الله والإنسان في التاريخ بحسب القديس غريغوريوس بالاماس
جورج مانتزاريدس، أستاذ فخري في كلية اللاهوت في جامعة أرسطو، تسالونيكي
تعريب: ماهر سلوم
القديس غريغوريوس بالاماس (1269-1359) هو أحد أعظم آباء الكنيسة. يُذكَر أحيانًا أنه القمر الرابع مع القديس باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم (الأقمار الثلاثة). وقد دُعي أيضًا بالذهبي الفم الجديد.
بعد القديس يوحنا الدمشقي، الذي عاش في القرن الثامن ولخّص التعاليم العقائدية وفحوى الحياة المسيحية المركزيّة حول المسيح، بدأت فترة جديدة تميّزت بنموّ اللاهوت التَّجريبي (empirical theology) من جهة، ونموّ الرَّجعيّة العَقيمة والإنسانويّة المسيحيّة من جهة أخرى.
لاقى روح الرَّجعيّة العَقيمة والإنسانويّة رَواجًا في بيزنطية بواسطة برلعام الكالابري من إيطاليا ولاهوتيين آخرين مثل غريغوريوس أكيندينوس ونيكيفوروس غريغوراس. رغم أن هذَين الآخرَين أدانوا بعض مواقف برلعام، لكنهم تعاطوا مع اللاهوت كعمل فكريّ. إن رفض القديس غريغوريوس بالاماس للاهوتهم كان مرتكزًا على تقليد الكنيسة الحي. ففي تلك المرحلة الجديدة مع مشاكلها، كان يجب أن يكون صوت الكنيسة نفسه جديدًا، وسُمِعَ هذا الصوت من لاهوتيٍّ قد اختبر ’وجاهد في الأمور الإلهيّة’، كما هي الحال عند جميع آباء الكنيسة.
من بين مرتكزات اللاهوت الآبائي ولاهوت القديس غريغوريوس بالاماس هناك خبرة وجود الله في التاريخ. لا يمكن مقاربة هذه الخبرة من خلال المُساءلة المنطقيّة بل فقط من خلال خبرة واقتبال والتآلُف مع التدبير الإلهي. قال القديس صوفرونيوس سخاروف أنه بدون القديس غريغوريوس بالاماس لَما كُنّا قادرين أن نفهم عَصرَنا الحاليّ.
يقدّم لاهوت القديس غريغوريوس بالاماس المفتاح لتطوّر الوعي الذاتي الأرثوذكسي ومَظاهره. هذا هو السبب الذي جعل إعادة إحياء اللاهوت الأرثوذكسي، الذي أصبح مَلحوظًا في أواسط القرن العشرين، مُتَّصِلًا بشكل مباشر بانتشار لاهوت القديس غريغوريوس بالاماس.
يحتلّ التمييزُ بين جوهر الله وقِواه الموضعَ المركزي في لاهوت القديس. نشأ هذا التمييز، المُتَجَذِّر في الكتاب المقدّس، عند الآباء الكابادوكيّين لاهوتيًّا. استعمل القديس غريغوريوس بالاماس هذا التمييز مُشَدِّدًا على الطبيعة غير المخلوقة للقوى الإلهيّة.
لم يكن هذا التشديد ابتداعًا لاهوتيًّا بل كان له ثِقلٌ لاهوتيّ. لكل طبيعة قِواها المُلازمة الخاصة بها. للطبيعة المخلوقة قوى مخلوقة، وللطبيعة غير المخلوقة قوى غير مخلوقة.
الله ليس بعيدًا عنّا وليس مُتَّصِلًا بنا بوسائل مخلوقة. يأتي الله بشركة مباشرة وشخصيّة معنا من خلال قوى غير مخلوقة أو بالأحرى قِواه غير المخلوقة. يمكننا بهذه الطريقة أن ننخرط شخصيًّا بالحياة الإلهيّة ونصير آلهة بالنعمة. في النهاية، يتلخّص اللاهوت البالاماسيّ بالدّفاع عن حقيقة تجديدنا وتأليهنا بالمسيح، بكلام آخر، ترقِيَتِنا إلى حال شخصٍ مصنوعٍ ’على مِثال الله’.
إننا كبشرٍ أرفعُ من الملائكة، إذ خُلِقنا ’على صورة الله ومِثاله’. لهذا نعظّم والدة الإله أنها ’أكرم من الشاروبيم وأرفع مجدًا بغير قياس من السيرافيم’. إن مشيئة الله الأزليّة هي التي وضعَتْنا في هذه المرتبة الرَّفيعة. كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس: من بين سائر الخليقة، فقط نحن البشر لدينا بطبيعتنا القدرة على اختراع وإنتاج الفنون والعلوم المتنوّعة. لذا، نحن قادرون على حراثة الأرض وابتكار أشياء غير موجودة، بالرغم من أننا نصنعها مِمّا هو موجود وليس من العدم، والله وحده قادرٌ على الخلق من العدم1.
بكلامٍ آخر، من بين جميع خلائق الله، نحن فقط لدينا الإمتياز بخلق ما نُسمّيه حضارة. نُجَسِّدُ عالَمَنا الداخلي من خلال الحضارة. هكذا، كل حضارة تعكس خيارات المجتمع البشري المفضَّلة وتَوَقُّعاته وإنجازاته. وحضارتنا هي أوّلاً نِتاج فِكرِنا وهي تكشف شِيَمَهُ.
إن الذّهن البشري الذي هو مَركز ’صورة الله’ الرئيسي يعمل بشكل أفضل عندما يكون في شركة مع مِثالِه الأصلي: الله. بحسب القديس غريغوريوس بالاماس، عندما يتباعد الذهن البشري عن الله، ’فما هو بهيميّ يصبح شيطانيًّا’. إنه يتخطّى حدوده الطبيعية ويتغرّب مُنجَرِفًا بمحبة المال والطموح والشهوانيّة2.
هذه الظّاهِرة عالَميّة ومستمرّة، لكن خاصةً في هذا الزمن، حيث بهيميّة وشَيطنة الناس ظاهرة بدرجة مُرَوِّعة. محبة المال هي شكلٌ آخر لعبادة الأوثان، إنها لعنة كوكبنا بأسره. يختنق الناس وكل الأرض والبحر والهواء بالأدخِنة السامة الآتية من أولئك السّاعين للمال. إحدى الإغراءات التي يستعملها هؤلاء الناس، الآن ودائمًا، هي إقراض المال بالفائدة. يُشير القديس غريغوريوس مُطَوَّلًا لهذه المشكلة مُحَدِّدًا أبعادَها الاجتماعية الكارِثيّة. لا يفسِد مُقرِضو الأموال نفوسهم فحسب، بل المجتمع بكامله أيضًا، ويُلصقون بنفسهم جريمة بُغض الناس. يدمّرون حياة المُقتَرِض ونفسه. فائدة الدُّيون هي ’ذُرِيّة الأفاعي’ القابِعة في أحضان الجَشِعين. حتى إذا كنتم تقولون أنكم، بدلاً من فَرض الفوائد، تحتفظون بالمال الفائض لأنفسكم عوضًا عن إقراضِه للمحتاجين، فأنتم في الموقف ذاته، بحسب القديس غريغوريوس3.
حيث يوجد الرِّبى والجَشَع، فهناك تجدون الإستغلال والظلم والشهوانيّة. يتجاهل الناس وينسون مَهابَتَهم وإنسانيّتهم ويصبحون بَهيميّين. هكذا يتبيّن أن الحضارة التي يصنعونها هي سامّة وهمجيّة. هكذا هي الحضارة التي يصنعها الناس اليوم. ينعكس ذهننا الرديء في ثقافتنا. إن لم نطهّر ذهننا من الضَّغينة وُنعيدُه إلى مِثاله الأصلي، إلى الله الذي خُلِقنا على صورته، سوف نصبح ’بَهيميّين أو شيطانيّين’.
https://pemptousia.com/2020/03/saint-gregory-palamas-archbishop-of-thessaloniki/
1. الفصول المئة والخمسون، 63، القديس غريغوريوس بالاماس.
2. العظة 51، 10
3. العظة 45، 7.
آخر المواضيع
العدالة الإلهيّة حسب القديس ديونيسيوس الأريوباغي
الفئة : لاهوت
عظة في نقل رفات القديس مكسيموس المعترف
الفئة : لاهوت
اِعتراف الإيمان الأرثوذكسي كمِعيار إكلزيولوجيّ أساسيّ، بحسب القديس مكسيموس المعترف
الفئة : لاهوت
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني