الفُرُوقُ بينَ الأُرثوذُكسيَّة والكاثوليكيَّة (الجزء 1/2)
حديثٌ للأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس- كريت 1997
نقله إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس
من خصائصِ عصرِنا المُتعدِّدِ الحضاراتِ (pluralistic) التَّقارُبُ بين الشّعوبِ والحضاراتِ المتبايِنةِ، وقدْ باشرَ مُمثِّلُو الطّوائفِ المسيحيّةِ، بين الحينِ والآخرِ، حوارَ الأديانِ، بطريقةٍ رسميَّةٍ أو غيرِ رسميَّةٍ، رَغْبَةً في إيجادِ نِقاطٍ مُشتركةٍ بين الأطرافِ المُتحاورةِ. لهذا السَّببِ، قد يبدُو كلامُنا اليومَ أمرًا غريبًا، في إِظهارِ الفُرُوقِ بين إيمانِنا الأرثوذكسيِّ المقدَّس، والكاثوليكيَّة (اللاَّتِيْن).
بيد أن مسكونيَّةً سطحيَّةً تُقَلِّل مِن قيمةِ الفروقاتِ، إنَّما تُقصي الاتّحاد بعيدًا، بدلاً من أن تَجْعَلَهُ قريبًا.
كتب الأَب القدِّيس ديمتريوس ستانلواي Dimitru Staniloae عن مثلِ هذهِ المَسكونيَّة السَّطحيَّة العَشوائيَّة:
«يَندَفِعُ البَعْضُ، بينَ الحينِ والآخرِ، بِحماسٍ ساذَجٍ، رَغْبَةً في تحقيقِ "الاتِّحادِ"؛ وهوَ حماسٌ يُعتقدُ أنَّهُ قادرٌ بحرارَتِه العاطفيَّةِ، أنْ يُميِّعَ الواقِعَ، ليُعيدَ تكوينَه من دونِ صُعوبَةٍ. كما يخلقُ، أيضًا، عقليَّةً دبلوماسيَّةً مُتساهِلةً، تخالُ أنَّها قادِرَةٌ، عبرَ تنازلاتٍ مُتبادَلةٍ، أن تُوفِّقَ بينَ مبادئَ عقائديَّةٍ معيَّنةٍ، أو بينَ ظروفٍ عامَّةٍ تَحُولُ دونَ اتِّحادِ الكنائسِ. لكن في الحالتَينِ، سَواءٌ أَبِمواجهَةِ الحقائقِ أمْ بالاستخفافِ بها، يدلُّ حماسٌ كهذا على سَعْيٍ أو مُحاولةٍ لِتحويلِ القِيَمِ إلى أمورٍ نسبيَّةٍ، في بنود معيَّنَةٍ من عقائدِ الكنائس. ربّما يعكس هذا استخفافًا كبيرًا بحدودِ الإيمانِ، لدى بعضِ الطَّوائفِ المسيحيّةِ، إمّا بأكملِها أو عبرَ جماعاتٍ فيها. فَهُم يفضِّلُونَ التَّساهُلَ أو التّغييراتِ على حسابِ الإيمانِ، مَدْفُوعِيْنَ بحماسٍ أو عقليّةٍ دبلوماسيَّةٍ؛لأنَّ لا شَيْءَ يَخسَرُونَهُ بما يقترحُونَه. لكن هذه التنازلاتِ تشكّلُ خطرًا جسيمًا على الكنائسِ، تشكّل البنودُ المقابلةُ، لهذه التنازلاتِ، الخطَّ الأماميَّ والأهمِّيَّةَ القُصوى في عقيدتِهم. لذا بالنسبة لهذهِ الكنائِس، يعادل اقتراحُ إجراء تنازلاتٍ وتساهلاتٍ اعتداءً مباشِرًا يُهدّد وجودَها وعقائدَها».
علينا أن نُدْرِكَ الفروقاتِ جيّدًا لسببٍ آخرَ، وهو محافظتُنا، نحن الأرثوذكسَ، على حالةِ اليقظةِ لضميرِنا العقائديِّ.
