حديث في ميلاد السيِّدة

حديث في ميلاد السيِّدة

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس (٢٠٠۳)

نقلها إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس

 

سمِعنا في التَّسابيح الشَّريفة المُرتَّلة اليوم أنّ ميلادَ السيِّدة هو أمرٌ مُفرِح للعالَمِ بأَسرِه. طبعًا، لا يُفهَم هذا الأمرُ وَفق معايير مَن يعيشون في بُعْد عن الله. أمَّا بالنِّسبة لنا وبنعمة الله نحن مَن نؤمن بالثَّالوث القدّوس وبكلمة الله المُتجسِّد، فهو أمرٌ بديهيّ. فِعلاً، يجب أن يُعتَبر ميلاد السيِّدة العذراء علَّة الفرح للمسكونة جملةً وقبل الكُل فرح للكنيسة.

مِن رحمٍ عقيم! من امرأةٍ عاقر مُعمِّرة ها قد وُلِدَت السيِّدة والدة الإله. إنَّها لعجيبة! لا يُمكن في هذا السِّن أن تلِدَ امرأة عاقر طِفلاً. حلَّ التدبير الإلهيّ عُقمَ القدِّيسة حنَّة أو الأحرى حَلَّ عُقمَ الطَّبيعةِ البشريَّة. لأنَّها مِن بعد انفصالِها عن الله أصبحَت عاقرًا روحيًّا. كان البَشَر يلِدونَ البنين، لكن لم يكن باستطاعتهم أن يلِدوا اللهَ في داخِلهم؛ لهذا كانت الطَّبيعة البشريَّة عاقرًا ولزِم أن ينحلَّ عُقمُها. وأخيرًا لزِم أن يوجَد شخصٌ ما، امرأةٌ يُمكنها أن تَلِدَ الإله. وهكذا سينحَلُّ عُقر الطَّبيعة البشريَّة، وستقدر أن تُصبح طبيعتُنا والدةً للإله؛ وهذا تحقَّق في سيِّدتنا والدة الإله مريم، والَّتي وُلِدَت مِن أمٍ عاقر، لا لتحلَّ عُقم أُمِّها وحَسب، بل وعقمَ الطَّبيعة البشريَّة. فعلاً هي عجيبةٌ كُبرى، كيف أنَّ الطَّبيعة البشريَّة وَلدت خلال السيِّدة العذراء اللهَ. هذا هو الأمرُ الوحيد الجديد تحت الشَّمس! ما من سرٍّ آخر في الكون فريد كهذا ولا يتكرَّر. هو عجبُ العجائب، الأمر الحاصل مع والدة الإله، ولادة الله من سيِّدتنا العذراء.

كما تُرتِّل الكنيسة: كَيف صارَ حشا القدِّيسة والدة الإله مَعمَلاً لاتِّحاد الطَّبيعتَين السِّريّ، اتّحدت الطَّبيعة الإلهيَّة مع البشريَّة معًا، في حشا البتول القدِّيسة والدة الإله، وهكذا فتاةُ النَّاصرة [مريَم] الوضيعة البَسيطة، ولَدَت الإله.

ما كانَت حالُنا لو لم يُولَد الله؟ ماذا نكون لولا سيِّدتنا؟ إذ جمعت القُدرة والقَداسة والنِّعمة فيها. وحدها بين كلِّ أجيال البَشَر استطاعت أن تُحضِر الله إلى العالَم. الآنَ، ما دام قد انحلَّ عُقر الطَّبيعة البشريَّة بوالدة الإله، فبإمكان كُلِّ إنسانٍ، مؤمنٍ بالمسيح، ألاّ يَكون عقيمًا روحيًّا فيما بعد، بل أن يصيرَ بوساطة المسيح مُنتِجًا وأن يَلِدَ الله فيهِ، وأن يصير [والدًا للمسيح] مقتبلاً المسيح بداخله وهو متَّحدٌّ به، هذا هو هدف كلّ إنسان.

فتَحت والدةُ الإله الطَّريق لنا، كيّ نصيرَ مُثمرين بالمسيح، سواء كان لَدينا أولادًا بالجسد أم لا، سواء كُنّا رهبانًا أم علمانيّين والأصحّ القَول [مسيحيّين ساكنين في العالَم]، لأنَّ المسيحيّ هو إنسان الله أو المؤمن، بينما "عِلمانيّ" هو مَن بِه رُوح العَالَم. إذًا الأَصَح التَّسمِية: مسيحيّون في العالَم، عائشون في المسيح لا علمانيّون. لأنَّهم هم أيضًا حامِلو المسيح فيهم.

إذًا، هنا نرى مسؤوليَّة على عاتقنا جميعًا: كيف يُمكننا في كلّ لحظة في حياتنا أن نلِدَ المسيح بداخلنا؟ ستساعدنا في هذا سيِّدتنا العذراء، فهي أوَّل مَن وَلَد المسيح، وسُتعيننا أن نلده فينا نحن أيضًا، لنصير "حاملي المسيح" أو "لابسي المسيح" -أي متألِّهين-. إن لم نفعل هذا نكون عُقماء ونُشبه القدِّيسة حنّة ما قبل ولادتها السيِّدة. كم كانت حزينة لأن لا ابن لها، ومثلها كان القدِّيس يواكيم، إذ تألَّم جدًّا بسبب عقمهما، ولم يقدرا أن يُنجبا. كلُّ زوجٍ يهوديٍّ مؤمن، كان يحزن جدًّا إن لم يُنجب طفلا، لأنَّ الجميع كان يترقَّب المسيح، علَّهُ يُولَد مِن صُلبِه، عَلَّه يأتي مِن بنيه. لكن لم يعرف يواكيم وحنَّة أنَّ نسلَهُما سيكون قريبًا جدًّا للمسيّا، لا بل هو المسيَّا المُنتَظَر، الله بذاته.

تفتحُ والدةُ الإله الطريق لنا جميعًا وتساعدنا بصلواتها ودالّتها لدى الله، في كُلِّ مرَّة نبتهِلُ إليها بإيمانٍ وورعٍ، لنستأهِل أن نَلِدَ المَسيح فينا. حقَّق هذا جميعُ قدِّيسو إيماننا، أوَّلهم الرُّسُل القدِّيسون، إذ كانوا مُثمرين روحيًّا وولدوا المسيح فيهم وفي نفوس الآخرين. يكفي أن نتذكَّر كم كرَّر رسولُ الأمَمِ بولس العظيم، مُبشِّرًا اليونانيين والعالَم بأسره، مُتحدِّثًا عن سُكنى المسيح فيه، وكيف كان المسيح حيًّا فيه: "معَ المَسيحِ صُلبتُ، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية ٢: ٢٠) وهكذا يشعر كُلّ مؤمن ومجاهد أنَّ المسيح يحيا فيه، وأنَّه يعيش لا حياته البشريَّة فيما بعد، بل حياةَ الله المتأنِّس، أي حياة المسيح، في قلبه.

نتوسَّل إلى سيِّدتنا العذراء أن تُنيرنا جميعًا، لنحلَّ يوميًّا عُقمنا الروحيّ، وأن نصبح مُثمرين بالمسيح. خاصَّة هنا في الجبل المقدَّس، بستان العذراء، نشعر دائمًا بفرحٍ شديدٍ حينَ نُقيم ذكرى أعيادها المُقدَّسة؛ لأنَّنا نعرفُ أنَّها أُمُّ كُلّ المسيحيين، أُمُّ الكنيسة وأُمّنا نحن الآباء الآثوسيين الوضعاء وغير المستحقّين، الَّذين بحمايتها نحيا وبدعوة خاصَّة منها وببركتها واستنارتها، هنا في الجبل المقدّس آثوس، وموجودون بفضلها. لولا السيِّدة العذراء لما كان آثوس ولا نحن الرُّهبان ههنا. فنشكرها إذًا، دومًا، ونتوسَّل إليها بما أنَّها أحضرتنا إلى بستانها، أن تُعيننا على إرضائها وألاّ نحزِنَها ولا حتَّى في خطايا طفيفة إن أمكن، وأن نكون مشمولين بعطفها الأُموميّ وراحتها ونعمتها وبركتها.

دعائي أن تكون استنارة الرُّوح القُدس غنيةً على الجميع، بوساطة وشفاعات والدة الإله وحمايتها. آمين