حول العنصرة المقدَّسة

حول العنصرة المقدَّسة

الأرشمندريت جاورجيوس كبسانيس - 1983

نقله إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس

 

تشكِّل فعلاً هذه السهرانيّة المباركة، وقمّتها القدَّاس الإلهيّ، استمراريَّة لسرِّ العنصرة. لهذا السَّبب، نشعرُ في الكنيسة جميعًا -خاصَّة ليلة أمس- بفرحٍ وبنكهة حياةٍ أخرى. لدينا شعور أنّ المسيح ما بيننا، وهذا يفعِمُنا سلامًا وفرحًا وسرورًا روحيًّا. شعَرنا بذلك اللَّيلة، لذا نشكُرُ الرَّبّ الَّذي أَودعنا كنيستَهُ المقدَّسة، لتكونَ عنصرةً دائمةً في العالم. هكذا، لا نكُن دونَ العزاء والأمان وسلام النَّفس، بل مفعمين بالفرح وسلام الرَّبّ المصلوب والقائم والصاعد والمُرسِل للرُّوح القُدُس.

يعلّمنا آباءُ كنيستنا القدِّيسون أنّ غاية الحياة المسيحيّة هي اقتناء نعمة الرُّوح القُدس (انظر أقوال القدِّيس سيرافيم ساروف). حين انفصلَ أوَّلا الجِبلة عن الله وأذنَبا، أمسيا غير قادرين على نَيل نِعمة الرُّوح القُدُس. هكذا، افتقرا نعمة الرُّوح القدس وصارا فارغين وخاليَين. هكذا، لم يتحقَّق الهدف من وراء جبلِ الله الكُلِّيّ الصلاح للإنسان. أمَّا الله الكُلِّيُّ الصلاح فلم يشَأ الإنسان خاويًا مُقفرًا وخلوًا من النِّعمة، بل أراده مُمتلئًا من نعمة الرُّوح القُدُس، شاءه "حاملاً للرُّوح". وحتَّى يتمكّن الإنسان من أن يصير مجدَّدًا هيكلاً للرُّوح القُدس وإناءً له وأن يمتلئ من نعمة الرُّوح القُدس وأن يصير، بالتَّالي، إلهًا بالنِّعمة، رتَّب الله الكليُّ الصَّلاح التَّدبيرَ والعملَ الخلاصيَّ بجملته من أجلنا. لأجل هذا، تجسَّد الرَّبُّ، ولهذا علَّم، ولهذا تجلَّى، ولهذا صُلِبَ وقامَ وصَعد كيّ يُرسل الرُّوح القدس إلى رُسله، وبوساطتهم إلى من يؤمنوا في العصورِ كافَّة؛ فيمتلئ الإنسان من ثمَّ من نعمة الرُّوح القُدُس ويصبح شريكًا ومساهمًا لهذه النِّعمة غير المخلوقة.

لأجل هذا، تغتبطُ الكنيسة مسرورةً في عيد العنصرة، لذا نرتِّل: [قد نظرنا النُّورَ الحقيقي وأخذنا الرُّوح السَّماويّ]. إنَّ ما قد تُقنا إليهِ باشتياقٍ شديد وما افتقدناه، ها قد نلناهُ الآن، الرُّوح السَّماويّ والكُلِّي القداسة. [ووجَدنا الإيمانَ الحقّ، فلنسجُد للثَّالوث غير المنفصل].

لكن، كيف يقدر المسيحيّ أن يقتني نعمة الرُّوح القدُس؟ دعونا ننتبه إلى ما فعل تلاميذُ الرَّبّ، الرُّسل القدِّيسون كي ينالوا نعمة الرُّوح القدس. لأنَّ ما صنعه الرُّسل القدِّيسون إنَّما كان رمزيًّا من أجلنا نحن.

أوَّلا، لم يترك الرُّسل القدِّيسون أورشليمَ بعد صَلبِ الرَّبِّ وقيامته وصعوده، بل أطاعوا أمره بالبقاء في أورشليم. إذًا، مكثوا فيها، وكانوا أيضًا [ يُواظِبونَ في الهيكل] (أعمال 2: 46) لازموا هيكل سُليمان، وإذ لم تكن بعدُ نعمة الرُّوح القُدس قد انسكبت بسخاءٍ، في النَّهار الخمسين، كان هو ظِلّ كنيسة الله وصورتها ورمزها. إذًا، واظب الرُّسل القدِّيسون -وإن لم يكن لديهم كنيسة بعد- في المكان الَّذي كان يرمز للكنيسة. البقاء في الكنيسة، هو أوَّل ما فعل الرُّسل، لم يغادروها. لم يتبع كلُّ واحدٍ منهم دربَه الخاصّ، أنانيَّته، وجهة نظره الدِّينيَّة، أو مخطَّطاته الشخصيَّة. بل نسوا هذه كلّها، تنازلوا عنها بجملتها كي يبقوا في الكنيسة، حيث ترقَّبوا اللحظة الَّتي سينالون فيها هبة الرُّوح القدُس.

ماذا كانوا يفعلون وهم ينتظرون في الكنيسة؟ هل مكثوا بطَّالين؟ لا، لم يكونوا بطَّالين، بل كانوا يُصلُّون. الصَّلاة هي العامل الَّذي يساعد المرء على اقتناء نعمة الرُّوح القدس. يعلّق القدِّيس نيقوذيموس الآثوسي على هذا، في شرحه لقانون عيد العنصرة، قائلاً: " كانوا كلّ يومٍ في الهيكل مسبّحين ومباركين لله". وفي أي هيكلٍ كان الرُّسل الإلهيّون؟ بالطَّبع في هيكل سليمان، لكن أيضًا هيكل قلوبهم. إذًا، حين كانوا يختبئون، كانوا يدخلون إلى هيكل القلب بالذِّهن. هناك، استطاعَ الرُّسل القدِّيسونَ أن يصلُّوا قلبيًّا وأن يترقَّبوا وعد الرُّوح القدس ونعمته.

إذًا، أوَّلاً البقاء في الكنيسة، وثانيًا، البقاء في قلبهم ومن ثَمَّ، استدعاء نعمة الله.

أيضًا فعل الرُّسل القدِّيسون أمرًا ثالثًا يشرحه لنا القدِّيس نيقوذيموس الآثوسيّ. يقول إنّهم صعدوا إلى العُلِّيَّة وانتظروا (أعمال 1: 13). أي لم يبقوا تحتُ، في السفليَّات، بل صعدوا إلى عليّة البيت الَّذي استضافهم في أورشليم. في ذلك إشارة إلى أمر ما؛ ماذا؟ ما دام المرء يلازم الأمور الدُّنيا والأهواء، لا يمكنه أن يحوز نعمة الرُّوح القدس. بل يجب أن يرتفع الإنسان أعلى من أهواءه وفوق غروره وفوق الشُّرور وفوق الكراهية، أسمى من اليأس ومن الشَّراهة، كي يقدر أن يكتسب نعمة الرُّوح القُدس، مع حياة الانضباط والصَّوم والصَّلاة والنُّسك.

فعلَ الرُّسل القدِّيسون هذه الأفعال الثَّلاث، فنالوا نعمة الرُّوح القدس، أكرِّرها: مكثوا في الكنيسة، باقين في قلوبهم بالصَّلاة العقليّة والقلبيّة، وتساموا فوق الأهواء بسيرة اللاهوى وبحياة النُّسك والفضائل، هكذا صاروا مستحقّين لنعمة الرُّوح القدس. فإنّهم، إن لم يفعلوا هذه كلّها، لما كانوا مستحقِّين لموهبة ونعمة الرُّوح القدس.

قام الرُّسل القدّيسون بهذا حبًّا بالله، لا من أجل أجرٍ ماليّ بل حبًّا بالله. لذلك، لمّا شاهد الله الكليّ الصَّلاح، الثّالوث القدّوس، استعدادَ الرُّسلِ القدِّيسين محبّتهم ورجاءهم الحارّ والأمل، حينئذٍ، منحهم بسخاء نعمة الرُّوح القدس، في النَّهار الخمسين المُقدَّس -في مثل هذا اليوم- بهيئة ألسنةٍ ناريَّة. وجاء الرُّوح القدُس واستقرَّ على كلِّ واحدٍ من الرُّسل (أعمال 2: 3)، أي أُعطيَت نِعمة الرُّوح القُدس والمَوهبة بشكلٍ شخصيّ.

يا اخوتي، إنّنا مسيحيّون نحن أيضًا ولا نشاء أن نكون خاوين وفارعين ومجرّد أجساد – مثلما يذكر العهد القديم أنَّ الله قال للبشر قُبيل الطوفان: لا يبقَ روحي فيكُم لأنكَّم أجساد" (تكوين 6: 3) يعني أنهم أصبحوا بشرًا جسديّين منصرفين لأهواء كثيرة. فنحنُ نودّ أن نصير أشخاصًا روحيّين، نريد أن نحظى على نعمة الله وأن نقتني الرُّوح القدُس فينا، وأن يسكن المسيح بداخلنا. لهذا، فلنقُم بتلك الأمور الثَّلاثة مثل الرُّسل القدِّيسين لكي ننال نعمة الرّوح القدس، وفي ذلك الطَّريق الآمنة والأكيدة والمُختبَرة.

دعائي هو أنَّ نشعر اليوم بكلّ هذه الأحداث الكُبرى الَّتي عشناها في العيد، والَّتي إن تفطَّن لها المرء بحذر، ينذهل منها الذهن، فيندهش المرء إن فَكَّر: أيُّ أسرارٍ عظيمةٍ جرت في كنيسة الله! أيّة هبات تُمنح لنا! وأيّة نعمة ينال المسيحيّون! دعائي هو أن ينزع الرَّبّ منّا "عدم الإحساس" الرّوحيّ، الحالة الَّتي تُهيمِن علينا ولا تدعنا نعيش هذه الأسرار العظيمة ولا إحسانات الله؛ فنشعُر اليوم بهبة الله ومحبَّته ورحمته فنصير شعبًا حاملاً للروح، مسيحيين حاملي الرُّوح وممتلئين من الرُّوح القدس. دعائي أن نصير أشخاصًا عوضًا عن جسدانيّين روحيّين، حيث تغيّرُ كُلّ الأمور الجسديّة والماديّة طبيعتها "فـتتجلَّى" وتتجمَّل بنعمة الرُّوح القدس. هكذا، نصير مُستحقّين للموهبة الإلهيّة، الَّتي تنبَّأ عنها القدِّيس النَّبيّ يوئيل مئات السِّنين قبل حدث العنصرة -المعيَّد له اليوم. ستتحقّق فينا النبوءة ووعد الله للشَّعب عبر النّبي يوئيل: في تلكَ الأيَّام سأسكبُ من روحي بسخاء على كلِّ ذي جسدٍ (أنظر يوئيل 3: 1-2)، يقصد على كلّ مسيحيٍّ. لن يكون المسيحيّون فيما بعدُ بشرًا بدون روح الله، بل مُمتلِئين من الرُّوح القدس. سيكونون أنبياء ويتنبّؤون. سيشاهدون رؤى وأسرارًا روحيَّة، ويصيرون ورثة ملكوت السَّماوات ومُساهميه.

لأجل هذا عينه، قد دُعينا يا اخوتي. لهذا، ليست الحياة المسيحية أمرًا عشوائيًّا عابرًا يمكنك تجاهُله، بل أمر عظيم، إن أحسسنا به لَتغيَّرت حياتنا بالكامل، ولأصبحت حياةً ممتلئة نعمة وفردوسًا على الأرض.

نرحّب بكم، جميع من أتيتم للتّعييد معنا، وأتمنّى للجميع أن تكون إقامتكم القصيرة في الجبل المُقدَّس نبعَ تعزيز روحيّ غنيًّا وتقوية مِن الرُّوح الكليّ قدسُه.