عيد نصف الخمسين
الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس
نقله إلى العربيّة: فريق القديس غريغوريوس بالاماس
٢٠٠٧
احتَفلنا اليَوم بعيد نصف الخمسين المُقدَّس الواقع بين عيدين كبيرين، هُما الفصح والعنصرة المُقدَّسَان. يمثُل هذا العيد في الوسط جاذبًا إليهِ نعمة القيامة والعنصرة معًا. كان لليهود، كما تعلمون ثلاثة أعياد كبيرة. فهم عيِّدوا الفصح، وفيه تعييد للعُبور مِن عُبوديَّة مِصر عبر البحر الأحمر، إلى أرض الميعاد. وكلمة الفصح معناها العبور، أمَّا نحن فنُعيِّد الفصح ليس بوصفه العبور من مصر إلى الحريّة، بل من عبوديّة الخطيئة والشيطان والموت إلى حريَّة أبناء الله، الَّتي قادنا إليها الرَّبّ يسوع المسيح، فصحنا الحقيقيّ. عيدٌ آخر هو عيد الخمسين، وفيه كرَّسوا أوائل غلاّتهم لله مِن ثمارِ الأرض. والعيد الثَّالث هو عيد اليوم، عيد المِظالّ، وفيه صنعوا تذكارًا لإقامتهم في البريَّة مدَّة أربعين سنة، لذا كانوا ينصبون المظالّ أي الخِيَم ويُعيِّدون أيضًا لاستلام موسى الشَّريعة من الله. صعِد الرَّبُّ، في مثل هذا العيد حسب الإنجيليّ يوحنَّا، إلى هيكل سليمان، وذلك بعد عجيبة شفاء المخلَّع – الَّذي سمعنا إنجيله الأحد الماضي. وبذلك، لأنّ الربّ قد شفاه في سبت، قد غضب الفرّيسيِّون، الَّذين عبدوا الشَّكليَّات ولم يهتمُّوا للجوهر، بل للظاهر، وغضبوا على الرَّبّ وأرادوا إلقاء القبض عليه كي يُهلكوه. بدايةً، لم يذهب الرَّبّ علانية إلى الهيكل، لأنَّ ساعته لم تكن قد جاءت بعد لِيُسَلَّم لموت الشهادة، أي ليُصلب، لكنَّه صعِد لاحقًا. الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنَّا جميل جدًّا، أنصحكم بقراءته. ترون فيه كيف لم يؤمن حتَّى هؤلاء المدعوون "بإخوة الربّ"، أي أبناء يوسف من زوجته الأولى بالطّبع (لأنَّه لم يمس السيِّدة العذراء الدَّائمة البتوليّة قطّ)؛ أمَّا لاحقًا فمَن آمَن منهم نُسمِّيهم إخوة الإله. البعض لم يؤمنوا فعلاً بالرَّبّ وقالوا له: "ما دُمتَ تودّ عمل الآيات لِمَ لا تُظهِر نفسَكَ وتتكلَّم أمامَ النَّاس في الهيكل بمناسبة العيد؟" قال لهم الرَّبّ: "لم تأتِ ساعتي بعد، اذهبوا أنتم، لا عائق أمامكم." لكن، لاحقًا، صعِد الرَّبّ إلى الهيكل. استمرّ العيد لأسبوع، ذهب الرَّبّ في النهاية وعلَّم. وأرسل الفرّيسييون والكتَبة خُدَّمًا للقبض عليه. فذهبوا، لكن يبدو أنَّهم كانوا ورعين، حين سمعوا الرَّبّ يعلّم؛ حينئذٍ، لم ينصرفوا عن القبض عليه فحسب، بل بالأحرى سُحِروا به. حين عادوا سألهم الكتبة: "لماذا لم تقبضوا عليه؟ أين هو؟" فقالوا: "لم يتكلَّم إنسانٌ قطّ بمثل هذا الكلام الرائع." فقالوا: "ألعلَّكم ضللتم أنتم أيضًا؟" ختامًا، في اليوم السَّابع والأخير مِن العيد، نادى الربّ: "أنا هو الماء الحيّ، من عَطِش فليأتِ إليَّ ويشرب. أنا الماء الحيّ الأصيل السلسبيل والقادر أن يخمد عطش نفس الإنسان. كلّ عطشان فليأت ليخمد عطشه" ثمَّ تابع وعظه وتعليمه.
