
بِصلوات الآباء القدّيسين...1
المطران نيوفيطوس، متروبوليت مورفو.
نقلتها إلى العربيّة: يولّا يعقوب.
القدّيسان نيقولاوس واسبيريدون العجائبيّان
أتمنّى لكم جميعًا، آباءً، وأمّهاتٍ، وإخوةً، وأخواتٍ، سنينَ مديدةً.
لِتكن سِنوكُم جميعًا سِنِيّ إيمانٍ. كما تلاحظون في أبوليتيكيون (طروباريّة) القدّيس نيقولاوس2، فإنّ لقبَ هذا القدّيس الأوّل وميزاتِه الّتي تحدّدُها الكنيسةُ وتسلّطُ الضّوءَ عليها، ليست عجائبه – على الرّغم من أنّه لم يُطلَق لقبُ «عجائبيّ» على الكثيرين في تاريخ الكنيسة... لِنذكر على سبيل المثال لا الحصر بعضَ الّذين حملوا هذا اللّقبَ في الكنيسة القديمة: هناك القدّيس غريغوريوس العجائبيّ أسقف قيساريّة الجديدة، الأب الرّوحيّ للقدّيسة مكرينا (جدّة القدّيس باسيليوس الكبير)؛ والقدّيس اسبيريدون العجائبيّ؛ والقدّيس نيقولاوس العجائبيّ بالطّبع؛ وفي الكنيسة المعاصرة، أي: الكنيسة في القرن العشرين، هناك القدّيس نكتاريوس العجائبيّ، أسقف المدن الخمس.
لقد أُطلِقَ لقبُ «العجائبيّون» رسميًّا على هؤلاء الأساقفة القدّيسين. لكن، ما استرعى انتباهي هو أنّ طروباريّة القدّيس نيقولاوس تشدّدُ أوّلًا على إيمانه، لأنّه، لو لم يمتلك إيمانًا كهذا، متّصفًا بِالغَيرة، لَما أصبحَ عجائبيًّا – رُبَّما –.
في الواقع، من بين هؤلاء القدّيسين، كان القدّيسُ اسبيريدون من قبرص، وربّما كان القدّيسُ نيقولاس أيضًا من قبرص، كما سبق أن كشفَ لرئيس ديرٍ قدّيسٍ في جبل آثوس قبل بضعة عقودٍ، للأبِ أندراوس من دير القدّيس بولس الّذي سألَه: «يا أبتِ، مِن أين أنتَ؟»، فأجابَه القدّيسُ بأنّ أصلَه يتحدّرُ من قبرص.
لَكُم أن تتخيّلوا أنّ القدّيس نيقولاوس ينحدر من قبرص، فكيف لِجزيرتنا ألّا تُسمّى «جزيرة القدّيسين»؟ هنا تكمُن قوّتُنا... قوّتُنا ليست لا في الاتّحاد الأوروبيّ (EU)، ولا في منظّمة حلف شمال الأطلسيّ (النّاتو NATO )، ولا في وكالة المخابرات المركزيّة (CIA)، ولا في الاتّحاد السوڤيتي، ولا في روسيّا. قوّتُنا تكمُن في قدّيسينا...
ولكن، لكي تصبح قدّيسًا صانعًا للعجائب، إلى حدٍّ أو آخر، فإنّ أوّل ما يتوجّب عليك الحفاظُ عليه هو الإيمان الأرثوذكسيّ... لذلك، وبسبب الأعجوبة الّتي اجترحَها القدّيسُ اسبيريدون في المجمع المسكونيّ الأوّل، أصبح معروفًا بين جميع النّاس. وقد سُمِّيَت تلك الأعجوبةُ «أعجوبة القدّيس اسبيريدون العجائبيّ».
حضرَ المجمعَ المسكونيَّ الأوّلَ أيضًا القدّيسُ نيقولاس، والقدّيسُ قسطنطين الكبير، والقدّيسُ أثناسيوس، وهم قدّيسون عظماء في إيماننا، وأركانُ الكنيسة. وهناك، رأى القدّيسُ اسبيريدون أنّه، بسبب بلاغة آريوس ولَباقته (لقد كان ذلك الملعونُ لبقًا، وخطيبًا بليغًا)، هناك خطرٌ مِن أن يتأثّر به رؤساءُ الكهنة البُسطاء، وألّا يقوم المجمعُ بِتحديداتٍ أرثوذكسيّةٍ.
قد يحدث هذا الأمرُ، كما تعلمون... أن تَضِلَّ المجامعُ؛ فالمجامعُ ليست، كما يقول البعضُ، فوقَ كلّ شيءٍ... إنّ الآباء حامِلي الإله هم فوقَ كلّ شيءٍ... وعندما سأهتف بعد قليلٍ: «بِصلوات...»، ماذا سأقولُ، أيّها الأبُ يعقوب؟ بِصلوات المجامع؟ كلّا. بل «بِصلوات الآباء القدّيسين». كما ترون، إنّ العبادة تُثَبِّت العقيدةَ... «Sophon to saphes»، وهذا اقتباسٌ من مسرحيّة Orestes لِيوربيديس3 Euripides، ويعني: «الحكيمُ هو الدّقيقُ»، وهو تعبيرٌ موجَزٌ يلخِّصُ الحكمةَ.
وحينذاك، اجترحَ القدّيسُ اسبيريدون الأعجوبةَ مستخدِمًا قطعةَ القرميد الّتي، عندما تَحلّلَتْ: ارتَفَعَ لهيبُ النّارِ، وتَدفَّقَ الماءُ، وبقيَ الطّينُ المُحترقُ والرّطبُ في يده. فقالَ لهم:«ها هو الثّالوث القدّوس، إنّه وحدانيّةٌ في ثالوثٍ، وثالوثٌ في وحدانيّةٍ». بعد ذلك، كان من الواضح أنّ القدّيس نيقولاوس، الّذي حضرَ أيضًا المجمع المسكونيّ الأوّل، قد غضبَ ممّا سمعَه من آريوس، على الرّغم من كونِه، كما تقولُ الطّروباريّةُ، « قانونًا لِلإيمان، وصورَةً لِلوَداعَة». لأنّ القدّيس لم يكن سريعَ الغضبِ والانفعالِ مثلي، فقد كان «صورَةً لِلوَداعَة»... والرّوحُ القدسُ يستريحُ في الودعاء والمتواضعين.
هكذا كان القدّيسُ نيقولاوس إنسانًا وديعًا ومتواضعًا بِقلبه. ومع ذلك، فإنّ هذا الرّجُل الوديع ومتواضع القلب، عندما سمعَ آريوسَ اللّبقَ يخطبُ ويقولُ إنّ المسيح ليس إلهًا، وإنّما هو أحدُ مخلوقاتِ الله مثلنا، امتلأ غضبًا، غضبًا عادلًا...
كما اعتاد القدّيسُ باييسيوس أن يقول: «عندما يتعلّق الأمرُ بِإيماننا، وبِوطننا، وبِعفّتنا الجسديّة، يتوجّبُ علينا أن نغضبَ من أيّ شخصٍ يأتينا بِعقائدَ فاسدةٍ، أو نوايا غير أخلاقيّةٍ».
وهناك مَثَلٌ قبرصيٌّ يقول: «O pellos theli antipello»، ويعني أنّ الإنسانَ الغاضبَ يحتاجُ إلى خصمٍ (تلاعبٌ بِالكلمات العامّيّة). ويُراد من هذا الأمر إعادةُ بعضِ الّذين يسعَون إلى الانشقاقاتِ، والاضطراباتِ، والعقائدِ الفاسدةِ، والهرطقاتِ، وهذه الأمور كلّها الّتي تقودُ إلى الموت الأبديّ، إلى رُشدِهِم.
لذلك، غضبَ القدّيسُ نيقولاوس كثيرًا عندما رأى ما في قلبِ آريوس، فَلَطَمَهُ على وجهه... وقام قسطنطينُ الكبير، بِصفته الحاكم الرّومانيّ الصّالح، – وهكذا كان فعلًا – بِإيداع القدّيسِ نيقولاوس السّجنَ. قال له: «لأنّكَ خالفتَ القانون. يجب ألّا نضربَ أحدًا، حتّى الهراطقة. بما أنّكَ خالفتَ القانون، يجب أن تُزَجَّ في السّجن، هذا هو قانون الدّولة». ولكن، هناك قانونٌ أعلى من قوانين الدّولة، وهو قانونُ الإيمان.
