
عظة في نَسَب ربّنا يسوع المسيح بالجسد في والدة الإله الدائمة البتولية التي وَلَدَته في البتوليّة
القديس غريغوريوس بالاماس1
نقلها إلى العربية: ماهر سلوم
نُشِرَت في "الإيمان الأرثوذكسي"، العدد الثالث، تشرين الثاني 2025
١. يُشير داوود أنَّ الرب يسوع المسيح ليسَ لهُ نَسَبٌ بحسب ألوهيته (مزمور ۱۱۰ : ٤ ) ، ويقول إشعياء الأمر نفسَه (إشعياء ٥٣ : ۸) وبولس الرسول يقول في موضع آخر كذلك (عبرانيين ٧ : ٣). فكيف يمكن تتبُّع أصل نَسَب الذي «في البدء كان... عند الله وكان (الكلمة) الله» (يوحنا ١: ١)؟ ليس لـه أب قبله، وهو يشارك أباه «إسْمًا فَوْقَ كُلّ أسم» وكلّ قولٍ (فيليبي ٢ : ٩). في معظم الأحيان تتسلسل الأنساب من خلال أسماء العائلة المختلفة، لكن لا يوجد اسم الله (تکوین ۳۲: ۲۹) وكلُّ ما يمكنُ قوله عن الآب والابن والروح القدس هو أنّهم واحد ولا يختلفون في شيء.
٢. يستحيل تعداد نَسَب المسيح بحسب ألوهيته، ولكنّه يمكن تتبّع أجداده بحسب طبيعته البشرية، لأنَّ الذي تنازل حتى يصبح ابْنَ الإنسان لكي يخلّص البشريّة صار من ذُرّيّة البَشَر. وهذا النَّسَب هو الذي دوّنه إثنان من الإنجيليين متى ولوقا مع أنّ منّى في الإصحاح من إنجيله الذي تُلي اليوم يبدأ بالذين وُلِدوا أوّلاً، فهو لا يذكر أحدًا مِمَّن كانوا قبل ابراهيم. إنّه يسلسل النَّسَب بدءًا من ابراهيم منتهيًا بيوسف الذي كانت العذراء والدة الإله مخطوبة له بتدبير إلهيّ (متى ١: ١-١٦)، فهي من سبطه وموطنه، كي لا يظهر أصلها أدنى منه بأي شكل. على عكس متّى لا يبدأ لوقا بالآباء الأولين بل بالقريب العهد، ويعود إلى الوراء ابتداءً من يوسف الخطيب، ولا يتوقف عند ابراهيم، ولكن بعد ذكر أجداد إبراهيم لا ينتهي أيضًا عند آدم بل يذكر الله من بين أجداد المسيح بالجسد (لوقا ۳: ۲۳-۳۸)، مُريدًا أن يُظهِرَ، برأيي، أنَّ الإنسان من البدء لم يكن مجرد خليقة الله، بل هو أيضًا ابن بالروح الذي أَعطِيَ له في الوقت ذاته في نَفَسِهِ، بِنَفخة الله المحيية (تكوين ٢ : ٧) لقد أعطي له كوعدٍ أنّه إذا حفظ الوصايا بصبر، فسوف يستطيع الاشتراك بالروح ذاته عبر اتحاد كامل بالله، الذي من خلاله يستطيع أن يحيا معه إلى الأبد وينال عدم الموت.