إنَّنا نعيشُ في عصرٍ مِلؤُهُ التَّشتُّتُ وهناكَ ميلٌ للدَّمجِ سواءٌ بينَ المسيحِيِّيْنَ أم بينَ الأديانِ المختلفَةِ، عبر الخَلْطِ. فَهُوَ مُتَطَلَّبٌ رَئِيْسٌ لِتَهْيِئَةِ "عَصْرٍ جديدٍ". تتأَثَّرُ رعيةُ كنيستِنا بهذا.
كتبَ مؤخَّرًا، مُدرِّسٌ في جامعةِ أثينا أنّه يستطيع أن يُشْعِلَ شمعةً أمامَ أيقونةِ السَّيّدةِ العذراءِ وكذلك أمامَ تمثالِ إحدى آلهةِ الهندوس.
إنّهُ واجبٌ رعائيٌ مُلِحٌّ، ويقعُ على عاتق رُعاةِ كنيستِنا، أن يعترفُوا بالإيمانِ الأرثوذكسيِّ مِنْ دونِ مُساوَماتٍ، حينَ يتحاورُونَ مع الطّوائفِ. بل وأن يَحرُصُوا على تعليمِ الشَّعبِ الارثوذكسيِّ الإيمانَ، خاصَّة حين يتَشَوَّشُ الإيمانُ بسببِ جهلِهم الاختلافاتِ بينَنَا وبين العقائدِ والأديانِ الأخرى. وأن يبَيِّنُوا هذه الفروقات ويَتَعَلَّمُوها، تحديدًا في المناطقِ الَّتي تُمارِسُ فيها الطوائفُ الأخرى التبشيرَ لجذبِ الأرثوذكسِ بطرقٍ مباشرَةٍ أو غيرِ مباشَرَةٍ.
لا تَزالُ نصيحةُ الرَّسولِ العظيمِ بولسِ لأساقفةِ الكنيسةِ وكهنتِها تُدَّوي: «احْذَرُوا لِأَنْفُسِكُمْ ولِجميعِ الرَّعِيَّةِ الَّتي أَقامَكُمْ الرُّوح القُدُس فيها أَساقِفَةً لِتَرْعَوْا كَنِيْسَةَ اللهِ الَّتيْ اقْتَناها بِدَمِهِ» (أعمال 20: 28)
فما هي أَبرزُ الفُرُوقِ بينَ الأرثوكسيَّةِ والكاثُوليكيَّةِ :
ألفرْقُ الأَوَّلُ: دولةُ الفاتيكان
يشكَّل الفاتيكان المقرَّ الإداريَّ لجهازِ الكنيسةِ البابويَّةِ، ولنظامِ الدَّولةِ البابويَّةِ في آنٍ معًا. رئيسُ كنيسةِ اللاَّتينِ هو البابا الَّذي هُوَ، في الوقتِ نفسِهِ، رئيسُ دولةِ الفاتيكان. والفاتيكانُ دولةٌ تضمُّ وزراءَ، رئيسَ وزراءٍ، مُستقلَّةً اقتصاديًّا ولها جيشٌ-سَابِقًا، كما لها رجالُ شرطةٍ، وسِلْكٌ دبلوماسيٌّ، وكلّ ما تتطلَّبُه الدَّولةُ تنظيميًّا.
نعرف جميعًا الحروبَ الدَّاميةَ الطَّويلةَ الَّتي شنَّها الباباواتُ في الماضي. خاصَّة الحروبُ الشَّهيرةُ الَّتي بدأها البابا غريغوريوس السَّابع عام 1075، والَّتي استمرَّتْ مئتي عامٍ. والهدَفُ منها حمايةُ دولةِ الفاتيكان، وتوسُّعُها أَيْضًا.