إذًا، نعيّد اليوم لهذا الحدث. فعلاً، الرَّبّ يسوع المسيح وحده هو القادر أن يروي الشوق الخلاصيّ لدى كل إنسان. لدينا في حياتنا توقٌ لأمور عديدة، ومن الممكن إشباعه، أمّا التوق إلى الخلاص والفداء وإلى الحياة الأبدية، فلا يُحقّق أبدًا بشيءٍ مادّي ولا بشريّ ولا بأيّة فلسفة ولا بأيّ نظام، إلاّ بوساطَة الإله-الإنسان الرَّبّ غالب الموت والخطيئة والشيطان. فالإلهُ هو يهبنا الروح القدس. والماء العذب يعني نعمة روحه القدّوس الَّتي ننالها بربّنا يسوع المسيح.
نطلب جميعنا هذه النعمة، نعمة الروح القدس ولهذا أصبحنا مسيحيّين، تعمّدنا ونتناول جسد الربّ ودمه، لنقدر أن نحظى على النعمة الإلهيّة، كي لا نكون مقطوعين ومنفصلين عن الله بل متَّحدين به بوساطة ربّنا يسوع المسيح.
لكن كيف نحقّق هذا؟ كيف تُصبح شركتنا إن أمكن مستمرَّة مع المسيح، لا تقتصر على أن نذكره مرَّة واحدة في الأسبوع؟ بل تستمرّ في كلّ يوم، وكل ساعات اليوم إن أمكن؟ وكيف لنا أن نحقِّقَ اتحادًا مع المسيح وتواصلاً معه؟ كيف؟ يقول لنا الآباء القدِّيسون إنّ إخوتنا في العالم يقدرون أن يتّحدوا بالمسيح، إن حفظوا وصاياه ويقولون شيئًا جميلاً أيضًا "في كل وصيّة من وصاياه يختبئ المسيح"، فإن حفظنا وصيَّة المسيح سنتَّحد مع المسيح المختبئ فيها. هذا ما يقوله أيضًا القدِّيس يوحنَّا الإنجيليّ. إنَّها طريقة حلوة، بها يقدر المسيحيّ في العالم، ذو الأسرة الوظيفة وجهاد الحياة، أن يتَّحد بالمسيح؛ فما ما عليه إلاّ الحذر من أن يُخالف وصايا المسيح المقدَّسة: وصيَّة المحبَّة، الصبر، الطهارة، الطاعة، الصلاة، عدم الحقد... كلّ الوصايا المقدَّسة الَّتي سلَّمنا إيَّاها الرَّبّ في الإنجيل المُقدَّس. عندئذٍ، يقدر المسيحيُّ في العالم أن يتقدَّس ويحقِّق التألّه. لا يمكنكم، أنتم العائشين في العالم، أن تفعلوا ما يفعله الرُّهبان والنسَّاك من سهرانيات يوميَّة وجميع الأصوام المتَّبعة في الأديرة، وجهاد الرَّاهب إجمالاً، كونكم أصحاب وظائف وأرباب أسر. صعبٌ إتمام كل هذه، لكن يمكن تحقيق القليل منها. الرُّهبان مكرّسون لله بالكامل وليست لديهم أعباء أسريَّة ولا مهنيَّة مثلكم، لهذا، لا يُمكنكم فعل كلَّ ما يعملون. هاكم طريقة سهلة وجميلة كي تحقّقوا الاتحاد بالمسيح والتألّه؛ إن كان لديكم يوميًا القلق والجهاد الروحيّ والحرص على تطبيق وصايا المسيح: صباحًا، حين تستيقظون ستقولون: "أهلني يا ربّ اليوم ألاّ أخالف وصاياك المقدَّسة، وألاّ أحزنك بأمر، لا أريد أن أُحزنك فأنت تحبُّني وأعطيتني حياتك، أعطيتها لي وللعالم أجمع، فلا أريد أن أُحزنك. لكن إن حدث أمر وأحزنتُك به فساعدني في أن أدرك ذلك وأتوب وأطلب المسامحة وأتابع الجهاد." لتكن هذه مُحاولتنا طيلة النَّهار، لأنَّ الشيطان عازمٌ على أن يلوِّثنا بأفكار قبيحة أو شريرة أو قذرة أو بالحقد أو بحفظ الإساءة أو بالغيرة أو بالكراهية، فعلينا الانتباه. لنقُل: "احفظني يا ربّ كَيلا أحزنك! أريد ألاّ أحزنك!"