۳. ولكن بإصغائه لمشورة الملاك المفسد (الشيطان)، عصى الإنسان الوصايا الإلهيّة، وظهر غير مستحق، ونقض الوعد وعطّل قصد الله. لكن نعمة الله راسخة ولا يمكن بطلان قصده فقد تمّ اختيار أشخاص من ذرّيّة البشر، كي يجد من بينهم أداةً مناسبةً لهذا التبنّي الإلهي ولهذه النعمة، لتخدم مشيئة الله بالكامل، ولتظهر إناءً مستحقًا ليُتحِدَ الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشريّة في شخص واحد ليس لارتقاء طبيعتنا إلى هدفها الأصلي فحسب، بل أيضًا من أجل استعادة الجنس البشري. كانت أَمَةُ الله المقدّسة والعذراء والدة الإله هذا الإناء فأعلنت بواسطة رئيس الملائكة جبرائيل أنّها ممتلئةً نعمةً (κεχαριτομενη, kekharitomeni) (لوقا ۱: ۲۸)، مختارةً من بين المختارين بلا عيب طاهرة، ومستحقة لتحوي شخص الإله الإنسان (θεαωνθροπος, theanthropos)، وتتآزر معه (συνεργεο, synergeo) في العمل. إذن، لقد سبق الله وحدّدها قبل كلّ الدهور، اختارها من بين جميع الذين عاشوا، وأوضحها مستحقة لنعمة أكثر من أي واحد جاعلاً إيَّاها أقدس من كل القديسين، حتّى قبل ولادتها العجيبة لهذا السبب، أهّلَها أنّ تسكُنَ في قُدس الأقداس، وقبل أن تشاركه مَسكِنَهُ (أَي قدس الأقداس) منذ طفولتها. لم يختارها ببساطة من بين الجموع بل من بين المختارين من كلّ زمان المشهود لهم بتقواهم وحكمتهم، الذين سُرَّ الله بأقوالهم وبأعمالهم التي جَلَبَت المنفعة للجميع.
٤. لاحِظوا أين ابتدأ هذا الاختيار. لقد اختير شيث العظيم من بين أبناء آدم؛ فبسبب سلوكه المنتظم، وضبطه حواسه، وفضيلته المجيدة، قد أظهر نفسَه سماءً حيّةً، فأضحى أحد المختارين الذين انحدر نسل العذراء منهم، تلك المركبة السماوية والإلهيّة حقًا، الملائمة لحمل الله الذي يفوق السماوات والتي من خلالها دعى الله البشر لِبُنُوَّته الأبدية. لذلك دُعِيَ نسل شيث «أبناءَ الله» (تكوين ٦: ٢) لأنّه من هذا النَّسل أصبح ابنُ الله ابن الإنسان. لذلك يمكن تفسير اسم شيث بمعنى «القيامة» أو بالأحرى «النهوض مِنْ»، مشيرًا بالحقيقة إلى الربّ الذي يَعِدُ بالحياة الأبديّة ويَهبَها للمؤمنين به.
٥. وما مدى استحقاق شيث أن يكون نموذجًا للمسيح؟ «فَوَلَدَت حوّاء أَبْنًا وَدَعَتِ أَسْمَهُ شِيثًا»، كما تقول هي نفسها، «عِوَضًا عن هابيل» (تكوين ٤ : ٢٥) الذي حَسَدَه قايين وقَتَلَه، بينما المسيح ابن العذراء قد وُلِدَ للجنس البشري عوضًا عن آدم الذي قتله أميرُ وأب الشرِّ حَسدًا. لكن شيث لم يُقم هابيل لأنّه هو مجرد تصوير مسبق للقيامة، بينما ربُّنا يسوع المسيح قد أقام آدم، لأنّه الحياة الحقيقية وقيامة البشريّة (أنظر يوحنا ١١ : ٢٥) الذي من خلاله استحقت ذُرِّيّة شيث أنْ يُدعَوا أبناء الله، على رجاء التبنّي الإلهيّ. تُظهر الإشارة إليهم أنهم أبناء الله، بحسب هذا الرجاء، من خلال أوّل شخص دُعِيَ هكذا لِيَرِثَ اختيار الله. وهذا الشخص هو ابن شيث نفسه، أي أنـوش الـذي، كما كتب موسى: «ارتجى أن يُدعى باسم الرب» (تكوين ٤: ٢٦).
٦. هل ترون بوضوح أنّه دُعِيَ هكذا على الرجاء؟ إن كان السبعون2 يقولون إنّ «هو أوّل مَن كان له الرجاء أن يُدعى باسم الربّ»، فهم لا يتعارضون أبدًا مع الآخرين3؛ لأنَّ أنوش عاش بطريقة أرضَتِ الله أكثر مِنْ أي شخص في أيامه، وكان أوّل من نال هذا الرّجاء من الله. لقد دعي بهذا الرجاء فدعي به4. لقد اختار الله شيث (بشكل خاص) من بين أبناء آدم، لذلك أراد لوقا إدراجه عند تدوينه النسل الذي وُلِدَ منه المسيح بحسب الجسد. ثم اختير أنوش من بين إخوته كأفضل أبناء شيث، كما ذكرنا قبلًا. لقد اختير أخنوخ من ذريته، لأنّه أثبت من خلال ما جرى له أنّ الفضيلة لا يضيع أجرها، وأن الذين أرضوا الله لا يستحقّون العالم الزائل هذا، لذلك نُقل وحده لأنّه أرضى الله (تكوين ٥ : ٢٤؛ عبرانيين ۱۱ : ٥). وأيضًا اختير لامخ المفضّل على أبناء أخنوخ الآخرين، ومن بعده، اصطفى الله ابنه نوح، فأصبح الأب الوحيد لكلِّ مَن في الأرض بين البشر) بعد الطوفان. كان هو وعائلته فقط يعيشون في العفّة في ذلك الوقت حينما اتّخذ أبناء الله زوجات من بنات الناس، كما يخبرنا موسى (تكوين ٦ : ١-٢). هذا يعني أنّه من ذرّيّة شيث جد والدة الإله أولئك الذين رفضوا بغير ،استحقاق قد أزيلوا من عائلة والدة الإله وحُرِموا بالكامل من الروح الإلهيّ. لاحقًا انحدر هذا الروح على العذراء بحسب كلمات الملاك لها: «الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلُكِ» (لوقا ١ : ٣٥). لقد دَبَّر الروح مجيء العذراء مُسبَقًا، واختارها منذ البدء، وطهّر أصلها، راضيًا عن مَن هم مستحقون، أو مَن سيُصبحون آباءً لأشخاص بارزين، وطارحًا غير المستحقين خارجًا بالكلية.
٧. لأجل هذا قال الله في أولئك المرفوضين: «لا تدوم روحي في الإنسان إلى الأبد، فهو بشر» (أنظر تكوين ٦: ٣). رغم أن العذراء، التي وُلِدَ منها المسيح بحسب الجسد، أتت من جسد آدم ونسله، لكن لأنّ هذا الجسد قد طهر بأساليب عديدة بالروح القدس منذ البدء، فهي انحدرت من المختارين في كلّ جيل بسبب فضيلتهم كذلك ،نوح، الذي كان «رَجُلًا بَارًا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ» (تكوين ٦ : ٩) كما تقول عنه الكتب، قد وُجِدَ مُستحقًّا أيضًا لهذا الاختيار.
۸. راقِب كيف أنّ الروح القدس أيضًا يوضحُ لِذَوي الذهن الطّاهر أنّ الكتاب المقدّس بكامله موحى به من الله قد كُتِبَ من أجل العذراء والدة الإله. فهو يسرد بتفصيل تسلسل أجدادها، الذي يبدأ مع آدم ويمرّ عبر شيث، نوح، وابراهيم، بالإضافة إلى داوود ،وزربابل ومن هم بين أولئك ومَن هم بعدهم، ويستمرّ حتى زمن العذراء والدة الإله. في المقابل، ثمة أجناس من البشر لا يأتي الكتاب المقدس على ذكرهم أبدا، وبعضًا منهم يتتبَّعُهم الكتاب ثمّ ما يلبث أن يُعرِضَ عن ذكرهم، تارِكًا إياهم في أعماق النسيان. فوق كلّ شيء، يذكر الكتاب المقدس أجداد والدة الإله الذين كانوا رَسمًا في حياتهم وأعمالهم للمسيح المولود من العذراء.
٩. لاحِظوا كيف يرمز (أو يُشير) نوحٌ إلى مَن وُلِدَ لاحقًا من العذراء، لذلك تمّ اختياره من أجل المسيح. فقد ظهر نوح كمخلّص ليس لكلّ جنس البشر بشكل عام، بل لأهل بيته الذين أنقذوا من خلاله بالطريقة ذاتها، المسيح هو أيضًا مخلّص جنس البشر، وليس لكل البشر، بل لجميع أهل بيته أَيْ كنيسَتِهِ، وليس للعُصاة. علاوةً عن ذلك، يمكن ترجمة اسم «نوح» بكلمة «الراحة من التعب5» (تكوين ٥ : ۲۹) لكن مَنْ هو «الراحة» الحقيقيّة سوى ابن العذراء القائل: «تَعَالَوْا إِلَيَّ (بالتّوبة) يا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الْأَحْمَالِ (بالخطايا)6، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ (متى ۱۱ : ۲۸)، والمانح إيّاكم الحرية والأمان والحياة الأبدية.