اليومَ، وعلى الرَّغمِ من تحجيمِ مَساحةِ الدَّولةِ، فإنّ الفاتيكان متواطئٌ بشكلٍّ فعَّالٍ، بإلحاقِ الأضرار بشعوبٍ أخرى، خاصَّةً الأرثوذكس. مثل حرب الكُروات والمسلمين عام 1995، ضدَّ الصِّرب الأرثوذكس، وعلى الرَّغْمِ من ذلكَ نَجِدُهُ يَبْحثُ عن حلولٍ من أجلِ مصالحِهِ.
ولدى كافّةِ دولِ العالَمِ ممثِّلٌ عن البابا يُسمّى"السفيرُ الرسوليّ "nuntius apostolicus"، أو سفيرُ دولةِ الفاتيكانِ الَّذي هوَ عيْنُ البابا وأُذُنَهُ هُناكَ، في الدُّولُ الَّتي يمثِّلُ فيها دولتَهُ.
وحالِيًّا، في أَثينا، ثلاثةُ يُمثِّلُون دولةَ الفاتيكان : الأسقفُ اللاتينيُّ، وأُسقفُ الرُّوم الكاثوليك، والسَّفيرُ!
ومن أبرز بابواتِ العصورِ الوُسطى البابا إينوكنديوسُ الثالثُ (1198 – 1216)، الَّذي لَخَّصَ، بوضُوحٍ، أثناءَ تنصيبِهِ خصائصَ "حكمِ البابا القيصريِّ"، وذلكَ من خلالِ خِطابٍ تَضَمَّنَ التَّالي: «مَن لهُ العَروس فهو بالتالي العَريس. لكنَّ هذِه العروسَ (أي الكنيسة) لم تُزَفَّ بأيَدٍ فارِغَةٍ، بل قَدَّمَت إليَّ مَهرًا غاليًا لا يُضَاهى. أي غِنى الصَّالحاتِ الرُّوحيَّةِ، والدُنيويّةِ بعظمةٍ ووَفْرَةٍ. مَنَحَتْنِي التَّاجَ رَمْزًا للخيراتِ العالميّةِ، والتاجَ الكنسيَّ من أجلِ رئاسةِ الكَهنوتِ، والتَّاجَ الثَّاني من أجلِ المُلْكِ، مصيِّرةً إياي نائبًا عنهُ تَعالى (أي عن المسيح)، عَبْرَ ثيابٍ كهنوتيّةٍ دُوِّنَ عَلَيْها: "مَلِكُ المُلوكِ ورَبُّ الأربابِ”».
وَوِفْقَ التَّقليدِ الغربيِّ، وَجَبَ على الأباطِرةِ إِمساكُ اللِّجامِ ومُساعدةُ البابا في امتطاء الخيلِ أو التَّرَجُّلِ منهُ، في اللِّقاءات الرَّسميَّةِ أو أَثناءَ سفرِه، مبرهِنِيْنَ، بهذه الطريقةِ، خضوعَهُم للبابا.
حسب تعليم الرَّبِّ والرُّسلِ القدِّيسِيْنَ، إنَّ الدّمجَ بين السُّلطَةِ العالميَّةِ والرِّئاسةِ الرُّوحيَّةِ، في الشّخص نَفْسِهِ، لهوَ أمرٌ مرفوضٌ تمامًا. إنَّ قولَ الرَّبِّ معروفٌ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ» (مرقس 12: 17). يصفُ القدِّيسُ نيقوذيموس الآثوسيُّ ازدواجَ السُّلطَةِ هذا باسمِ: «دمْجُ أمرين لا يَقبَلان الدَّمْجَ، والنتيجةُ مَسْخٌ غريبٌ» إنَّ البلبلةَ بين السُّلطتَيْنِ الرُّوحيَّةِ والعالميَّةِ، واختلاطَ المُلكَين السَّماويِّ بالأرضيّ، لَهُوَ دليلٌ قاطعٌ على عَولَمَةِ الكنيسةِ. هكذا، تنهزم الكنيسةُ أمامَ تجرِبةِ المسيحِ الثَّانيةِ، مِن قِبَل إبليسَ. حين طلبَ أَن يسجُدَ لهُ، حتَّى يَهَبَ لهُ بالمُقابِل السُّلطَةَ على جميعِ ممالكِ العالمِ. وأجابه الرَّبُّ: «للرَّبِّ إلهِكَ تسجُدُ وإيَّاهُ وحدَهُ تعبُدُ» (متَّى 4: 10). دعونا نتذكَّرُ [المحقِّق الأكبر بمحاكم التفتيش الكنسيّ] في رواية دوستويفسكي. نتيجةٌ لهذا الخلطِ الَّذي لا يُمكنُ أن يَتَحَقَّقَ، يتأثَّرُ سلبيًا وَيَتَعَلْمَنُ نظامُ الكنيسةِ بأكمله.