الأممُ والدّولُ تأتي وتذهب، بينما الإيمانُ يبقى إلى الأبد... وإلى أين يقودُ إيمانُنا؟ ليس إلى مجتمعٍ نعيشُ فيه خمسينَ، أو سبعينَ، أو مئةَ سنةٍ. عندما يكون الإيمانُ الأرثوذكسيُّ أرثوذكسيًّا حقًّا، فإنّه يقودُ إلى القداسة، كما قادَ هذا الإِيمانُ الرّاعيَ اسبيريدون، ونيقولاوسَ، ابنَ ليكيّةَ في آسيا الصّغرى. إنّ إيمانَ هذين الرّجُلَين الأرثوذكسيَّ، واعترافَهما، قاداهُما إلى القداسة، أي إلى الحياة الأبديّة. لأنّ القداسة تعني أنّني عندما أموتُ، لن أموتَ، بل سأُمنَحُ «مغفرةَ الخطايا، والحياةَ الأبديّةَ». لقد آمنَ القدّيسون بِهذا الأمر من كلّ قلوبهم، ولم يخافوا. وعند الضّرورة، أظهَروا للهراطقة حدودَهم مُعيدين إيّاهم إلى مكانتهم، وقاوَموهُم. لم يتظاهروا بِالأدب والتّهذيب كما تُريد منّا أوروبّا المُضطَرِبَةُ أن نَكون.
في الإيمان، نحتاجُ إلى الرّجولة. لا نحتاجُ إلى الأدب والتّهذيب، بل إلى الرّجولة والاعتراف... لقد رأيتُم ما قام به الأبُ يوانّيس ديوتيس أمس في أثينا، وهو أكبر سنًّا من الأب بوليبيو... لقد نشرَ هذا الرَّجُلُ مجموعةَ المؤلَّفات الآبائيّة في مئةٍ وخمسين مجلّدًا، وسافرَ حول العالم لِيَبيعها. حتّى أنه جاء إلى إفريخو (المقرّ المؤقّت لأبرشيّة مورفو، حيث أنّ بلدة مورفو خاضعةٌ لِلاحتلال منذ الغزو التّركيّ عام 1974) – لَكُم أن تتخيّلوا. إنّه رَجُلٌ طاعنٌ في السّنّ، قصيرُ القامةِ. ولكن، عندما ذهبَ البابا، قبل بضعة أيّامٍ، إلى أثينا، وذلك بعد زيارته لنا (أي لِقبرص)، وقفَ هذا الكاهنُ الشّيخُ في وسط ذلك الحشد الكامل من الأشخاص «المؤدَّبين والمهذَّبين»، وصرخَ: «أنتَ هرطوقيٌّ».
ألقَتِ الشّرطةُ القبضَ عليه فورًا. لقد قامَ رجالُ الشّرطة بواجبهم، وأقصى ما كانوا سيجنونه من جرّاء ذلك هو تلّقي الرّشوة. لكنّ الأب يوانّيس قام بواجبه أيضًا. وما نالَه كان أعظم بِكثير، إذ قد مَحا له المسيحُ، فورَ اعترافِه الإيمانيّ، كلَّ خطيئةٍ يمكن أن يكون قدِ اقترفَها، وأيضًا كلَّ عيبٍ، وكلَّ هوًى لديه، إن وُجِدَ. لقد نطقَ الرّجُل بِالحقّ، ولم يُسِئ إلى أحدٍ. وما هو الحقّ؟ عندما لا نقبلُ أن يحتفل البابا أو أحدُ القساوسة بِالقدّاس الإلهيّ معنا، فهذا يعني أنّ هناك خَلَلًا في إيمانهم... إنّه إيمانٌ مختلفٌ عن إيمان القدّيس نيقولاوس، والقدّيس اسبيريدون، لأنّهم ليسوا بِـ«قوانين للإيمان»، ولا بِـ«معلِّمين للإمساك» (أيضًا من طروباريّة القدّيس نيقولاوس)... ويتوجّبُ على أحدِهم أن يقول الحقَّ. إلى متى ينبغي لنا أن نلتزم الصّمتَ؟ لِسبب الخوف مِن ماذا؟ لِسبب الخوف مِن اليهود (انظر يوحنّا 7:13، 19:38، 20:19)، لِسبب الخوف مِن رجال الشّرطة؟ في نهاية المطاف، أين سيذهب الرّوحُ القدسُ الّذي أوحى للقدّيس نيقولاس العظيم، وقد أُجبِرَ قسطنطينُ الكبيرُ على سَجنه؟ ومَنِ الّذي أطلق سراحَه من السّجن؟ انظروا إلى أعلى الإيقونة لِتروا مَنِ الّذي أطلق سراحَ القدّيس نيقولاوس مِن السّجن. ذهبَ المسيحُ والفائقةُ القداسةِ إلى السّجن ليلًا، وأعطياه ما يلي: أعطاه المسيحُ إنجيلًا، وأعطته الفائقةُ القداسة أوموفوريونًا (والأومورفيون هو جزءٌ من لباس المطران، يُلبَس على الكتفَين)، مثل الّذي أرتديه أنا.