عرفت راهبًا قدِّيسا، جاهد جهادًا عظيمًا. قال لي مرَّة: "أيُّها الشيخ، أصبُّ جلّ انتباهي على ألاّ أُحزِنَ المسيح، فلا أريد ذلك لأني أعرف أن النَّاس يحزنونه، أمّا أنا فلا أريد أن أحزنه، بل أحاول كلّ يوم ألاّ أُحزن المسيح" ليس هذا وحسب، بل وأن نرضيه أيضًا. لأنهّ فعلاً أمر جيِّد ألاّ نُحزن الرَّبّ، لكن فلنعمل أمرًا يرضيه ويفرحه، أن نعرف أنّ ما نعمله هو مُرضٍ للمسيح. وليلاً، قبل أن نخلد للنوم، لنفحص مجدَّدًا ضميرنا ولنقل: لعلّي اليوم أحزنت المسيح دون أن أدرك؟ سامحني يا مسيحي! نحزن المسيح مرارًا حين نُحزن إخوتنا، حتَّى لو لم نُذنب نحن، بل يلزم الحذر حتَّى لو لم نذنب، ليكن لدينا محبّة، وعدم حفظ إساءة للغير، الصبر والمسامحة وأن نريح القريب. تقال العبارة الآتية في الجبل المقدّس: "إن أرحت أخاك فقد أرحت الرَّبّ إلهك". بهذه الطريقة نُريح الله، بعمل ما يريح قريبنا، أي المقيم معنا في البيت الواحد، الزوج لزوجته والعكس، والأهل لأبنائهم... إلخ. وسنكون سعداء إن تمكَّنا من أن نريح أوَّلاً أهل بيتنا ثمَّ الأقرباء فالجيران بالتدريج إلى أن نصل إلى نريح باقي الناس، وهم إخوتنا بالمسيح.
لكن محاولة تطبيق وصايا المسيح يجب ألاّ تتم بهدف "حُسن الأخلاق". هذا ما فعله الفريسييّون: أرادوا تطبيق ناموس الله ليبرّروا ذواتهم بأنفسهم وكي يقولوا: "إننا لا نخلص بنعمة الله بل بأعمالنا الخاصّة!" نحن نطبّق الوصايا لا لِنَقول: إنّنا صالحون، قد طبّقنا وصايا الله! لأنّ ربنا في إنجيله المقدّس يقول: "إذا فعلتُم جميع ما أُمرتُم به فقولوا: إنّنا عبيدٌ بطّالون، إنَّما فعلنا ما كان يجب عيلنا فعله"(لوقا 17: 10) ما هي فضيلتنا أمام قداسة الله القدُّوس؟ بل حبًّا بالمسيح فلنطبِّقَنَّ وصاياه؛ عندئذٍ، يكون لهذا قيمة عظيمة؛ فإنَّهُ بتطبيق الوصايا نعبِّر عن مقدار حبِّنا له.
الأب ذاماسكينوس الدَّائم الذكر، إنسان قدِّيس، كان الأب الروحي لدير السابق المجيد "مكرينوس" قال للرَّاهبات هذه النصيحة الحكيمة جدًّا: "فليكن من أجل المسيح أيُّ جهاد تقمنَ به." وأنتم: أتنهضون ليلاً للصلاة؟ النهوض صعب، يلزم جهادًا، افعلوا هذا حبًّا بالمسيح. أتقفون لساعات في الكنيسة وتتعبون؟ اعملوه لحبّ المسيح. أتصومون؟ ليكن لأجل حبّ المسيح. أيُّ فضيلة يعملها الإنسان فلتكن لمحبَّة المسيح. عندئذٍ، بتطبيق الوصايا يمتلئ الإنسان من محبَّته للمسيح ويصبح إنسانًا حاملاً للإله. يكرِّر ذلك، في عدّة آيات، الإنجيليّ يوحنَّا اللاهوتيّ: "إن كنتم تحبُّونني فاحفظوا وصاياي" (يوحنَّا ١٤: ١٥) "الَّذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الَّذي يحبّني...( يوحنَّا ١٤: ٢١) وأنا آتي إليه وأقيم فيه مع الآب والروح القدس. سيحلّ الثالوث القدّوس بأكمله في هذا الإنسان الَّذي يحفظ وصايا المسيح.
سأقول لكم قصّة الآن؛ مرَّة فيما كنت أتمشَّى في غابة ديرنا "غريغوريو" على الجبل عاليًا، استوقفني عامل حطّاب. قال لي: "أيُّها الشيخ سأقصُّ عليك ما حدث معي، هي عجيبة صنعها القدِّيسون الأربعون شهيدًا. كانت ساقي تؤلمني ألمًا شديدًا. راجعت أفضل الأطباء ولم ينفعوني بشيء. بعد ذلك، في عيد القدِّيسين الأربعين شهيدًا، عيَّدت كنيسة قريتنا، فذهبت إلى القدّاس الإلهيّ. صادفني حشدٌ كبير، الجميع واقفون. صارت ساقي تؤلمني كثيرًا. فكَّرت بالخروج قليلاً من الكنيسة لأريحها، لكنّي قلت لنفسي: إن خرجتَ من الكنيسة فستشبه يهوذا الَّذي ترك العشاء السريَّ ورحل، لا بل امكث هنا ولتتألَّم. بعد قليل، اشتدَّ الألم وفكَّرت أن أجلس على كرسي كي أرتاح، لكنّي نظرت إلى إيقونة القدِّيسين الشهداء الأربعين متجمّدين من البرد في البحيرة (ماتوا من شدّة البرد في البحيرة المتجمّدة في سبسطية الموجودة في قيصرية)، فقلتُ لنفسي: " أترى؟ هؤلاء تجَمَّدوا لأجل محبَّة المسيح وأنت لا تستطيع أن تتحمَّل قليلاً؟ لا بل ابقَ هنا في مكانك واقفًا حتَّى ولو مُتَّ". حالما قُلتُ هذا، ما هذه العجيبة الَّتي صنعها معي القدِّيسون الأربعون! أتاني تيَّار مثل الكهرباء وعَبر فيَّ من الرأس حتَّى القدمين، مارًّا بساقي الَّتي آلمتني بالسَّابق، فزال الألم ولم أعد أشكو منها بعد ذلك. شفيت تمامًا."
أترون متى تفعَّلت النِّعمة؟ حين تخطّى الشابّ الغرور وحبَّ الذات، وبرهن حبَّه الكامل للمسيح، مضحِّيًا لأجل محبَّته.
أعرف حالات مُشابهة أخرى، من اعترافات مؤمنين صالحين، بأنَّه فعلوا شيئًا فيه إخلاء للذات من الغرور؛ فهم قد شعروا الله بكامله دَخَلَ فيهم، لا جزئيًا بل كلّه. لكن، كي يأتي الله بكامله فينا، يجب أن نتنقَّى تمامًا من حُبِّ الذَّات. ما دام فينا غرور وأنانيّة ومحبَّة الذَّات المريضة، فلا يقدر الله أن يدخلنا. أو هو قد يدخل بقدر ما نسمح له بالدخول فقط، ولا يدخل أكثر لأنَّه يحترم حريَّتنا. إن أفرغنا من نفوسنا القليل من الغرور، فإنّ الله سيأتي قليلاً فقط فينا، وإن أفرغنا أكثر يأتي الله أكثر، وإن أفرغنا الغرور بجملته، فيدخل الله بأكمله. ما أقوله لكم الآن ليس مبالغة، بل هو أمر رأيته في أشخاص مجاهدين، جاء الله فعلاً بأكمله وسكن فيهم، لأنَّهم معدمون تمامًا من أدنى شائبة غرور وأنانية.
بين هؤلاء الَّذين جاءهم الله بكامله كانت أنسطاسيا الرومية، الَّتي نكرِّمها ونقدِّرها ونحبُّها بمنزلة عروسٍ للمسيح وأختنا الكبرى، لأنَّه لدينا، نحن الأرثوذكس، بركة في كنيستنا أن نتعايش ونعاشر القدِّيسين وبأن يكونوا حاضرين. هم ليسوا في عالمهم، ونحن هنا في عالمنا، بل كلُّنا في عالم واحد معًا. لا نراهم لكنَّنا معهم، خاصَّة في القدَّاس الإلهيّ، حيث نذكر أسماء قدِّيسين كثيرين. غلبت القدِّيسة أنسطاسيا الغرور تمامًا وسلَّمت ذاتها لاقتبال عذابات مخيفة، لأجل محبّة المسيح. ولهذا مجَّدها الله وأعطاها نعمة الأشفية وصنع العجائب الكثيرة. هنا أودُّ أن أضيف أمرًا: عادة ما نطلب من القدِّيسين أن يشفونا حين نصاب بمرض جسديّ. هذا أمرٌ جيِّد، فنحن بشر نحتاج إلى الصحَّة. لكن يجب ألاّ نطلب صحَّة الجسد فقط، بل وصحَّة النفس الَّتي هي خالدة. وأن نتوسَّل إلى القدِّيسين أن يمنحونا مثل محبَّتهم الشديدة للمسيح. لأنَّهم أحبُّوه أكثر من أنفسهم، لا كأنفسهم، ولهذا احتملوا ميتات عديدة وصعبة. حين نقرأ استشهاد القدِّيسة أنسطاسيا نندهش كيف أن صبيَّة بعمر العشرين مرّت بمثل هذه التعذيبات المخيفة. سيساعدنا هذا في حياتنا الروحيَّة، أي أن نطلب أولاً أن يساعدونا لنحبَّ المسيح مثلما أحبُّوه هم (القدِّيسون) وأن نصير عشَّاق المسيح. فكما يعشق الشابّ فتاةً ما وهي تعشقه ويكونان متحابّين، هكذا نحبّ المسيح بعشق إلهيٍّ لا بمجرّد إيمان بسيط عقليّ، هذا لا يكفي! بل علينا أن تكون نفسنا مملوءة عشقًا إلهيًّا لربِّنا وإلهنا ومخلِّصنا، الَّذي صار لأجلنا إنسانًا وأن نصبر صبر القدِّيسين.
هناك في ديرنا شيخ اسمه الراهب سمعان. تظاهر قليلاً بالتبالُه لأجل المسيح ورقد قبل سنتين. كان يتألّم بأماكن مختلفة بجسمه وكانت رجلاه متورِّمَتين. قلت له مرَّة : لم لا تتوسَّل إلى القدِّيسة أنسطاسيا أن تشفيك؟ فقال: ذهبت إليها، لكن أتعلم ماذا تقول لي؟ تقول "انظر كم عانيت أنا؟ بتروا صدري، خلعوا أسناني واحدًا فواحدًا، ثمَّ أظفاري ووضعوني على الدولاب..." فأخجل أن أطلب منها أن تشفيني. أرى كم عانت وأخجل أن أطلب منها.
يصنع القدِّيسون عجائب كثيرة. شفَت القدِّيسة أنسطاسيا الكثيرين من أمراضهم، أعرف حالات عديدة، وهي صنعت عجيبة معي أنا أيضًا. وكذلك حين لا تصنع العجيبة برغم طلبنا هذا، فإنّها ستعطينا نعمةً. يمنحنا القدِّيسون نعمة بشفاعاتهم لدى الربّ، بحيث نحتمل المرض ونواجهه بطريقة روحيَّة وأن نستفيد، حتَّى لو لم نشفَ. يسمع القدِّيسون صلواتنا دائمًا ويباركوننا حتَّى لو لم يفعلوا تمامًا ما نسألهم، كونه لا يناسب مصلحة نفوسنا. يعرف الله ما هو النَّافع لنفوسنا. أمَّا نحن فسنطلب الشفاء والعافية والعلاج من الله بشفاعة القدِّيسين، وهو سيفعل ما فيه الخير لنفوسنا. مؤشِّر إيمان المسيحيّين هو في اتكالهم على مشيئة الله المقدَّسة بثقة. هذا هو ما نقوله في الصلاة الربِّية، كلّ يوم نرددها، لا لمرَّة بل لمرَّات عديدة. هذه الصلاة المُسَلَّمة لنا من الله، علَّمنا إياها فمُ المسيح المقدَّس. نقول: "أبانا الَّذي في السماوات....لتَكُن مَشيئتك.." لا نقول "لتكن مشيئتي" هذا ما يقوله المغرور، أمَّا مَن سلَّم نفسه لربِّنا فيقول: " لتكن مشيئتك" وما دمُنا نطلب مشيئته فيجب إذًا، في لحظات حياتنا الصَّعبة، أن نسلِّم أنفسنا لمشيئة الرَّبّ المقدَّسة فهي الخلاصيَّة. جميع ما يسمح به الرَّبّ هو لخلاصنا.
كما ترونني، لديّ مشكلة صعبة في قدمي ولا أستطيع الوقوف. أصابني هذا لأجل خلاصي. يجب أن أتحمَّل وأصبر. أهَّلنا الرَّبّ أن نتعرَّف بالشيخ پاييسوس وأن نستفيد كثيرًا بقربه. هذا حين أخبره طبيبه -أستاذ جامعيّ- أنَّه مصاب بالسرطان، لم يُعِر اهتمامًا للأمر، لأنَّه في تلك السَّاعة كان يخاطب سيِّدة حزينة موجودة هناك. جُلُّ همِّه كان أن يُعزِّيها ويقول لها شيئًا ليخفِّف عنها. لاحقًا فكَّر هكذا: "إنَّه جيِّد أن نُصابَ نحن الرُّهبان بالسَّرطان حتَّى يتعزَّى في العالم المسيحيّون المصابون به" وبهذه العقليَّة، رغم آلامه المبرِّحة، اجتاز المرض فرحًا، مُفكِّرًا أنّه يُعزِّي بمرضه آخرين في العالم خاصَّة مرضى السرطان. أترون عقليَّة القدِّيسين؟ رقد القدِّيس پاييسوس خارج الجبل وقبره في دير السوروتي قد أصبح محجًّا يسجد له الكثيرون يوميًّا طالبين بركته.
لعلّ نعمة الله تقوّينا جميعًا وتنيرنا فنتَّخذ جميعًا القرار، وأنا أوَّلكم، بأن نحفظ وصايا الله المقدّسة، فيسكن المسيح نزيلاً في قلوبنا. هذا هو فرحنا وعزاؤنا والقوّة الَّتي يمنحها الله لنا لنجاهد الجهاد الحسن.
ليكن السيِّد القائم دائمًا وسطنا وفيما بيننا، هو استنارتنا وتعزيتنا وسلام نفوسنا. وليؤهِّلنا أيضًا للحياة الأبديَّة.