إنَّ هذا لفرقٌ هامٌّ جدًّا بينَنا وبينَ الفاتيكان، ومن الضروريِّ مناقشتُهُ في الحوارِ الجاري. كيف تقدرُ الكنيسةُ المقدَّسَةُ الأرثوذكسيّةُ أن تتَّحِدَ مع الكنيسةِ الَّتي تشكّل أيضًا دولةً في الوقتِ نفسِه؟
أودُّ أن أُلفِتَ انتباهَكم، إلى التَّباينِ بَين "سُلطةِ الدَّولةِ" وبين أن تتَولَّى الكَنيسةُ مسؤوليَّةَ قيادةِ الشَّعبِ، مُؤقَّتًا ولأجل تعزيَتِهِ ودعمِهِ، لأنَّه واقعٌ تحت وطأةِ استعبادٍ أو احتلالٍ، باعتبارهم أعضاءَ جسدِ الكنيسةِ. في المراحلِ التاريخيَّةِ الحَرِجَةِ، كانت كنيستُنا دائمًا، تُوكِلُ للبطريركِ مهامَّ قائدِ الشَّعبِ. مثلاً أثناءَ الاستعبادِ أو التَّعذيبِ. كذلك أُوكِلَ الدَّورُ هذا للأساقفَةِ. لكنَّ "القائدَ الشعبيَّ» شَيْءٌ، ورئيسَ الوزراءِ شَيْءٌ آخرُ تمَامًا؛ أو رئيسُ الدّولةِ الديمُقراطيَّةِ الَّذي يحملُ على عاتقه السُّلطَةَ السِّياسيَّةَ. كان قائدُ الشَّعب المحامي والمُدفاعَ عن الشَّعبِ الأرثوذكسيِّ المُضطَهَد والمعَذَّبِ.
نعرف عمومًا أيَّ دورٍ بطوليٍّ أَدَّاهُ بطاركةُ القسطنطينيَّةِ كقادةٍ للشَّعبِ، لا لشَعْبِ اليونان فحَسْبُ، بل للشُّعوبِ الأرثوذكسيَّةِ كلِّها، فأثناءَ الحُكمِ العُثمانيِّ، أراقَ الكثيرُونَ منَ البَطارِكةِ دماءَهُمْ وذُبِحُوا بَعدَ أَنْ تَعَرَّضُوا للتعذيب، ومنهم: غريغوريوسُ الخامسُ.
ألفَرْقُ الثَّاني "الفيلوكيه- filioque"
هيَ الإِضَافةُ الشَّهيرة، إلى نصِّ دستورِ الإِيمانِ، للبند المُتعلِّق بالرُّوح القُدُس، زاعِمِيْنَ "أَنَّ الرُّوح القُدُس ينبثقُ من الابنِ أيضًا". وبحسبِ تعليمِهم هذا، لا ينبثقُ الرُّوح القُدُس من الآبِ فقَطْ، كما قالَ المسيحُ في الإنجيلِ المقدَّسِ، بل يزعَمُون انبثاقَهُ مِن الابنِ أيضًا. قاومَ القدِّيسُ فوتيوسُ أوَّلاً، هذه الإِضَافةَ الهرطوقيّةَ، وبَعدَه القدِّيسُون الكِبارُ، أَمثال القدّيس غريغوريوسُ پالاماسُ والقدّيسُ مرقسُ الأفسسيُّ وغيرُهم، الَّذِيْنَ دَحَضُوا، هذهِ الزيادةَ الهرطوقيّةَ، دَحْضًا تامًّا بحُجَجٍ لاهوتيَّةٍ حصينةٍ لا تُجابَهُ.