وقد وجدَه السّجّانون في الصّباح يقرأ الإنجيل، مرتديًا الأوموفوريون. فقالوا له: «أيّها الأب نيقولاوس، مَن أعطاكَ هذه الأشياء؟ أجابَهم: «لقد زارَني الرّبُّ والسّيّدةُ والدةُ الإله، وأنعَما عليّ بهذه الأغراض». فذهبوا مُنذهِلين، وأخبروا قسطنطينَ الكبير بهذا الأمر. جثا الإمبراطورُ أمام القدّيسِ نيقولاوس، «قانون الإيمان»، وطلبَ المغفرةَ، فأصبحَ بِدوره قسطنطين الكبير. هكذا يصبح الإنسانُ قدّيسًا: إمّا بِالنّسك، أو بِالاعتراف الإيمانيّ، أو بِالاستشهاد، بِالدّم.
بشأن الاعتراف الإيمانيّ
في كلّ أمرٍ، – سواءٌ أكان استشهادًا بِالدّم، أم شهادةَ ضميرٍ، أم اعترافًا إيمانيًّا – يجب أن يكون هناك الإيمانُ الأرثوذكسيُّ. عندئذٍ فقط نستطيع أن نشترك في قداسةِ الآب، والابن، والرّوح القدس. هل انتبهتُم إلى ما سبقَ أن قُلناه، قبل اشتراكنا في المناولة المقدّسة، كما نفعلُ في كلّ قدّاسٍ إلهيٍّ؟ «أومن بإلهٍ واحدٍ...». إنّ الأسقفَ، أو في حال عدم وجود أسقفٍ، الكاهنَ، وهو في الهيكل، والشّعبَ الموجودَ خارجًا، والمرتّلين، يتلون معًا، وبصوتٍ هادئٍ، قانونَ الإيمان – «أومن...». إذا لم تتلوا قانونَ الإيمان بِشكل صحيحٍ، بِالطّريقة الأرثوذكسيّة، فلا يجوزُ لكم أن تشتركوا في المناولة المقدَّسة. هل تسمعون؟ إذا لم نَتلُ قانونَ الإيمان بِشكل صحيحٍ، وإذا أضَفْنا عقائدَ فاسدةً، لن نستطيعَ أن نتناول جسدَ المسيحِ ودمَه. بِكلماتٍ أخرى، لن تُغفَر خطايانا، لأنّنا لن نُمنَحَ مغفرةَ الخطايا، ولا الحياةَ الأبديّةَ.
وحدَها رحمةُ المسيحِ المُخلِّص العظيمةُ تستطيعُ أن تُخلّصنا. لا سلطانَ لنا على هذا الأمر. السّلطانُ هو لِأحدٍ آخَر. فهو يُخلّص مَن يَشاء. بَيد أنّنا نَعلمُ أيَّ سفينةٍ تستطيع أن تَعبُرَ بحرَهذه الحياةِ العميقَ، وتقودَنا إلى الحياة الأبديّة، إلى أرض الأحياء. هذه السّفينةُ ليست سوى الكنيسة الأرثوذكسيّة. إنّ «الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدَّسة، الرّسوليّة» هي الكنيسة الأرثوذكسيّة. لماذا؟ لأنّها تَحفظ إيمانَ القدّيسين الأرثوذكسيَّ.
وهناك أمرٌ آخر ننساه... إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي الوحيدة الّتي تقدّمُ النّظامَ العلاجيَّ الّذي به تطهّرُ قلوبَنا من الأهواء والعيوب، سواءٌ أكانت مَوروثةً أم مُكتَسَبةً، وذلك من خلال النُّسك والإيمان الأرثوذكسيَّين. فَليُبارِكِ اللهُ آباءَنا وأُمّهاتِنا القدّيسِينَ الّذين حَفَظَتْ مُؤَلَّفاتُهم هذه الخِبرَةَ في كيفيّةِ تجميعِ الذّهن (النّوس)، وتطهيرِ القلبِ. لقد سبقَ أن قُلنا هذا الأمرَ مرّاتٍ عديدةً... يُمكن تلخيصُ سائرِ هذه الأشياء بِكلمةٍ واحدةٍ: التّوبة.
يظنُّ الكاثوليكيُّ أنّ التّوبةَ تعني النّدمَ. حتّى يهوذا نَدِمَ، ولكنّه في النّهاية أقدمَ على الانتحار. إنّ التّوبةَ لَأمرٌ آخَرُ. إنّها التّغيير في توجُّه الذّهن. لا يتطلّع الذّهنُ إلى ما يقولُه الآخَرون، ولا إلى أهوائهم، لِيَحكم عليهم أو يَدينهم. ينظرُ الذّهنُ الأرثوذكسيُّ إلى نفسِه... يا لَه من أمرٍ جميلٍ أن أرى أهوائي وعيوبي!
أمسِ، اتّصلَت بي سيّدةٌ من بافوس – لا يزال أهلُ بافوس يتّمتعون بِبساطةٍ لم تُفسدْها أوروبّا، كما فعلَت مع الكثيرين منّا... قالَت لي عبر الهاتف: أيّها السّيّدُ، أشعرُ بِالخوف من الأشياء الّتي أسمعُ عنها. إنّني خائفةٌ، فالأطفال يحصلون على الحِقَن، وهناك الحروب، والنّبوءات الّتي تُحدِّثوننا عنها. ماذا أستطيعُ أن أفعل لئلّا أخافَ؟». قلتُ لها: «ماذا تفعلين؟ إنّك لا تَبدين خائفةً بالنّسبة إليّ». أجابَت قائلةً: «حسنًا، سأخبرُكم، ذهبتُ وسألتُ جدّتي، فقالَت لي: يا ابنتي، إنّ الأفكارَ الكثيرةَ تسبّبُ الخوفَ».
هل تسمعون؟ إنّ الأفكارَ الكثيرةَ تسبّبُ الخوفَ والألمَ، أي القنوطَ. فقلتُ لها: لقد أعطَتْكِ جدّتُكِ الإجابةَ. العلاجُ هو في: التّخفيف من التّفكير، والإكثار من الصّلاة. هذا كلّ ما في الأمر. هكذا يُطرَح الخوفُ خارجًا؛ «ٱلْمَحَبَّةُ ٱلْكَامِلَةُ تَطْرَحُ ٱلْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ» (1 يوحنّا 18:4). والمحبّة الكاملة تعني أن نصلّي إلى المحبوبِ، مسيحِنا.
في وقتٍ سابقٍ من هذا اليوم، ولأنّنا كنّا نرتّل بِشكلٍ جميلٍ جدًّا، شعرتُ بأنّ الكبرياء تحرّكَت في نفسي، وذلك خلال القدّاس الإلهيّ أيضًا. وفكّرتُ: يا لَجمال هذا الدّير الّذي شيّدناه! يا لَجمال ترتيلنا! يا لَجمال التّرتيب الّذي نتّبعه! وهكذا شرعتُ في مَدْحِ نفسي. تنبّهتُ إلى هذا الأمر حالًا، «المجد لله»... أظنّ أنّنا نتمتّع بِذهنٍ حاضرٍ (النّوس)، والشّكر لله، فلا نَخسَرَنَّهُ... وقلتُ: ماذا الّذي تفعلُه الآن، يا نيوفيطوس؟ أتُقدِّمُ مجدًا لِنفسك؟ فالتفتُّ فورًا إلى المائدة المقدّسة، إلى جسد المسيح الّذي تناولتُموه، وقلتُ له: يا مسيحي، أرجوكَ علِّمني أن أطلبَ مجدَك وحدَه. أنتَ مجدي. أنا لستُ بِشيءٍ. من دونكَ أنا لا شيءٌ، أنا صفرٌ.
عندما نبدأ في التّفكير بهذه الطّريقة، فإنّنا نفكّر بِطريقةٍ أرثوذكسيّةٍ. هل رأيتُم ما فعلتُ حالما أدركتُ الخطأَ في تفكيري؟ لقد تحدّثتُ إلى المسيح، وقلتُ له: يا مسيحي، لا أريدُ مجدي، بل مجدكَ؛ أريدُ مجدَكَ الأبديَّ. كم سيستمرُّ مجدِي... سبعين سنةً، ثمانين... وعليه، مَن مِن أولادِكم وأحفادِكم سيعرفُ الأسقفَ الطّويلَ القامة؟ لا أحد... حدِّثوا أبناءَكم الآن عن كريسانثوس، سَلَفِنا الرّاحل. لا أحد يعرفُ عنه شيئًا. «جيلٌ يَمْضِي وَجيلٌ يَأتي» (سفر الجامعة 4:1). لا نَسْعَيَنَّ إلى صُنعِ التّاريخ وتحقيقِ المجد. فَلْنَطلْبْ مجدَ المسيحِ، الّذي هو مجدٌ أبديٌّ.
لكنّنا قُلنا ما هي المتطلّبات الأساسيّة: الإيمان الأرثوذكسيّ والتّوبة. النّظامُ العلاجيَّ للذّهن والقلب. «والأمور الأُخرى كلُّها تُزادُ لكُم»... المال، الاهتمامات، القلق، الأوطان. «اطلُبوا أوّلًا ملكوتَ الله، والأمور الأُخرى كلُّها تُزادُ لكُم» (راجع متّى 33:6). اقرؤوا الإنجيلَ من جديد. اقرؤوا سِيَرَ القدّيسين. اقرؤوا كتابَ المزامير. وأحِبّوا ربَّنا يسوع المسيح المحبوبَ، وسوف يضبطُ أفكارَكم وقلوبَكم.
فيما بعد، هل تعلمون ماذا فكرّتُ عندما أنهيتُ مكالمتي الهاتفيّة مع السّيّدة الّتي من بافوس؟ قلتُ: يا ربُّ ارحَم. لقد ذهبنا لِنتلقّى التّعليمَ، فَعلَّمونا فلسفةَ رينيه ديكارت (1596-1650)، الفيلسوف وعالِم الرّياضيات والفيزياء الفرنسيّ، المعروف بِأفكاره الفلسفيّة المبتكرة. إنّه غربيٌّ، وقد كان له قولٌ مأثورٌ حفظناه نحن الحمقى، متأثِّرين بِتعليم أوروبّا الإلحاديّ: «Cogito ergo sum» (أنا أفكِّر، إذًا أنا موجود»). ذهبنا وقُلنا هذا للقدّيس بورفيريوس، فَرَدَّ علينا: باطلٌ يا بنيَّ، إنّه تابعٌ للبابا، والإيمانُ الهرطوقيُّ يولّدُ الفلسفةَ الهرطوقيّةَ. نحن نُصلّي بغيةَ أن نوجدَ.
هل تسمعون؟ «أنا أصلّي، إذًا أنا موجود». هناك مَن يقول: «أنا أحبُّ، إذًا أنا موجود». لكن، إذا كنتُم لا تُصلّون، ولا تصومون، ولا تُمارسون الأعمالَ النُّسكِيّةَ، ولا تشتركون في المناولة المقدَّسة، ولا تَتوبون، فهَل ستُحِبّون؟ ماذا سنقولُ الآن، الكذبَ والرّياءَ. إنّ المحبّةَ هي الذّروةُ. يبدأ كلُّ شيءٍ بِالصّلاة والصّوم.
كما يقولُ المسيحُ:«هَذَا ٱلْجِنْسُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِٱلصَّلَاةِ وَٱلصَّوْمِ» (مرقس 29:9). ليس من قَبيل الصّدفة أنّ عبارَةَ «أظهَرَتكَ لِرَعيَّتِكَ مُعَلِّمًا لِلإمساك...»، في طروباريّة القدّيسِ نيقولاوس قد تَلَتْ عِبارَتَي: «قانونًا لِلإيمان، وصورَةً لِلوَداعَة»، لأنّ القدّيسَ نيقولاوس قد علّمَ شعبَه الإمساكَ. والإمساكُ لا يعني الصّومَ فحسب، ولا يعني الامتناع عن الأكل فحسب، بل يعني أيضًا الابتعاد عن الشّهواتِ، والأفكارِ، والتّحليلاتِ المنطقيّةِ.
لا لِكثرة الأفكار. لا لِكثرة التّحليلات. لِنُكَثِّفْ من قراءةِ المزامير، والصّلواتِ. وينبغي لنا أن نتضرّعَ إلى الله، ونقولَ له: يا ربِّ يسوع المسيح، هَبْني الوداعةَ، والتّواضعَ، والبساطةَ. هذا ما كان يطلبُه القدّيسُ إفمانيوس، وقد تَقَدَّسَ. وهناك طلبةٌ أُخرى كان القدّيسُ باييسيوس يتلوها: يا ربِّ يسوع المسيح، ارحَمنا، وارحَم عالَمك كلَّه.
كما تَرَون، لا يهتمُّ القدّيسُ بِنفسه المتواضعة وبِأولاده فحسب، بَل بِالعالم كلّه. شَغِّلوا ذاكرتَكم. افتَحوا قلوبَكم. صلّوا، وصوموا. اطلبوا الوداعةَ، والتّواضعَ، والبساطةَ، وستمتلِئون من نعمةِ الله، قوى (عملِ، حضورِ) الله. إنّ النّعمةَ تعني قوّةَ الله. وبِهذه الطّريقة، سيأتي مجدُ اللهِ فيما بعد، لاحقًا. وهذا هو نورُ اللهِ الثّالوثيِّ.
كانتِ الشّيخةُ غالاكتيّا تقولُ: «إنّ ذلك النّور مليءٌ بِالمعلومات». ماذا يعني ذلك؟ أيّها الشّبابُ الحاضرون هنا، عندما تحصلون على الكثير من المعلومات من أجهزة الكمبيوتر الخاصّة بكم، تعلمون أنّ ذلك يعني أنّكم اكتَسَبْتُم الكثير من المعرفة. يا بنيَّ، إذا أرَدْتَ الكثير من المعرفة، فأنتَ بِحاجةٍ إلى الكثير من الصّلاة. وستلقى مجدَ الله، متى شاء. أمّا بِالنّسبة إلينا، فلا نريدُ إلاّ الوداعةَ، والتّواضعَ، والبساطةَ؛ وعندما تُمنَحُ لنا، سيأتي المجدُ، عندما يشاءُ الله. ليس كما فعلَ المطرانُ المُتَمَرِّد (تلاعبٌ بِالكلمات: adespotos despotis) في الهيكل. ليس هكذا، بل كما فعلَ القدّيسُ نيقولاوس. لدينا الآباءُ حامِلو الإلهِ مثالًا لنا. لهُم نسمعُ، وإيّاهُم نتبعُ.
METROPOLITAN NEOPHYTOS OF MORPHOU, Without Being Crucified We Will Not Be Resurrected We Will Not Be Glorified, p. 77-86.
1 عظةٌ ألقاها المطرانُ نيوفيطوس، متروبوليت مورفو، خلال القدّاس الإلهيّ الّذي ترأّسه، والّذي أُقيم بمناسبة عيد القدّيس نيقولاوس العجائبيّ، أسقف ميراليكيّة، في الدّير الّذي يحمل اسمَه، والكائن بالقرب من أورونتا، في أبرشيّة مورفو (6 كانون الأوّل 2021).
2 طروباريّة القدّيس نيقولاوس: لَقَد أظهَرَتكَ أفعالُ الحَقِّ لِرَعيَّتِكَ قانونًا لِلإيمان، وصورَةً لِلوَداعَة، ومُعَلِّمًا لِلإمساك، أيُّها الأبُ رَئيسُ الكَهَنة نيقولاوس، فَلذلك أحرَزتَ بِالتَّواضُعِ الرِّفعَةَ، وبِالمَسكِنَةِ الغِنى، فَتَشَفَّع إلى المَسيحِ الإلهِ أن يُخَلِّصَ نُفوسَنا. (حاشية للمترجمة)
3 يوربيديس (480 ق.م – 406 ق.م) هو كاتبُ مسرحيّاتٍ تراجيديّةٍ كلاسيكيٌّ يونانيٌّ. (حاشية للمترجمة)