عظة في أحد الغفران
القديس يوحنا كرونشتادت
تعريب: نديم سلّوم
"فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ" (متى 6: 14 – 15).
يُدعى هذا الأحد بأحد الغفران لأنَّ الكنيسة تُرشِدُنا اليوم إلى قراءة الإنجيل الذي يعلِّمنا أن نغفر زَلاَّت الآخرين لكي يغفر لنا أيضًا أبونا السماوي زَلاَّتِنا التي لا تُحصى. لهذا السبب، كانت هناك عادة بين المسيحيين الأتقياء منذ القديم في هذا اليوم وفي كلِّ أيام أسبوع مرفع الجبن أن يطلبوا الغفران من بعضهم البعض عَمّا أخطأوا به تجاههم. هذه حقًّا عادة مسيحيَّة جميلة، فهل هناك مَن لا يخطئ ضدَّ قريبه في القول أو الفكر أو الفعل؟ ومَن يطلب الغفران يثبِّت إيماننا في الإنجيل وتواضعنا ووداعتنا ومحبَّتنا للسلام؛ وعلى العكس ذلك، عدم الرغبة في طلب الغفران من أولئك الذين أخطأنا بِحَقِّهم، يكشف في الإنسان الذي يرفض السلام قِلَّةَ الإيمان والكبرياءَ والغرورَ وتَذَكُّرَ الشر وعصيانَ الإنجيل ومقاومةَ الله والتّوافُقَ مع الشيطان. إنَّنا جميعًا أبناء أبينا السماويّ بالنعمة وأعضاء في المسيح الإله وأعضاء في جسد الكنيسة الواحد الذي هو جسده (للمسيح) وأعضاء بعضنا البعض؛ فالله محبَّة، وهو يطلب منَّا محبَّة متبادلة أكثر من أي ذبائح ومُحرَقات، "مَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. مَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. مَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. مَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1 كورنثوس13: 4 – 8). يتألَّف ناموس الله من كلمتيْن: محبَّة الله ومحبَّة القريب. مع ذلك، فإنَّ قلبَ الإنسان أنانيٌّ للغاية وغير صَبور وعنيد وخبيث ويستحضر الشر: إنه مستعدٌّ أن يغضب من قريبه ليس بطريقة شريرة مباشرة بل أيضًا عبر مُخَيِّلَتِه، وليس فقط عبر كلمة مسيئة بل أيضًا عبر كلمة مُزعِجة أو قاسية أو عبر نَظْرة تبدو شريرة أو غامضة أو خبيثة أو مُتَعَجرِفة، ويكاد يغضب حتَّى من أفكار الآخرين التي يتخيّلها حوله. هكذا قال الربُّ فاحِص القلوب عن قلب الإنسان: " لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ" (مرقس7: 21 – 22).
ولكن يجب أن يتواجد أيضًا علاجات قويَّة ضدَّ الأمراض الشديدة؛ فَحِقد الإنسان الكبير يقابله الإحسان اللامتناهي والنعمة الكلِّيَّة القوة لله: ينهزم كلُّ شرٍّ في النفس وفي الاخرين بسهولة بمساعدته عبر التواضع وعدم الحقد والتواضع والصبر وطول الأناة. يَعِظُ المخلِّص قائلًا: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا" (متى 5: 39 – 40). لأجل مغفرة خطايا إخوتِنا، نِلنا وعدًا بمغفرة الخطايا والرحمة والبركة الأبديَّة من قِبَل أبينا السماويّ في يوم الدينونة الرهيب: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ" (متى 5: 5). ولكن الحقدَ المتصلِّب مُهَدَّدٌ بحكم الله العادل وبالعذاب الأبديّ. استمع الآن إلى قصَّة توضح كيف يعاقب الله، حتَّى ههنا على الأرض، أولئك الناس الَّذين يحقدون ويبغضون بعضهم بعضًا. في العصور القديمة في لافرا مغاور كييف، كان هناك راهبان: تيطس الكاهن وإفاغريوس الشماس. بعد أن عاشا لبضع سنوات في سلام وصداقة، وبسبب بعض الأمور، نشأت عداوة وكراهيَّة تجاه بعضهما واستمرَّ حِقدُهما المتبادل لفترة طويلة وتجاسرا على القيام بالذبيحة غير الدمويَّة حتَّى من دون مصالحة. وعَبَثًا نَصَحَهُما الإخوة لهما بالتخلُّص من الغضب والعيش مع بعضهما البعض بسلام وانسجام. ذات مرَّة أُصيبَ الكاهن الراهب تيطس بمرضٍ خطيرٍ. بعد أن فقد كل أمل في الحياة، بكى بكاءً مرًّا على خطيئته وطلب من عَدُوِّه المغفرة، ولكن إفاغريوس لم يرغب حتَّى بسماع ذلك وبدأ يلعنه بشدَّة. أسِفَ الإخوة لسماع ذلك وجَرُّوه بالقوة إلى الرجل الذي يُحتَضَر. لمَّا رأى تيطس عدوَّه، نهض من فراشه بمساعدة الآخرين وسَجَدَ عند قدميْه متوسِّلًا بالدموع أن يغفر له؛ لكنَّ إفاغريوس القاسي القلب أبى عليه ذلك وصرخ بشدَّةٍ: لن أتصالح معك أبدًا، لا في هذا العالم ولا في العالم الآتي! للحال أُفلِت إفاغريوس من أيدي الإخوة وسقط أرضًا. أراد الرهبان إقامته ولكنَّهم اندهشوا برؤيته ميتًا وباردًا كأنَّه مات منذ فترة طويلة! وازدادت دَهشتَهم بالأكثر عندما قام الراهب الكاهن تيطس في نفس الوقت من فراش الموت بصحَّة جيِّدة وكأنَّه لم يمرض قط. أحاط الحاضرون بتيطس وهم مُرتَعِدون وكانوا يتساءلون واحدًا تلو الآخر ماذا يعني كل هذا. أجاب: بينما كنتُ مريضًا أنا الخاطئ، كنتُ غاضبًا من أخي، رأيتُ ملائكة يبتعدون عنّي ويبكون على هلاك نفسي بينما الأرواح النجسة كانت تفرح، لهذا السبب رغبتُ أن أتصالح معه أكثر من أي أمرٍ آخرٍ. ولكن لمَّا أتيتُم به إليَّ وانحنيتُ أمامه وبدأ يلعَنُني، رأيتُ ملاكًا رهيبًا يضربه بِحَرْبَتِه فسقط البائسُ على الأرض ميتًا؛ ثمَّ قام الملاك نفسه بِمَدِّ يَدِه ورَفَعَني من فراش الموت. بكى الرهبان على موت إفاغريوس الرهيب ومنذ ذلك الوقت بدأوا ينتبهون لأنفسهم أكثر لكي لا تَغرُب الشمس وهم في حالة غضبٍ.
أيُّها الإخوة والأخوات! إنَّ تَذَكُّر الشرِّ هو أبشع أنواع الرذيلة، وبقدر ما هو بغيض عند الله فهو أيضًا مؤذٍ للمجتمع. نحن مخلوقون على صورة الله ومثاله: ينبغي أن تكون الوداعة والإحسان صِفاتنا الثابتة؛ فالله يعمل معنا حسب رحمته وطول أناته ويغفر لنا من دون احتساب. وعلينا أن نغفر أيضًا. ولكن من يتَذَكّر الشر ويستحضره فهو ليس على صورة الله ومثاله: هو وحشٌ أكثر من كَونِه إنسان. آمين.
https://www.johnsanidopoulos.com/2018/02/homily-on-forgiveness-sunday-st-john-of.html
آخر المواضيع
بَرَكَة صليبنا
الفئة : زمن التريودي المقدّس
في السلام بيننا
الفئة : زمن التريودي المقدّس
عظة في أحد الأرثوذكسيّة
الفئة : زمن التريودي المقدّس
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني