عند مواجهة مشكلةٍ أو صعوبةٍ ما، لم يتخلَّ عنها، راكضًا إلى المسيح، فسوف يلاحظ أنّ غروره هو الّذي يمنعه. الشّخص الّذي يصارع غروره، مع نفسه، ويركض نحو المسيح صارخًا: «يا ربِّ، يسوع المسيح، ارحمني. يا ربِّ، يسوع المسيح، اِرحمني»، سيشعر بتغيّرٍ واضح. لا شيء يمنع أيّ شخصٍ، من تلاوة هذه الصّلاة بشغفٍ، وشوقٍ، وسَجِيّةٍ صالحة، وتواضعٍ، وصبرٍ، ووداعة. سترى عمليًّا، عبر صلاة يسوع، أنّك تدعو المسيح، وتجري إلى القدّيسين، وإلى الكليّة القداسة، فتشعر فورًا بتحسّن.
سواءٌ أمُعترِفًا كنتَ بغرورك أم لا، عليك أن تقبل أنّ أنانيّتك، وحبّك لذاتك، واستقلالك، وصلاحك الذّاتيّ، هي الّتي تُعيقك في جهادك. وإذا ثابرتَ، سترى أنّه في الممارسة العمليّة، سوف تتخلّص من غرورك ببطء. حقيقة أنّك لا تريد أن تتواضع، هي السّبب الّذي يجعلك تختلق الأعذار، أو تخلط الأمور. «لا يمكنني القيام بذلك بعد الآن؛ لا يمكنني التحمّل؛ لديّ مشاكلٌ؛ لديّ مخاوف». عندما تضع نفسك بين يَدَي الله، تكون قد تواضعت. إذن، أنت تختبر التّوبة، والحزن الإيجابيّ، والدّموع، والتّقدّم أيضًا. على الرّغم من جهادك، من أجل شيءٍ جوهريٍّ، من المرجّح أن يبدو هذا التّقدّم غير كافٍ. قد تفكّر أيضًا، «لماذا يجب أن أعانيَ بشدّةٍ من أجل لا شيء؟» لا تنظر إلى الأمور بهذه الطّريقة. ابذل جهدك دون حسابات. اترك الشّرّ، واركض إلى الخير نحو المسيح. كما قلنا، ركِّزْ على الخير الّذي في داخلك. بالوداعة، والصّبر، والمحبّة يمكن الوصول إلى القداسة. اِجعل كلّ يومٍ بدايةً جديدةً، واتّخذْ موقفًا جديدًا، بحماسٍ، ومحبّةٍ، وصلاةٍ، وصمت. لا تقلق كثيرًا؛ لئلّا تتألّمَ من الدّاخل.
في كتاب «في الصّلاة» للأب بورفيريوس الرّائي، نجد ما يأتي:
تذهب إلى الفراش، ولا تستطيع النّوم؛ بسبب كثرة التّفكير، والقلق. قُم، وتجوّل قليلاً. ردّد الصّلوات، وعُدْ واستلقِ. يبدو هذا صعبًا، وفي الحقيقة، هو كذلك، لكنّها نصيحةٌ حكيمةٌ: يمكنك، على سبيل المثال، أن تقول: «إنّه لأمرٌ جيّدٌ أنّني لا أستطيع النّوم. سأستفيد من هذا إلى أقصى حدٍّ، بطريقةٍ روحيّة». كي تتمكّن من قول هذا، وتنسى مسألةَ الأرق، عليك أن تكرّس نفسك للصّلاة. هذه فرصتي الآن، للخلود إلى النّوم، كي أصلّي. قلِ الصّلاة الرّبّانية مرّةً، ومرّتين؛ قل «أيّها الملك السّماويّ...»، «أيّتها الفائق قدسها والدة الإله خلّصينا»، «يا ربِّ، يسوع المسيح، ارحمني». كما قلنا، سيحدث تغييرٌ في هذا الوضع غير السّارّ، وسندخل في حالةٍ جيّدة. كما يمكنك أيضًا الاستفادة من هذا الوقت، بقراءة كتابٍ روحيِّ، إلى أن يتعب جفناك، وتغفو.
بعد تجربتي الخاصّة، معظم المسيحيّين يدقّقون بحالتهم السّيّئة. إنّهم يحاولون تحرير أنفسهم من الشّرّ، ولكنّهم عبثًا يفعلون. ومع ذلك، يمكنهم بسهولةٍ مواجهته بهذه الطريقة: «لا تريد المغادرة؟ حسنًا، اِبقَ. اِفعل ما تشاء. أنت لا تعيقني. لا يمكنك أن تمنعني من الحصول على حالةٍ جيّدةٍ أصلّي فيها، وأتلو صلاة يسوع».
ما الّذي يمنعك من الثّقة في الله؟
بدلًا من أن تسلّم نفسك للقلق، سَلِّم نفسَك للرّبّ يسوع، ومَجِّده، فتصبحَ مصادرُ القلقِ مصادرَ قوّةٍ، وسببًا للّجوء إلى الرّبّ، وتتوقّفَ عن إزعاجك. لا تدعِ المشاكلَ تجعلك متقوقعًا على ذاتك، أو منغلقًا. وبدلًا من النّوح، والبكاء، والحزن، تخلَّ عنها جميعها، فتتخلّى بدورها عنك، وتتوقّفَ عن إرهاقك. حقًّا، إنّها تولَدُ داخلك، بدافع جذب الانتباه، وطلب الشّفقة من الآخرين، وفي أحيانٍ كثيرةٍ، من الرّبّ نفسه. هذا ما أقوله دائمًا، لمن يأتي إليّ للاعتراف، وسرعانَ ما يشعرُ بالتّغيير عندما يطبّق كلامي.
عظيمٌ أنتَ يا الله، عندما نضع ملءَ ثقتنا بك! وما أتعسَنا، عندما نظنّ أنّك تغيّرتَ، أو أنّك سيّءٌ، أو تضمر لنا الشّرّ! يقول القدّيس بولس الرّسول: «مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ» (2 كورنثوس 8:4). كالرّسول بولس، علينا توجيه التّحكّم بالحزن والقلق، كي يكونا سبيلًا يَهدينا إلى المسيح.
أستطيع الشّهادة على هذا...
يقول الأب بورفيريوس: «عندما يعيش الإنسان من دون الله، بلا سلامٍ، وبلا ثقةٍ، بل بقلقٍ، وعذابٍ، واكتئابٍ، ويأسٍ، فإنّه يُصاب بأمراضٍ جسديّةٍ وروحيّةٍ». حقًّا، إنّه لغزٌ. كان الأب بورفيريوس نفسُه، يعاني من أمراضٍ عديدة. منذ حداثته، طلب من الله أن يعطيَه مرضَ السّرطان الخطير، ولكنّ اللهَ لم يستجب لطلبه حينها، فحزن جدًّا، على الرّغم من إصابته بأمراضٍ أخرى. إلّا أنّه، أُصيب أخيرًا بهذا المرض، في سنواته الأخيرة، حسب ما أخبر طبيبَه: «لقد أُصِبتُ بالسّرطان أخيرًا، بنعمة الله». سوف تأتي الأمراض الرّوحيّة والجسديّة، بطريقةٍ أو بأخرى، لا محالة. بالرّغم من هذا، لا يجب على الشّخص، الّذي يمرض بسبب خطاياه، أن يُصاب بالاكتئاب، أو الألم، أو انعدام السّلام. من المهمّ، أن تكون قادرًا على رؤية نفسك، مع أمراضك ومشاكلك كلِّها، في حضور الله، ونعمته، وعنايته.
هل تتذكّرون ما قلته لكم سابقًا؟ إنّه من الممكن أن يولد الشّخص مريضًا. ويمكن لشخصٍ آخر، أن يحدث له، بشكل غير متوقّعٍ، إصابةً خطيرةً أو مرضًا خطيرًا. يجب أن نعلم، أنّ هذه الضّيقات كلَّها، هي بسماحٍ من الله، وتحت إشرافه وعنايته. الله يعلم. لا ينبغي لأيٍّ منّا أن يشتكيَ، أو يقلقَ، أو يحزنَ، كأنّنا نقول لله: «لماذا تسير الأمور على هذا النّحو؟ لماذا وُلد أشخاصٌ بهذه الحالة؟ لماذا يجب أن تحدث مثل هذه الأشياء لهم؟» هنا يكمن السّرّ، يجب أن ترى نفسك، وكلّ شيءٍ في كيانك، على أنّه عنايةٌ من الله. الله يعلم. هل تشعر بالألم؟ تحمّل الألم. هل تتعب مجاهدًا؟ تحمّل التّعب.
هل لا يزال مرضك من دون علاج؟ لا تتذمّر، أو تصرخ. لا تنظر للأمر على أنّه ظلمٌ من الله، ولا تحسدِ الآخرين على صحّتهم الجيّدة؛ لأنّ الألمَ مفيدٌ جدًا. إذا عدنا إلى الأب بورفيريوس، تمامًا كما قد يعاني شخصٌ ما، من ضعفٍ جسديٍّ، يمكن أن يعانيَ أيضًا من ضعفٍ روحيٍّ؛ بسبب وجود قلقٍ بداخلهم، كما يقول هنا. هذا أيضا حقيقةٌ. أنا، شخصيًّا، أستطيع أن أشهد لذلك. يمكن لأيّ شخصٍ أن يكون لديه مشكلة، تبدو ظاهريًّا أنّها ضعفٌ جسديٌّ أو ضعفٌ روحيٌ، لكن في أعماق هذا الشّخص، توجد أشواكٌ لا يريد اقتلاعها، سبّبت مشاكلَ أخرى، تظهر في النّهاية جسديًّا وروحيًّا. بعبارةٍ أخرى، تخلق هذه المشاكل كلّ مرضٍ جسديٍّ وروحيٍّ يعاني منه الشّخص.
هذا أيضًا سرٌّ. يريد هذا الشّخص التّحرّر، والشّفاء التّامّ من هذه الضّعفات، ولكنّه لا يفهم ما يحتاجه، من أجل تحقيق هذا الشّفاء. على الرّغم من أنّه قد يشعر بتحسّنٍ، فبدلًا من الاستفادة من هذا الوضع، والتّقدّم بسهولةٍ أكبر، يجهل ما قد يجب عليه فعله. لا يكتّف الله يديه، وكأنّه يقول: «لا يمكن فعل شيء». لا، ما لم يحدث اليوم، سوف يحدث في وقتٍ لاحقٍ.
سوف يأتي هذا اليوم. سوف يأتي اليوم الّذي تنفتح فيه عَينا الشّخص الّذي لم يكن يفهم من قبل؛ الشّخص الّذي كان قادرًا على الشّفاء، ولكنّه لم يُرد ذلك، سوف يفهم فيما بعد، ويستعدّ للشّفاء.
5 كانون الأوّل 1976
رابط المقال الكامل:
https://drive.google.com/file/d/15OLX71xltt_a9NG-jnskHctYZTrS-ObO/view?usp=sharing
1. لوقا 10:18-14
2. لوقا 11:15-32
3. لوقا 19:16-31
4. القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الحديث.
"Έργα, ed. "Orthodoxos Kipseli",vol. 1, Thessaloniki 1988, pp. 95-96
5. تكوين 13:1
آخر المواضيع
تربية الأطفال على الصّدق
الفئة : الشّباب والعائلة
القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الرابع والأخير)
الفئة : الشّباب والعائلة
القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الثالث)
الفئة : الشّباب والعائلة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني