شروحات آبائيَّة

للآية الإنجيليَّة يوحنا 17: 21

الفئة:لاهوت

إعداد شادي مخّول

«لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي».

«وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ» (يو 16: 13). كتب رسلُ المسيح الإلهيُّون أسفار الكتاب المقدَّسِ بوحيٍ إلهيّ. وميَّزت الكنيسة الأسفار القانونيَّة وفسَّرتها بهذا الرُّوح عينه الذي لا يُرشد إلَّا إلى الحقّ. يقول الأب جورج فلوروفسكي إنَّ الكنيسة لها «سلطان تفسير الكتاب، لأنَّها المستودع الحقيقيّ الأوحَد للتعليم الرَّسوليّ. فهذا التَّعليم حُفظ بطريقةٍ حيَّة في الكنيسة، لأنَّ الرُّوح أُعطي لها... صوت الإنجيل الحيّ لم يكن مجرَّد تلاوةٍ لكلمات الكتاب، بل كان إعلانًا لكلمة الله كما سُمعَت وحُفظَت في الكنيسة بقوَّة الرُّوح الذي يفعل فيها دائمًا ويُحييها»[1]. لذلك، علينا أن نكون حذرين في تفسيرنا لآيات الكتاب المقدَّس، لئلَّا نُعطي تفسيرًا ينبع من فهمنا الخاص لما قد كُتبَ بإلهامٍ إلهيّ «لأنَّ التفسير المنحرف يحوِّل إنجيل المسيح إلى إنجيل إنسانيّ» (القديس إيرونيموس)[2]. لذا، الأجدرُ بنا أن نلجأ إلى التفاسير الملهَمة التي كتبها آباء كنيستنا القديسون المتوشّحون بالله.

ترد هذه الآية (يو 17: 21) ضمن سياق الصلاة التي رفعها الرَّب يسوع المسيح إلى الآب قبل آلامه وصلبه وقيامته من بين الأموات، المعروفة بالصلاة الكهنوتيَّة. ولكي نصلَ إلى فهمٍ صحيحٍ لهذه الآية، علينا أن نفهمها ضمن السياق الذي وردَت فيه.

طلب المسيحُ من الآب لأجل تلاميذه أن يكونوا واحدًا كما أنَّه واحدٌ مع الآب «أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ» يو 17: 11)). يقول القدّيس كيرلّس الإسكندري إنَّ «المسيح يُريد أن يكونَ تلاميذه متحلّين بوحدة الفكر والإرادة، وأن يكونوا متَّحدين بالنَّفس والرُّوح وبرباط السَّلام والمحبَّة بعضهم لبعضٍ. وهذا الرِّباط من المحبَّة لا يُقطَع كي يتقدَّموا إلى درجةٍ من الوحدةِ، فيصيرُ صورةً للوحدة الطبيعيَّة القائمة بين الآب والابن... ويُحافظوا على قوَّة المحبَّة في وحدة التقوى والقداسة»[3]. هكذا عاش الرُّسلُ ومن معهم بعد قيامة المسيح وصعوده، «وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ» (أع 4: 32). هذا ما علَّمه بولس الرَّسول قائلًا: «فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ» (1 كور 10: 17). يعلّقُ القديس يوحنّا الذهبيّ الفم على هذه الآية البولسيَّة قائلًا: «كما أنَّ الخبز المصنوع من حبوب حنطةٍ كثيرةٍ متَّحدةٍ بحيث لا تظهر الحبوب، بل هي موجودةٌ فعلًا، لكنَّ الفرق لا يُرى بسبب اتّحادها، كذلك نحن نتَّحد بعضنا ببعضٍ وبالمسيح»[4].

إنَّ الوحدة التي يطلبها المسيح هنا من أجل تلاميذه ليست وحدةً عشوائيَّة ودنيويَّة، بل هي وحدةٌ مرتكزة على الفكر الواحد والقلب الواحد والنفس الواحدة «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا» (في 2: 2). وحدة على صورة وحدة الثالوث، «إنَّ مشيئة الآب والابن والروح القدس واحدة. هذا ما يُريدنا أن نكونه بقوله «لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ». ما من شيءٍ يوازي وحدة الفكرِ والتوافق» (القديس يوحنا الذهبيّ الفم)[5].

«العالم يُبغضُ المسيحَ، لأنَّه في صراعٍ مع كلامه وتعليمه» (القديس كيرلّس الإسكندري)[6]، فهو قال «أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (يو 17: 14). هو غريبٌ عن هذا العالم، ويريدنا أن نكون مثله، في العالم وخارج العالم. يتحقَّق هذا عندما نقتدي بالمسيح، أي عندما نحمل الصليب وننكر كلّ شهوةٍ دنيويَّة. لهذا، لم يُرد أن يرفعهم من هذا العالم، بل أرادهم غُرباء فيه، أرادهم أن يتحلّوا بالفضيلة، أن ينكروا ذواتهم ليحيى هو فيهم، «إنَّ رغبته هي في أن يراهم يحيون في العالم ليُرشدوا الناس إلى سيرةٍ مرضيَّة لله» (القديس كيرلّس الإسكندري)[7]. وهكذا، باقتدائنا به نصير أبناءً له بالتَّبني «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (يو 1: 12). الإيمان بالله ليس أمرًا مجرَّدًا وعقلانيًّا، بل هو خروجٌ من هذا العالم والتصاقٌ بالمسيح الرَّب، هو شهادةٌ للمسيح النور في هذا العالم الفاني. الإيمان باسمه هو الإيمان بالحقّ «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو 14: 6).

قال الرَّبُّ «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ» ثمَّ قال «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَق»، طلبَ من الآب أن يقدّسهم في حقّه، أي أن يقدّسهم «بعطيَّة الرُّوح والتعاليم القويمة... فالتعاليم المستقيمة عن الله تقدّس النَّفس. وليُظهر أنَّه يتكلَّم على التعاليم، أضاف كلامُكَ هو حَق، أي لا غشَّ فيه» (القديس يوحنا الذهبيّ الفم)[8]. «كَلاَمُ الرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ» (مز 12: 6).

بعد أن صلَّى الرّبُّ من أجل وحدة الرُّسلِ وثباتهم في الحقّ، قال: «لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا» (يو 17: 20-21). إذًا، طلب المسيح من الآب أن يكون الرُّسل واحدًا، ومن ثمَّ قال إنَّه أعطاهم كلام الآب، وصلَّى من أجل تقديسهم في الحقّ لأنَّ كلام الله هو حقٌّ. والآن يصلّي من أجل وحدة الذين يؤمنون به بفضل كلام الرُّسل. لقد أعطاهم كلمة الحقّ وأوصاهم أن ينقلوها إلى الجميع لكيما يتَّحد الكلّ بالحقّ والمحبَّة الَّذين لا يتعارضان. إنَّ هذه الصلاة، بحسب القديس نيقولاوس فيليميروفيتش، كانت أيضًا «من أجل آباء المجمع المسكونيّ الأوَّل. طلبَ الرَّب يسوع من الآب من أجلهم قائلًا: «احْفَظْهُمْ». فحفظهم الآبُ من أخطاء آريوس، وألهمهم وأنارهم وقوَّاهم بالرُّوح القدس ليُدافعوا عن الإيمان الأرثوذكسيّ. هذه الصلاة هي من أجلنا كلّنا نحن المعمَّدين في الكنيسة الرَّسوليَّة الذين، من خلال الرُّسل وخُلفائهم، عرفنا اسم المسيح المخلِّص»[9].

يقول القديس كبريانوس القرطاجيّ إنَّ «في صلاة يسوع من أجل وحدة الذين يؤمنون، نرى حضًّا على الوحدة في الكنيسة» [10]. ويُشبّه وحدة الكنيسة بقميص المسيح الذي لم ينشقّ «وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضًا. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ» (يو 19: 23)، ويقول إنَّ «هذا القميص يحمل معه، الوحدة التي نزلت من فوق، أي التي نزلت من السَّماء والآب، والتي لا يستطيع من نالها واقتناها أن يمزّقها أبدًا»[11]. «في المناولة الأسراريَّة يُبارك في جسدٍ واحدٍ، أي في جسده، كلّ الذين يؤمنون به، فيجعلهم جسدًا واحدًا فيه. تُرى من يقدر أن يفصل المتَّحدين بالمسيح في الجسد القدُّوس؟ ومن يمكنه أن يفرِّقَ وحدتهم الحقيقيَّة؟ إذا شاركنا جميعًا في خبزٍ واحدٍ نُصبحُ جسدًا واحدًا، لأنَّ المسيح يوزَّع ولا يتجزَّأ»[12].

إذًا، نحن تسلَّمنا من الرّسل الكلام الحقّ، الذي من خلاله آمنَّا، وصرنا واحدًا مع سائر المؤمنين ومع الرَّب. وبما أنَّ الإيمان الواحد هو أساس وحدة الكنيسة، أراد الشيطان أن يزعزع هذا الإيمان ليزعزع بذلك وحدة الكنيسة. يقول القديس كبريانوس «اِخترع (أي الشيطان) حيلةً جديدة مستخدمًا الاسم المسيحيّ نفسه، حتى يخدع من هو غير حذرٍ وغير حكيم.  لقد اخترع الهرطقات والانشقاقات حتى يهدم بها الإيمان، ويُفسد الحقّ ويشطر الوحدة... هذا ما يحدث عندما لا نعود إلى ينبوع ومصدر الحقّ، عندما لا نطلب الرأس (أي السيّد المسيح)، ولا نحفظ تعليم الكنيسة»[13].

صلّى المسيح من أجل أن يكون الكلّ واحدًا، وتحقَّقت هذه الوحدة في كنيسته الواحدة. «بحكمة الآب ومشيئته ابتكرَ الابن الأوحد طريقًا لنا لنتّحد بالله وبعضنا ببعض» (القديس كيرلّس الإسكندري)[14]. «في العنصرة، أصبحوا (الرُّسل) أعضاء في جسد المسيح، رأوا مجد الرب، بلغوا التألُّه، وهكذا، حققوا الوحدة معًا في جسد المسيح الواحد» (المطران إيروثيوس فلاخوس)[15]. كل من يختبر العنصرة في حياته الشخصية يبلغ هذه الوحدة. ويقول القديس كبريانوس إنَّ «هذه الكنيسة تزخر بروح الرَّب، وتنشر أشعَّتها على كلّ المسكونة. وعلى الرَّغم من هذا الانتشار والامتداد في كلّ مكان، إلَّا أنَّ النور يظلّ واحدًا»[16].

 

 


[1] الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص. 113.

[2] المرجع نفسه ص. 115.

[3] التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدَّس 4-ب. الإنجيل كما دوَّنه يوحنّا 11 – 21. ص. 313.

[4] التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدَّس - 7. رسالتا بولس الرَّسول إلى أهل كورنثوس. ص. 162

[5] التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدَّس 4 - ب. الإنجيل كما دوَّنه يوحنّا 11 – 21. ص. 313.

[6] المرجع نفسه. ص. 317.

[7] المرجع نفسه. ص. 319.

[8] المرجع نفسه. ص. 322.

[9] Bishop Nikolai Velimirovic, Homilies, V. 1, on the 6th Sunday after Pascha.

[10] المرجع نفسه. ص. 324.

[11] وحدة الكنيسة. ص. 12.

[12] التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدَّس 4-ب. الإنجيل كما دوَّنه يوحنّا 11 – 21. ص. 328.

[13] وحدة الكنيسة. ص. 8-9.

[14] التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدَّس 4-ب. الإنجيل كما دوَّنه يوحنّا 11 – 21. ص. 327.

[15]  الفكر الكنسي الأرثوذكسي، ص 57.

[16] وحدة الكنيسة. ص. 11.



آخر المواضيع

الخدم الإلهيّة الأرثوذكسيّة
الفئة : لاهوت

الميتروبوليت إيلاريون ألفييف 2023-10-28

عظة في أحد آباء المجمع المسكونيّ السابع
الفئة : لاهوت

المتقدِّم في الكهنة الأب جورج ميتالِّينوس 2023-10-14

حركة «آباء الكولّيفادِس» الرّوحيّة
الفئة : لاهوت

قسطنطين زلالاس 2023-09-16

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا