حول الصّوم للقديس باييسيوس فليتشكوفسكي

الفئة:قصص روحية

القديس باييسيوس فليتشكوفسكي

تعريب: مارك البيطار

 

القدّيس باييسيوس (بطرس) فليتشكوفسكي (١٧٢٢-١٧٩٤).

وُلِدَ القديس باييسيوس في بولتافا – أوكرانيا بإسم بطرس فيليتشكوفسكي، من عائلة تَكَرَّسَ غالبيّةُ أبنائها للخدمة الكهنوتيّة. في عمر الثّالثة عشر، دخل مدرسة كييف اللّاهوتيّة، مُبتَغِيًا السَّير على خُطى والده. إلاّ أنّه أحسَّ بأنَّ هناك شيئًا ناقصًا - تقليد الصَّلاة الذهنيّة الرُّهبانيّ والنَّهج الآبائيّ. سُرعان ما رحل للبحثِ عن دير، فاقتادَهُ بَحثُهُ عن التّعاليم الرُّهبانيّة الحقَّة إلى جبل آثوس حيث جاهد مدّة سبعة عشر عامًا، ليصبح الأبَ الروحيّ للعديد من الرّهبان. كانت هذه السّنوات في جبل آثوس مُفعَمةً بالجهاد النُّسكيّ ودراسة الحياة الرّهبانيّة الحقيقيّة. غير أنّ اليونان كانت حينذاك تحت نير الحكم التركيّ، وقد جعل هذا الوضعُ السّياسيّ الأمرَ مستحيلًا على الشيخ وتلاميذه أن يلبثوا في الجبل المقدّس.

عام ١٧٦٣، انتقل القدّيس بايسيوس مع أربعة وسِتّين راهبًا إلى دير الروح القدس في دراغومير، بوكوفينا، مولدافيا، حيث أحيوا الحياة الرهبانيّة. هنا بدأ القدّيس باييسيوس تَرجَماتِه للآباء القدّيسين إلى اللّغة السّلافية. بسبب الحرب والاضطراب في تلك المنطقة، سَنَحت له الفرصةُ بالانتقال إلى نيامتس (Neamts) في عام ١٧٧٩، حيث ازدهرت أخويّته، وحيثُ أنتجَ لا فقط التّرجمات، بل وأيضًا نصوصه الآبائيّة الخاصّة.

اليوم، يوم تذكارهُ، يُسجِّلُ أيضًا اليوم الأوّل من صوم الميلاد. نَوَدّ أن نبدأ هذه الفترة من التّحضير المبارك بتعليمٍ قصير للقدّيس باييسيوس عن الصّوم في التّقليد الرّهبانيّ الأرثوذكسيّ، من عمله «أزهار البستان».

 

أعني بالصَّوم أن يأكل الإنسان كمّيّةً صغيرةً من الطّعام مرّة واحدة في اليوم. أن ينهضَ المرءُ عن المائدة وهو لا يزالُ جائعًا، وقد حصل على طعامه وخبزه وملحه ومياه الشرب الخاصّة به، الّتي أنتجتها الينابيع نفسها. احفَظ الطّريق المُلوكيّ لتناول الطّعام، الذي من خلاله، كثيرون قد نالوا الخلاص، بحسب ما قاله الآباء القدّيسون. لا يستطيع الإنسان دائمًا أن يمتنعَ عن الطّعام مدّة يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أسبوع. ولكن أن يأكل الإنسانُ الخبزَ وأن يشرب، هذا بمقدوره أن يفعله دائمًا؛ ولكن إذ يأكل المرء، عليه أن ينهض جائعًا قليلًا لكيما يكون الجسدُ خاضعًا للروحِ، وقادرًا على الجهاد، وحَسّاسًا ويقِظًا على حركات الذّهن، ولكيما تُغلَب الأهواءُ الجسديّة. لا يستطيعُ الانقطاع الكامل عن الطّعام أن يُميتَ شهوات الجسد كما يفعل الطّعامُ البسيط. يصوم البعض لفترةٍ ما، من ثمَّ يستسلمون للأطعمة الشهيّة، كثيرون يبتدئون الصّومَ بما يتجاوز طاقَتَهم، بالتّزامن مع جهاداتٍ قاسية، ومن ثمّ يضعَفونَ بسبب غياب التّدبير والتّرتيب لهذا الجهاد، حينئذٍ يطلبون الأطعمة اللّذيذة والرّاحة لكي تستعيدَ أجسادُهم قوَّتَها. التَّصَرُّف بهذه الطّريقة يعني البناء ثم التَّدمير مرة أخرى، إذ إنَّ الجسد، من خلال النُّحول النّاتج عن الصّوم، يَتوقُ إلى الأطعمة اللّذيذة ويبحث عن التّعزية، والأطعمة اللّذيذة بِدَورِها تُوقِظ الأهواء. ولكن إذا وضع شخصٌ ما لنفسه مَقياسًا مُحَدَّدًا لكميّة الطّعام البسيط التي يأكلها في اليوم، فسيحصل على مَنفَعة عظيمة. لكن في ما يتعلّق بكميّة الطّعام، على المرء أن يضع قاعدةً بأن تكون الكمّيّة على قدر ما هو ضروريّ لتشديد نفسه، على أن تُمكِّنه من تأدية جميع الأعمال الروحيّة. ولكن إذا صام شخص خارج هذا الإطار، سوف يستسلم في وقت آخر للرّاحة. إنَّ الجهاد النُّسكيَّ المَضبوطَ بترتيب، هو أمرٌ لا يُقَدَّر بثمن. إذ إنَّ بعض أعظم الآباء، تناولوا أيضًا الطّعام بترتيب، واستخدموا كلّ شيء في وقته المناسب، وكلّ شيء كان له جهاداته وفق التّرتيب النُّسكيّ، واحتياجات الجسدِ ومُقتَنيات القلّاية: كلّ شيء وفقًا لقاعدة مُحَدَّدة ومعتدلة. لذلك، لا ينصح الآباء القدّيسون أن يبدأ الإنسان بالصّوم بما يَفوق قدرته وما يُضعِفُ قوّته.

اتّخِذ قاعدةً بتناول الطّعام يوميًّا؛ بذلك يتمكّن المرء من الإمساك عن الطعام بطريقة أكثر حَزمًا، ولكن إذا صام أكثر من ذلك، فكيف سيتمكّن من الإمساك فيما بعد عن الأكل حتّى الشَّبَع والتُّخمة؟ لن يستطيع ذلك بأيّ حال من الأحوال. تنشأ هذه البدايات غير المعتدلة إمّا من المجد الباطل أو من عدم الفهم، في حين أنّ ضبط النّفس هو أحد الفضائل، ويساعد في إخضاع الجسد. أُعطِيَ الجوع والعطش للإنسان من أجل تطهير الجسد، للحفظ من الأفكار النّجسة والأهواء الشّهوانيّة. تناوُل طعامٍ بسيط كلّ يوم هو وسيلة لِبُلوغ الكمال، كما قال البعض، ولا يمكن، بأي حالٍ من الأحوال، لمن يأكل كلّ يوم في ساعة مُحَدَّدة، أن يُصاب بالانحطاط الأخلاقيّ أو أن تتأذّى روحُه. يمدح القدّيس ثيوذوروس الستوديتيّ هؤلاء في تعليمه عن يوم الجمعة من الأسبوع الأوّل من الصّوم الكبير حيث يستشهد بالآباء القدّيسين المتوشّحين بالله وبالله نفسه، الذين يؤكّدون كلامه بأنّه علينا أن نعمل نحن أيضًا بالمثل.

لقد صامَ الربّ بصبرٍ صومًا طويلًا، كذلك فعل أيضًا موسى وإيليا، ولكن لمرّةٍ واحدةٍ فقط. وبعضُ الأشخاص الآخرين، عندما كانوا يتوسّلون الخالق من أجلِ أمرٍ ما، كانوا يأخذون على عاتقهم الصّوم لمدّةٍ زمنيّة مُعَيَّنة، ولكن وفقًا للقوانين الطّبيعية وتعاليم الكتاب المقدّس الإلهيّ. يبدو من الجليّ من خلال أعمال القدّيسين وحياة مُخَلِّصنا وقوانين أولئك الذين عاشوا بترتيبٍ حَسَن، أنّه رائعٌ ومُفيدٌ أن يكون المرءُ مستعدًّا دائمًا وأن يوجَدَ بحالةٍ من الجهاد النُّسكيّ والعمل والاحتمال؛ ولكن دون أن يُضعِفَ الإنسان نفسه بصومٍ غير معتدل ودون إدخال الجسد في حالة من الخُمول. إذا كان الجسد ثائرًا بسبب الشّباب، فيجب على المرء أن يمتنع كثيرًا عن الطّعام في صَومِه؛ ولكن إذا كان الجسد ضعيفًا ومريضًا، فيجب تَناوُل كمّية أكبر أو الاكتفاء بالقليل. انظر واحكم وفقًا لِضُعفِكَ الخاصّ عَمّا يمكنك فعله. لكلّ واحد مِقياسه والمُرشِد الدّاخليّ هو الضمير؛ لا يمكن للجميع أن يكون لديهم نفس القاعدة ونفس الجهاد النُّسكيّ، فالبعض قويٌ والبعض الآخر ضعيف. البعض مثل

الحديد، والبعضُ الآخر مثل النُّحاس، وهنالك مَن هم مثل الشَّمع. وهكذا، إذ تكتشف مِقياسَك الذّاتي، تناوَل الطّعام مرّةً في اليوم، ما عدا أيّام السّبت والأحد وأعياد ربّنا السّيّديّة. إنّ الصّوم المعتدل والمَعقول هو أساس كلّ الفضائل ورأسها. على الإنسان مُقارَعة الشرّ كَمَن يحارب أسدًا وثعبانًا شرِسًا - في ضعف الجسد والفقر الرّوحيّ. من أراد أن يكون ذهنه حازِمًا ضدّ الأفكار الدَّنِسة، عليه أن يَصقُل جسده بالصٍّوم.

من غير الممكن للكاهن أن يخدم من دون الصَّوم. كما أن التَّنَفُّسَ ضروريٌّ، كذلك هو الصَّوم. بمجرّد دخول الصّوم إلى الرّوح، يقتل أعماق الخطيئة الكامِنة فيها.

من الفيلوكاليا الرّوسية الصَّغيرة، المجلَّد. أربعة: القدّيس بايسيوس فيليشكوفسكي (بلاتينا: مطبعة القدّيس هيرمان، ١٩٩٤)، ص ٧٤-٧٥.

 

http://orthochristian.com/88203.html



آخر المواضيع

الإنسان المعاصر والحياة الروحيَّة
الفئة : قصص روحية

الشيخ أفرام الفاتوبيذي 2024-11-23

كيف تتعامل مع شخصٍ لا تحتملُ التَّعاملَ معه
الفئة : قصص روحية

مقتطف من تعاليم الأم ماكرينا من بورتاريا 2024-09-04

محاضرة في جماعة الخمسينيّين وخبرة النعمة الإلهيّة (7/7)
الفئة : قصص روحية

الأرشمندريت جورج كابسانيس 2024-08-11

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا