كيف نفهم «تألُّه البشريَّة بالمسيح»
الأب ميخائيل بومازانسكي
تعريب شادي مخّول
شاركَت طبيعةُ الرَّب يسوع المسيح البشريَّةَ بالخصائص الإلهيَّة، من خلال اتّحادها بالألوهة وتقوَّت بها، بكلامٍ آخر، لقد «تألَّهَت». لم تتألَّه طبيعة الرَّب البشريَّة فقط، بل وكلُّ البشريَّة أيضًا تألَّهت بالمسيح وفيه، لأنَّه هو أيضًا قد اشترك في لَحمِنا ودَمِنا (عب 2: 14)، اتّحَدَ نفسه مع الجنس البشريّ بطريقةٍ شَخْصانيَّة، وتاليًا اتَّحدَ الجنسَ البشريّ بالألوهة. بما أن الربَّ يسوع المسيح قد اتَّخذ جسدًا من الدائمة البتوليَّة مريم، فقد دَعَتْها الكتب الكنسيَّة ينبوع تألّهنا «التي بها تألَّهنا». كذلك نحن نتألَّه عندما نتناول جسدَ المسيح ودمَه عن استحقاق[1]. تاليًا، علينا أن نفهم حدود معنى مصطلح «التألُّه»، لأنه هناك اتّجاهٌ في الآونة الأخيرة في الأدب الفلسفيّ - الدينيّ، بدءًا من فلاديمير سولوفييف، نحو توسيع خاطئ لمفهوم عقيدة خلقيدونية. إنَّ مصطلح «تألُّه» لا يتماهى مع مصطلح «الإله-الإنسان»، ومن يتألَّه في المسيح لا يكون على درب صَيرورته شخصيًّا إلهًا-إنسانًا[2]. إن دُعيَت كنيسة المسيح مؤسَّسة إلهيَّة-بشريَّة، هذا لأنَّ رأسَ الكنيسة هو المسيحُ الله، وجسدَ الكنيسة هو البشريَّةُ التي تجدَّدت وِلادتُها بالمسيح. تبقى البشريَّة بشكلٍ عام، بحدّ ذاتها، وكذلك الإنسان بشكلٍ خاص، في تلك الطبيعة التي خُلقوا فيها ومن أجلها. لذا، في أقنوم المسيح، لم يعبر الجسد والنَّفس البشريَّين إلى الطَّبيعة الإلهيَّة، بل اتَّحدوا بها فقط، اتَّحدوا دون تشوُّشٍ أو تغيُّر. يُعلِّم القدّيس يوحنّا الدمشقيّ أنَّه «لم يكن قط ولا يكون ولن يكون مسيحٌ آخَر من لاهوتٍ وناسوت، هو نفسه إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ في لاهوتٍ وناسوت» (المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي ص. 156).
المصدر:
Pomazansky, Protopresbyter Michael. Orthodox Dogmatic Theology. Translated by Hieromonk Seraphim Rose. Saint Herman of Alaska brotherhood, 2009. Print. Page, 220-223.
[1]- يتكلَّم الأب ميخائيل هنا عن عقيدة التألُّه الأرثوذكسيَّة بالمعنى الواسع. يؤكِّد القدّيس سمعان اللَّاهوتيّ الحديث أنَّ أولئك الذين اعتمدوا وخُتِموا بالميرون واشتركوا بالقُدُسات هم بمعنى ما «آلهة بالنِّعمة»، لأنَّ قوى الله غير المخلوقة ساكنةٌ فيهم. يقول القدّيس سمعان في الإفشين الذي كتبه ضمن صلاة المطالبسي إنَّ كلَّ من يشترك بالقُدُسات بنقاوةِ قلبٍ سيحيا ويتألَّه.
يكتب الأب دوميترو ستانيلواي «إنَّ التألُّه بالمعنى الواسع يبدأ بالمعموديَّة ويمتدُّ على مدى ارتقاء الإنسان الروحيّ، هنا تفعل قِواه أيضًا، أي عند التطهُّر من الأهواء واقتناء الفضائل والاستنارة» (Orthodox Spirituality, 363).
من منظور خبرة الكنيسة الأرثوذكسيَّة، يُمكن أن يُفهَم التألُّه بالمعنى الضيّق: أي ولوج الله الكامل إلى قلب الإنسان، فتستكين قوى الطبيعة البشريَّة ومَفاعيلُها، كونها استُبدِلَت بقوى ومفاعيل إلهيَّة. يكتب القدّيس ماكسيموس المعترف عن تالُّهٍ كهذا ما يلي: «إنَّ النفس تُصبح إلهًا وتستريح من كلّ أعمالها النفسيَّة والحِسّيَّة عبر مشاركتها بالنّعمة الإلهيَّة؛ وتستريح معها، في الوقت عينه، كلُّ حركات الجسد الطبيعيَّة التي تتألَّه مع النفس بحسب درجة اشتراكها في التألُّه، إلى حدّ أن يكون الله وحده هو المُعايَن من خلال النَّفس والجسد؛ إن غنى المجد يستحوذ على الخصائص الطبيعيَّة» (Selected Writings, p. 167).
إنَّ ذُروة تألُّه الإنسان ستحدث بعد القيامة العامَّة فقط، عندها سيمكث الإنسان بكليَّته، نفسًا وجسدًا، بحالة تألُّهٍ يستحوذ عليها النور غير المخلوق. ستصبح أجساد القديسين حينها كمثل جسد المسيح الممجَّد بعد القيامة. لكن حتى في ذلك الحين، أي بعد القيامة العامَّة، لن ينتهي نموّ القديسين نحو الله. يقول القدّيس سمعان اللَّاهوتي الجديد: «إنَّ النموَّ سيكونُ لامُتَناهِيًا، وإنَّ انقطاع هذا النمو اللَّامتناهي نحو النهاية لن يكون سوى التَّمَسُّك بما لا يمكن أن يُمسَك به» (Archbishop Basil Krivocheine, In the Light of Christ, p. 386).
[2] إنَّ التعليم الأرثوذكسيّ عن التألُّه، بمعناه الواسع والضيّق، يختلف جوهريًّا عن فكرة سولوفييف بشأن الإله-الإنسان. فالإنسانُ، بالنّسبة لسولوفييف، يُمكنه أن يُتحِدَ الطَّبيعة الإلهيَّة بالطَّبيعة البشريَّة كما فعل المسيح. من جهةٍ أُخرى، بحسب اللَّاهوت الأرثوذكسيّ، إنَّ المسيح هو الوحيد الذي وحَّد الطَّبيعة الإلهيَّة والطَّبيعة البشريَّة في شخصٍ واحد؛ أمَّا باقي البشر فلا يمتلكون إلَّا طبيعةً بشريَّة. ولكن على الرغم من أننا لا نستطيع أن نصبح آلهةً بالطبيعة كما كان المسيح ولم يزل، إلَّا أنَّه يمكننا أن نصبح «آلهةً بالنعمة»، أي أن نكون متَّحِدين بالله ومشتركين فيه من خلال قواه الإلهيَّة.
يشرح الأب دوميترو ستانيلواي: «إلهًا بالنّعمة لا بالطَّبيعة، يعني بالتحديد أنَّ طبيعة الإنسان المتألِّه تبقى غير متغيِّرة، بمعنى أنَّها لا تصبح بحدّ ذاتها مصدرًا للقوى الإلهيَّة، إنَّما تَقتَنيها بالنّعمة كَهِبة. بِغَضّ النظر عن مدى نمو القوى الإلهية فيها، إلَّا أنَّها تبقى وسيلةً وواسطةً لإظهار هذه القوى، ولن تتولَّى دورَ المصدرِ أبدًا».
ويُكمِلُ الأب دوميترو قائلًا: «هو مثل الله، حتى إنَّه إلهٌ، لكنَّه ليس الله. إنَّه إلهٌ بالتَّبَعِيَّة، وبكلامٍ آخر، إلهٌ بالمشاركَة. إن إدراك هذه التبعيَّة يُقصي التماثل الوجودي للإنسان مع الله».
«إنَّ التألُّه هو عبور الإنسان من الأمور المخلوقة إلى غير المخلوقة؛ إلى منزلة القوى الإلهيَّة. يشترك الإنسان في هذه الأمور، دون أن يشترك بالجوهر الإلهي. وهكذا نفهم كيف يُدرِك الإنسانُ القوى الإلهيَّة أكثر فأكثر إلى ما لا نهاية، من حيث أنَّه لن يُدرك المصدر بذاته أبدًا، أي الجوهر الإلهيّ، ولن يُصبح إلهًا بالجوهر أو مسيحًا آخر. بقدر ما يزيد الإنسان من قدرته على أن يُصبح حقلًا للقوى الإلهيَّة الكليَّة الغنى، بقدر ما تنكشف له هذه القوى الصادرة من الجوهر الإلهي بنسبةٍ أكبر» (Orthodox Spirituality, pp. 371, 373).
آخر المواضيع
العدالة الإلهيّة حسب القديس ديونيسيوس الأريوباغي
الفئة : لاهوت
عظة في نقل رفات القديس مكسيموس المعترف
الفئة : لاهوت
اِعتراف الإيمان الأرثوذكسي كمِعيار إكلزيولوجيّ أساسيّ، بحسب القديس مكسيموس المعترف
الفئة : لاهوت
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني