شُكرُ اللهِ أَبَدًا على كُلِّ شَيْءٍ (5/8)
المطران نيكيفوروس ثيوتوكيس
نَقَلَتْهُ إلى العربيّة: جوزفين القصيفي
يُعلِّمُنا القديسُ بولسُ الرّسول الكُلِّيُّ الحكمةِ أنْ نشكرَ اللهَ في كلِّ حين. «اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ» (1 تسالونيكي 5: 18)، وهذا يعني أَنَّه في كلِّ موقفٍ، سَواءٌ أَكانَ إيجابيًّا (في الصّحّةِ أو في البَرَكةِ) أم سلبيًّا (في المرضِ أوِ في الموتِ) وَجَبَ أَنْ نَكونَ شَاكِرِيْنَ للرَّبِّ.
قد تتساءَلُون، كيف يمكنُكم أن تشكرُوا اللهَ وأنتم تُعانُون من مرضٍ شديدٍ، أو من مصيبةٍ مُهْلِكَةٍ؟ عندما أكونُ في صحّةٍ جيّدةٍ والأمورُ على ما يُرام، وعندما أتلَقّى مساعدَتَه، أشكرُ اللهَ وأكون مُمتَنًّا لهُ. ولكن عندَمَا أرْزَحُ تحتَ وَطْأَةِ المُعاناةِ، أو أوَبَّخُ، أوْ أعَذَّبُ، فمِنْ أينَ يأتي الامتِنَان؟ إنَّ تعليمَ الرَّسولِ: «إِنِّيْ أَشكُرُ إِلهي في كُلِّ حينٍ» (1 كورنثوس 1: 4) تبدو غيرَ معقولةٍ وصعبةً للغايةِ.
أنتم مخطئُون! إنَّ تأديبَ الرَّبِّ بركةٌ بِحَدِّ ذاتها. عندما نتألَّمُ نفتكرُ باللهِ قائلينَ: «يَا رَبُّ إِنَّهُم في ضِيْقِهم قدِ التَمَسُوكَ، سَكَبُوا شَكواهم عِنْدَ تَأْدِيبِكَ لَهُم.» (إشعيا 26: 16).
فهذا التّأديبُ يفتحُ أُذُنَيِ الإنسانِ ويردَعُه عن العصيانِ «ألسَّيِّدُ الرَّبُّ قَدْ فَتَحَ أُذُنِي فَلَمْ أُعَاصِ ولا رجَعْتُ إلى الوراءِ» (إشعيا 50: 5). هذا ما يُعزّي الخطأةَ ويشجّعُهم على التّوبَةِ "عصَاك وعُكَّازُك هُمَا يُعَزِّيَانَنِيْ» (مزمور 22: 4) وهذا يكشِفُ أنَّ الله يحبُّ الأبرارَ؛ ولكنَّه، أيْضًا، يقبلُ توبةَ الخطأةِ: «لأَنَّ الّذي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَرْتَضِيْ بِهِ كَأَبٍ بابْنِهِ» (أمثال 3: 12)
إجراءاتُ اللهِ التَّدبيريّةُ هي الأدواتُ والوسائلُ الّتي يثبّتُ الرّبُّ من خلالِها الأبرارَ في الفضيلةِ ويدعو الخطأةَ إلى التَّوبةِ. عندما كنَّا أطفالاً، كان آباؤنا، في الكثيرِ من الأحيانِ، يؤدِّبُونَنا لكي نصلحَ أخطاءَنا ونصبحَ أناسًا أفضلَ. ألا ينبغي أنْ نشعرَ أنَّنا مَدِينونَ لآبائنا الأرضيّينَ على محبّتِهم، واهتمامِهم بنا ورعايتِهم؟ هذا ما يفعلُهُ أبوكم السَّماويُّ أيضًا، يؤدِّبُكم كي تثبتُوا في الفضيلةِ مثلَ أيّوبَ. يؤدِّبُكم لتَتُوبوا مثلَ منسّى- أمّا أنتم فتتدّعون أنّه لا سَبَبَ لتشكُروه عندما يؤدِّبُكم؟
عندما يعطيكُم الطَّبيبُ الدواءَ لتَتَنَاولُوه، يكونُ طعمُهُ مُرًّا، ويُزعجُ معدتَكُم ويسبِّبُ لكم الغَثيانَ والقَيْءَ. وعندَما يرى الطَّبيبُ أنّ الجراحةَ ضروريّةٌ، فهو يُزيل الأجزاءَ المُصابَةَ بالمرضِ من جسدِكم. ومعَ ذلك، فإنَّكم تعبِّرونَ عن تقديرِكم للطّبيبِ والجرّاحِ، وتملأُونَ جيوبَه بالذَّهَبِ والفِضَّةِ. ثمّ تسألُونَ: «لمَ عليَّ أن أشكرَ اللهَ عندَمَا يسمحُ بأنْ أتألّمَ؟» إنّه يطهِّر أَنْفُسَكم بالأحزانِ. يشفي جراحاتِكم بالجَلَدَاتِ. ومُقابلَ هذا التّأديبِ المؤقَّتِ، يعطيكم مَلكوتَ السّماواتِ. أمّا أَنتم فتزعمُون بعدَ هذا أنّ تعاليمَ الرَّسولِ بولسَ لا معنى لها! إِنَّ طريقةَ تفكيرِكم هي الّتي من دونِ معنى! ستُدركون هذا عندما تفحصُون الأمورَ بشكلٍ صحيحٍ.
إنّكم تستفيدون على حدٍّ سواء عندَما يعطيكُم اللهُ الثّروةَ وعندما يسمحُ لكم بالفقرِ، سواءٌ أَرَفَعَكُم أَمْ وَضَعَكُمْ وسَواءٌ مُنِحْتُمْ صِحَّةً وعافِيَةً أمْ أُصِبْتُمْ بِمَرَضٍ . دائمًا، وفي كلِّ مكانٍ، يُسبُغُ عليكم بركاتِهِ الإلهيَّةَ. إذن، يَليقُ بكم أن تشكرُوه دائمًا على كلِّ شَيْءٍ. إنّ الكثيرَ من الرِّجال الأتقياءِ والقدّيسينَ أكَّدُوا أنّ هذا ليسَ بالأمرِ الصّعبِ. أثبت أَيُّوبُ هذا الأمرَ أكثرَ من أيٍّ شخصٍ آخرَ. لقد أظهرَ شكرَه للهِ ليسَ فقَطْ عندَما تمتَّعَ بِالرَّخاءِ، (من خلال تقديمِ الذَّبائحِ كلَّ يومٍ) ولكن حتَّى عندَما واجهَ ضيقاتٍ رهيبةً. عندما فَقَدَ كلَّ أولادِهِ، وَخَسَرَ كلَّ ممتلكاتِه وأصبحَ فقيرًا، عندما مَرِضَ، عندما امتلأَ جسدُهُ قُروحًا وعانى أوجاعًا مُبَرِّحَةً، صرخَ بصوتٍ عظيمٍ: «ألرَّبُّ أَعْطَى والرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسمُ الرَّبِّ مُبارَكًا» (أَيُّوْب 1: 21).
أثناءَ هذِه الأَحزانِ والِمحَنِ غيرِ المُتوقَّعة والمُتكرِّرَةِ، أُشكروا اللهَ وسبّحُوه ومجِّدُوهُ قائلينَ: «مبارَكٌ اسمُ الرَّبِّ» .
كان أيّوبُ شاكرًا لله سواءٌ أَكان أبًا للعديد من الأولادِ، أو عندَما أَمسَى بلا أولادٍ، سواءٌ أَكانَ ثريًّا أمْ عندما أصبح فقيرًا، سواء أَكان بصحّةٍ جيّدةٍ أَمْ عندَما مرِضَ، سواء أكان يتمتَّعُ بالسّعادةِ أو عندَما اكتَنَفَهُ الحُزْنُ، سواء أكانَ يعيش برَخاءٍ أمْ عانى المصائبَ.
كانَ القدّيسُ يوحنَّا الذَّهبيُّ الفَمِ يُردِّدُ مِرارًا هذه العبارةَ الجديرةَ بالذِّكرِ: «المجد لله على كلِّ شَيْءٍ، ولن أتوقَّفَ عن تكرارِ هذه العبارةِ أبدًا من أجلِ كلِّ الأشياءِ الّتي تحدثُ لي».
ويردّدُ القدّيسُ غريغوريوسُ بالاماس أقوالَ الذَّهبيِّ الفمِ مُعَبِّرًا عن الفِكرةِ نَفْسِها بلسانِه المملوءِ نعمةً بهذه الطّريقةِ: «لنَكُنْ شاكِرينَ على كلِّ شَيْءٍ مهما حدثَ لنا- فهذا معنى الامتنانِ! إذا كنتم شاكرِينَ على الأشياءِ عندمَا تسير بِسَلاسةٍ، فلن يكونَ هذا إنجازًا كبيرًا، لأن الأحداثَ تدفعُك إلى ذلكَ. ولكن، إذا شَكَرْنَا الله عندَمَا نجدُ أنفُسَنَا في عمقِ الصّعوباتِ، فهذا أمرٌ رائعٌ حقًّا!»
«ليسَ هناكَ ما هو أقدسُ من اللِّسانِ الّذي يشكرُ اللهَ في أوقاتِ الضِّيقِ. إنّهُ ليسَ أَقلَّ شأنًا من لسانِ الشّهيدِ، فهو أيضًا لديْه جلَّادٌ يَضْغَطُ عليه ليلعَنَ اللهَ وينكُرَه، أعني الشّيطانَ الّذي يستخدمُ الأفكارَ القاتلةَ لكي يُمزّقَهُ ويُغرقَهُ في الحُزْنِ. لذلك، إذا صَبَرَ الشَّخصُ على الشَّدائدِ وشكرَ اللهَ من أجلِها كلِّها، فقد نالَ إكليلَ الشّهيدِ».
ويقول، أيضًا، القدّيسُ باسيليوسُ الكبيرُ: «عارٌ عَلَيْنَا، من ناحيةٍ أنْ نُبارِكَ اللهَ عندما تَسيرُ الأمورُ في طريقِنا، ومن ناحيَةٍ أُخرى، أنْ نَصْمُتَ ولا نشكرَهُ عندما نواجهُ الصعوبَاتِ والأحزَانَ. في هذه الحالاتِ علينا أنْ نشكُرَ اللهَ كثيرًا، فَـ’الّذي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَكَأَبٍ بِابْنٍ يُسَرُّ بِهِ’» (أمثال3: 12).
ويبيِّنُ القدّيسُ إسحقُ السريانيُّ أنّ «الإنسانَ الشّاكِرَ يدفع المُعطي إلى تقديمِ عطايا أعظمَ وأحدثَ من ذي قبل: ويقول في مكانٍ آخر «إنّ ما يَنقُل عطايا الله للإنسان هو القَلب الّذي يشكرُه دائمًا والّذي يمجّدُهُ».
أيُّها المسيحيُّون الأحبّاءُ، «كُلّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ» (رومية 15: 4). لذلك، كنْ ممتَنًّا للهِ أيُّها الإنسانُ واشكرْهُ على كلِّ شَيْءٍ. «اهتفُوا، أيُّها الصّدّيقُونَ بالرّبِّ. بالمستقيمينَ يَليقُ التّسبيحُ» (مزمور32: 1).
إذا كنتَ مُعافًى، فإِنَّ الصّحّةَ الجيِّدَةَ تأتيكَ منَ اللهِ، لذلكَ اعتَرِفْ بهذه النّعمةِ وكرّرْ كلماتِ داودَ «اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي» (مزمور 27: 7).
إذا كنتَ مريضًا، فهذا المرَضُ الجسديُّ سيصبحُ خَلاصًا لنفسِكَ. لذلك قلْ مع أيّوُبَ: «ألرَّبُّ أَعْطَى والرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسمُ الرَّبِّ مُبارَكًا» (أَيُّوْب 1: 21).
اذا كُنتُم أغنياءَ وتعيشون برخاءٍ، فاشكُروا كما فَعَلَ داودُ النّبيُّ: «الّذي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ» (مزمور 102: 5)، واهْتُفُوا معه «بَارِكِي يَا نَفْسِي الرّبَّ، وَيا جميعَ ما في باطِنِيْ لاسمِهِ القُدُّوسِ» (مزمور 102: 1).
إذا كُنتُم فقراءَ وتعيشونَ في ضيقٍ، فمجِّدوا بصَبرٍ الّذي يعتني بكُم، الّذي يهيِّئُ لكم الأمجادَ السّماويّة عوضًا عنِ الأرضيَّةِ، وقولوا مع أيُّوبَ: «ألرَّبُّ أَعْطَى والرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسمُ الرَّبِّ مُبارَكًا» (أَيُّوْب 1: 21).
في كلِّ وقتٍ وعلى كلِّ شيْءٍ (أي في كلّ الظُّروفِ والأحوالِ) اشكرُوا الله باستمرارٍ. لا ينبغي على فمِكم أن يتوقّفَ عن تمجيد اللهِ وتسبيحِهِ. لا ينبغي أن تَتَوقّفَ شفاهُكم عن القولِ "المجدُ لكَ يا رَبُّ".
«اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ» (1 تسالونيكي 5: 18)، له المجدُ والقدرةُ إلى أَبَدِ الآبدين آمين.
«مُبَارَكٌ أَنْتَ أَيُّهَا الرّبُّ إِلهُ آبَائِنَا وَحَمِيدٌ وَاسْمُكَ مُمَجَّدٌ إلى الدُّهُورِ، لأَنَّكَ عَادِلٌ فِي جَمِيعِ مَا صَنَعْتَ، وَأَعْمَالُكَ كُلُّهَا صِدْقٌ وَطُرْقُكَ اسْتِقَامَةٌ وَجَمِيعُ أَحْكَامِكَ حَقٌّ» (دانيال 3: 26-27).