١٠. أمّا لامخ (أبو نوح)، فقد أعطى نوح هذا الاسم، لأنّـه رأى فيه (رمز) المسيح، الذي أتى لاحقًا من ذُرِّيَتِهم، وصار راحةً لجميع خائفيّ الربّ في كلّ الدُّهور، وبذلك هو تنبّأ بوضوح من خلال هذا الاسم (نوح / راحة) عن المسيح. ويقول الكتاب المقدَّس: «دعا اسمه نوح قائلاً هذا سيريحنا من عملنا، ومن تعب أيدينا في الأرض التي لعنها الربّ» (تكوين ٥: ٢٩). لا تشير هذه الكلمات الى الطوفان الآتي (لاحقًا)، فقد مات لامخ قبل الطوفان، بل تشير أنَّ نوحًا «سيُريحنا»، أي سوف يجلـب لنـا الهدوء، بما في ذلك (شخص) نوح نفسه كونه مشارك بالسكينة التي تنبأ عنها. وفي الأيام تلك التي لم يبلغ الإنسان حالة أنَّ «كلَّ تَصَوُّرٍ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تكوين ٦ : ٥) بعد قبل أن يَحُلَّ الهلاك الشامل من الله على كلّ مَن في الأرض. فلِمَن تُشير الكلمات حين يقول: «سيُريحنا»؟ ويقول أيضًا «سيريحنا من الأرض التي لعنها الربّ»، الذي تمّ لاحقًا (مع نوح). مَن يعطينا الراحة والسكينة من هذه الأرض سوى الذي فتح السماوات ورفع طبيعتنا إليها وعلَّمنا بالأقوال والأعمال أن نرتفع قُدُمًا نحو السماء، ودعانا إليها؟ لكن إن كان الطوفان قد رمز إلى هذه الراحة لأنّه به تمّ عبر استئصال الخطايا ودفنها، لا بتوفير الارتياح والسهولة للخطأة.
۱۱. بهذه الطريقة، ولهذه الأسباب عينها اختار الله نوحًا. ومن بين أولاده7، قبل سام من بين مختاري عائلة والدة الإله المباركة. لأجل ذلك، رغم أنّ يافث قد أرضى أبيه أيضًا، فسـام فقط هو الذي سمع من أبيه (هذه الكلمات): «مُبَارَكَ الرَّبُّ إِلَهُ سَامٍ» (تكوين ٩: ٢٦) بما أنّ نسله سيكون إلهيًّا. فمِنْهُ انحدر ابراهيم الذي فضَّله الله بين جميع نسل سام، ودُعِيَ كي يكون من سلالة الأمّ العذراء. أعطاه الله اسمًا جديدًا، ونال ذلك الوعد العظيم أنَّه سوف تُبارَك بِنَسله جميع قبائل الأرض (تکوین ۱۷: ٥؛ ۱۲ : ۳). بحسب القدّيس بولس الرسول، إنّ المسيح إلهنا، الذي وُلِدَ من العذراء، هو مِنْ نَسلِ ابراهيم بحسب الجسد (غلاطية ٣: ١٦) ومَن الذي يستطيع وصف الرُّؤى الإلهية التي اختبرها ابراهيم أم العلامات الإلهيّة والوعود التـي رمـز إليها وتنبأ بها بما يَخُصُّ والدة الإله الدائمة البتولية ومولدها الذي لا يوصف؟ لكنْ لِنُلق نظرة سريعة عمّا حصل تاليا، فالوقت لا يَسَعُنا للكلام مُطَوَّلاً. اختير إسحق من بين أبناء ابراهيم من ثَمّ يعقوب من بين أبناء اسحق، وسبط يهوذا من نسل يعقوب. ومن هذا السبط اختير جذع يسى، ومن بين الذي أفرعوا من هذا الجذع، اختير داوود ناظم المزامير والنبي والملك الذي قال فيه الله: «نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي. مِثْلَ الْقَمَرِ يُثَبِّتُ إِلَى الدَّهْرِ. وَالشَّاهِدُ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ» (مزمور ۸۹ : ۳٦-۳۷).
١٢. مَن هو هذا الشاهد (الذي في السماء)؟ من الواضح أنّـه الذي يجلس على العرش السماوي، الذي يُقال فيه في موضع آخر « يَكُونُ أَسْمُهُ إِلَى الدَّهْرِ. قُدَّامَ الشَّمْسِ يَمْتَدُّ أَسْمُهُ، وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ الْأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ» (مزمور ۷۲: ۱۷). بالتالي، تبدو ذُريّـة والدة الإله ويوسف خطيبها مزدوجة نوعًا ما فالاثنان هما من سبط واحد ومن جذر واحد بحسب الناموس. بالتالي، نَسَب العائلة الجَديّ هو مزدوج من أبناء بحسب الطبيعـة مـن جهـة ومِنْ أبناء بحسب الناموس من جهة أخرى، يلتقون في نَسَب واحد في كثير من الأحيان، لكنّهم ينقسمون إلى اثنين أحيانًا أخرى فرغم أنَّ الأمر يبدو غريبًا، يمكن للابن الواحد أن يكون لأبَوَيْنِ هما إخوة ابن أحدهم من الناحية الناموسية، من دون أن يكون مولودًا منه بالجسد، وابن آخر بحسب الطبيعة، كأب قد أقام نسلاً لأخيه (متى ٢٢ : ٢٤؛ تثنية ٢٥ : ٥-٦؛ تکوین ۳۸ : ۸)، بقدر ما يمكن للابن أن يسلسل ذرّيّة أجداده حتّى داوود من خلال أبوَيْهِ الإثنين. يمكن أن نرى الطبيعة المزدوجة لهذه الذرّيّة من ناحية أخرى، فالنَّسَب الملوكي قد اتّحد، في العديد من الأحيان وبعدّة طُرُق، بالنَّسَب الكهنوتي. بالتالي بالنسبة إلى نَسب والدة الإله المقدّس، تنحدر ذُرّيّة زربابل من داوود من خلال سلالة ناثان الذي حُسِبَ بين الكهنة، ومن خلال سليمان أيضًا الذي ورث المملكة. لهذا السبب، سَلسل الإنجيليّان متى ولوقا نَسَب الرب بحسب الجسد بطريقتين مختلفتين، فالأول يسلسل الآباء بحسب الطبيعة والثاني يسلسل الآباء بحسب الناموس كذلك الأوّل يذكر فقط أولئك الذين من نَسَب ملوكي فيما لوقا يذكر أولئك الذين هم من سبط لاوي (كهنوتي) مع أولئك الذين من البيت الملوكي مجتمعين إمّا بالكهنوت أو بالزواج.
۱۳. أمّا زربابل، بما أنّه أيضًا نال حظوةٌ أَنْ يُحسَبَ مِن أجداد والدة الإله، فكان رَسْمًا للمسيح وكُرّمَ بسلطة وألقاب عظيمة هو وُلِدَ في السَّبي وكان مُحتَرَمًا من قبل قوروش ملك ميدية والفرس بسبب فضيلته وعلمه. لقد علم العبرانيين والأجانب قدرة الحقيقة بقوّة، وحرّر بني جنسه من العبودية واستعاد هيكل الله (١ عزرا ٤ : ٣٣-٦٣؛ ۲ عزرا ۳ : ۱-۱۳). لاحقًا، عَمِلَ المسيح أمرًا مُماثلًا، فهو لم يُجدّد الهيكل العادم الحياة بل ذلك الهيكل الحيّ الناطق أي طبيعتنا، وافتداها لا من السَّبي الحِسّيّ الوقتي بل من السبي الروحي الأصلي. ولم ينقل أتباعه من بلد لآخر، بل نقلهم من الأرض إلى السماء. كان زربابل جَدًّا للبتول وليوسف خطيبها كذلك، لكن فيما هو جَدَّ للبتول بحسب الطبيعة فقط، كان جَدًّا ليوسف بحسب الطبيعة وبحسب الناموس معًا. فقد كان ليوسف أبوان، «هالي» بحسب لوقا (لوقا ۳ : ۲۳) و «يعقوب» بحسب متّى (متى ١٦:١). إنَّ هالي ويعقوب هما أخان ينحدران من زربابل، وعندمـا مـات هـالي مـن دون أولاد، أصبح يعقوب أبًا ليوسف من زوجة أخيه المنسوبة إلى هالي بحسب الناموس.
١٤. هذه الأمور هي أمثلة ونماذج لأسرار أعظم، إذ كان ضروريًا أَنْ تكون السلالة الملوكيّة متّحدة بعدة طرق بالأصل الكهنوتي، ما أنتج عائلة المسيح بحسب الجسد؛ لأنّ المسيح هو حقًا الملك الأبدي ورئيس الكهنة كما يظهر بهذه الطرق العديدة. وبالحقيقة إنَّ الأبناء بالتَّبنّي يُحسبون أبناء، أي أنَّ الناموس يعتبرُ الآباء الذين يتبنّون أبناءً كآبائهم بحسب الطبيعة، وأعظم منهم أحيانًا، وأنَّ هذا الأمر هو مَثَلاً ونموذجًا واضحًا لِتَبَنّينا من قِبَل المسيح وقرابتنــا معـه ودعوتنا بحسب الروح وناموس النعمة. فالمسيح نفسه يقول في الأناجيل: «لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُو أخي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متى ١٢: ٥٠).
١٥. هل تلاحظون كيف أنَّ عائلة ونَسَب المسيح ليست بحسب الطبيعة، بل بحسب النعمة والناموس الذي يأتي من النعمة؟ هذا الناموس هو أعظم بكثير من الناموس المعطى من خلال موسى. فإنّما المدعُوّون أبناءً بحسب ناموس موسى ليسوا مولودين من الله ولا يتجاوزون الطبيعة البشرية، أما أبناء ناموس النعمة فهم مولودون من الله، مدعوون للكمال بما يتجاوز الطبيعة، وصائرون أبناء لإبراهيم من خلال المسيح وأقرب منه أكثر من أبنائه من جهة الدم. بحسب بولس كل الذين اعتمدوا بالمسيح قد لبسوا المسيح (غلاطية ٣: ٢٧)، وبالرغم من أنّهم أبناء بشرٍ آخرين بحسب الطبيعة، فقد ولدوا بما يتجاوز الطبيعة مِنَ المسيح الذي يضبط الطبيعة. فكما تجسّد (المسيح) من دون زرع بالروح القدس ومن مريم الدائمة البتولية فهو يمنح القوّة الإلهيّة غير المخلوقة والسلطان للذين يؤمنون باسْمِهِ لكي يُصبحوا أبناء لله. فالإنجيلي يقول: «وأمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ الَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ اللهِ» (يوحنّا ۱: ۱۲-۱۳).
١٦. وحين يقول: «الذين وُلِدوا من الله»، لماذا لا يقول «وصاروا أبناء الله»، بل «أَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا» أبناء؟ لأنّه كان يتطلّع نحو نهاية الأزمنة كمال الدهر الآتي. يقول الإنجيلي ذاته في رسائله: «ولَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ» (۱ يوحنّا ۳ : ۲). سنكون أبناء لله حينئذ، ناظرين ومعاينين خبرة نور الله مع أشعّة مجد المسيح مُشرقة حولنا، ونحن أنفسنا مُشرِقين، كما برهن لنا موسى وإيليا عندما ظهرا معه بالمجد على جبل ثابور (متی ۱۷: ۳؛ لوقا ۹: ۳۰). يقول في الإنجيل: «حِينَئِذٍ يُضِيءُ الْأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أبيهم (متى ١٣: ٤٣). نحن ننال القوة (غير المخلوقة) لأجل هذا الهدف بالذات من خلال نعمة المعموديّة المقدّسة. فكما ينال الطفل الرضيع قوّةً من أهله ليصبح إنسانًا ووارِثًا لبيتهم وثروتهم، غير أنّه لا يحظى بالوراثة بعد لأنَّه قاصر، ولن ينالها إذا توفّي قبل كمال السِّنّ كذلك المولود ثانيةً بالروح من خلال المعمودية المسيحيّة، قد نال القوّة ليصير ابنًا ووارِثًا لله وارِثًا مع المسيح (أنظر رومية ۸ : ۱۷) ولكي ينال في الدهر الآتي، وبكلّ تأكيد، التَّبَنّي الإلهي الخالد الأبدي كابن الذي لن يؤخَذَ منه إلا إذا فقده بالموت الروحي. الخطيئة هي موت روحي وفيما الموت الجسديّ يُبطَل في الدهر الآتي سيُثبت الموت الروحي لمن يأخذونه (بعد الموت معهم منذ الآن في حياتهم).
۱۷. على كلّ مَن نال المعموديّة، إن أراد أن يحوز على البركات الأبدية والخلاص الذي يترجّاه، أن يحيا حـرًّا مـن كل خطيئة. يشرح بطرس وبولس هامَتَي الرُّسُل القدّيسين، هذا الأمر بوضوح. يقول بولس عن المسيح: «لِأَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّة مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا اللَّهِ.» ويُضيف: «كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا أَحْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلَكِنْ أَحْيَاء لِلهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبَّنَا» (رومية ٦: ١٠-١١). فيما يكتب بطرس: «فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لِأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ، كَفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ، لِكَيْ لَا يَعِيشَ أَيْضًا الزَّمَانَ الْبَاقِيَ فِي الْجَسَدِ لِشَهَوَاتِ النَّاسِ، بَلْ لِإِرَادَةِ اللَّهِ» (١ بطرس ٤ : ١-٢) . إن كان الله قد عاش على الأرض من أجلنا كي يكون لنا مثالاً، وعاش حياتَهُ من دون خطيئة، فيجب علينا نحن أيضًا أن نعيش من دون خطيئة، مُتَشَبِّهين به. إن سبق وقال لسلالة ابراهيم بحسب الجسد: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلَادَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ» (يوحنّا ۸ : ۳۹) فكم بالحَرِي يقول لنا نحن الذين ليس لدينا أيّة قربى جسدية معه: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلَادِي لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالي»؟ عادِلٌ إذا ولائق أنّ الذي لا يتبع طريق حياة المسيح خطوةً خطوةً بعد المعمودية بعد العهود التي عاهد الله بها والنعمة التي نالها سيُحرم من التبنّي الإلهيّ ومن الميراث الأبدي.
۱۸. لكن أيّها المسيح الملك من ذا يستطيع أن يُشيد بعظَمة محبّتك للبشر؟ فما كان غير ضروري له وما لم يفعله، أعني التوبة - فهو لم يكن بحاجة لأن يتوب بما أنّه مُنَزَّه عن الخطأ، (عبرانيين ٤: ١٥) - قد مَنَحَنا إيّاها كواسطة عندما نخطئ بعد نَيلنا النعمة. التوبة تعني العودة إليه نَدَمًــا مـرّةً أخرى وإلى الحياة بحسب مشيئته. حتّى من ارتكب خطيئة مميتة، إن أعرض عنها من كلّ نفسه، وامتنع عنها وعاد الله بالفعل والحق، فليتشجّع وليكن فيه الرجاء، فهو لن يخسر الحياة الأبدية .والخلاص. عندما يلاقي ابن الموت الجسدي، لا يستطيع أبوه أن يُعيده إلى الحياة، أمّا الذي يولد في المسيح، فحتى إن سقط في خطايا مميتة، إذا عاد وأسرع نحو الآب الذي يُقيم الموتى فهو يعود حيًّا ثانيةً، وينال التبنّي الإلهيّ، ولا يُطرد من مَعشَر الصالحين.
۱۹. عسى أن نصل جَميعُنا لهذه الحال، لِمَجدِ المسيح وأبيه الذي لا بدء له والروح القدس المحيي، الآن وكلّ آن وإلى دهر الداهرين. آمين.
1. أُلقيت يوم الأحد قبل ميلاد المسيح أحد النسبة مـن كتاب «عظات القديس غريغوريوس بالاماس». المرجع الأصلي
"Saint Gregory Palamas, The Homilies," translated and edited by Christopher Veniamin, Mount Thabor Publishing, 2023
2. هم الشيوخ السبعون الذين ترجموا العهد القديم الى اللغة اليونانية، وتُسمّى ترجمتهم «الترجمة السبعينيّة»، وهي التي اعتمدوها الأباء القديسون في الكنيسة.
3. يشير القديس غريغوريوس بالاماس أنّ هناك عدة ترجمات للعهد القديم، وأنّه مطّلع عليها، وهي لا تتعارض بعضها البعض.
4. اسم أنوش يعني «مُخلّص»، أو «مُكرَّس»، أو «متفاني».
5. وتعني أيضاً «السكينة»، أو «الهدوء» hesychia بعد التعب.
6. يضيفها القديس غريغوريوس بالاماس على لسان الرب يسوع.
7. لنوح ثلاث أولاد: «سام» جدَّ الساميين «يافث » جـد اليونانيين والرومان، و«حام» جـد قبائل أفريقيا الشمالية البرابرة والمصريين.