ردودُ الأُرثوذكسيَّةِ على "الفيلوكيه"
-كتبَ القدِّيسُ فوتيوسُ اللاَّهوتيُّ الكبيرُ: قال ربُّنا وإلهُنا: «روحُ الحقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآبِ» (يوحنَّا 15: 26)، أمَّا الكهنةُ أصحابُ هذه البدعةِ الهرطوقيّةِ الجديدةِ، فيقولونَ:"إنَّ الرُّوحَ ينبثقُ مِن الابن أيضًا"؛ أَتَسَاءَلُ، والكلامُ للقِدِّيسِ فوتيوسَ: «مَن لا يَسُدُّ أُذُنَيْهِ، لِئَلاَّ يَسْمَعَ تجدِيْفًا، أو قِمَّةَ التَّجديفِ؟! هذه تقاوِمُ الأناجيلَ، وتعارضُ المجامِعَ المَسكونيَّةَ المقدَّسةَ، وتُلغي تعليمَ الآباءِ المغبوطِيْنَ القدّيسِيْنَ: القدِّيسِ أثناسيوسَ الكبيرِ، وغريغوريوسَ اللاهوتيِّ الشَّهيرِ، وزينةِ الكنيسةِ الملكيَّةِ باسيليوسَ الكبيرِ، وفمِ المسكونة الذهبيِّ ولجَّةِ الحكمةِ: يُوحنَّا الذَّهبيِّ الفَمِ... وما بالي أذكر هذا أو ذاك؟ لا بل هذه الإِضَافةُ تُحارِبُ جميعَ الأنبياءِ القدّيسِيْنَ، والرُّسلِ، ورؤساءِ الكهنة، والشهداءِ؛ بل إن وقعَ هذا التَّجديفِ المعادي للهِ، يَشْهَرُ سلاحَه ضدَّ الأصوات السَّيِّديِّة لأقوال الرَّبِّ نفسِها».
إنَّ هذهِ الإضافَة مُعاكسةٌ للإنجيل، وِفقَ تعليمِ الآباءِ القدِّيسِينَ. قال الرَّبُّ بوضُوحٍ، إنَّ الرُّوح القُدُس ينبَثِقُ مِن الآبِ. إذًا، هذه الإِضافةُ تُهينُ سرَّ عقيدةِ الثَّالوثِ القُدُّوسِ تحدِيْدًا، لأنَّها تُدخِل إلى الثالوثِ القُدُّوس عِلَّتَيِ ابتداءٍ، وتُنزِلُ هذا السِّرَّ الفائقَ العقلِ إِلى مستوى المنطقِ البشريِّ، فَتُحاول الاقترابَ من السِّرِّ من خلال المَنْطِقِ لا الإيمان.
-ومِمَّنْ تناوَلُوا مَوضُوعَ الإِضافةِ، أيْضًا، لاهوتِيٌّ كبيرٌ في كَنِيْسَتِنا الأُرثوذكسيَّةِ "فلاديمير لْوسْكِي (Vladimir Lossky)" الَّذي قالَ: «يعتبرون في هرطقةِ "الفيلوكيه" أنَّ الإيمانَ يَحتاجُ إلى الإدراكِ المنطقيِّ بالعقلِ، فيقلِّلونَ من شأنِ الإعلانِ الإلَهِيِّ جاعلينَ منه فلسفةً لا غيرَ، أمَّا في حالةِ عقيدةِ الثَّالوثِ الأرثوذكسيَّة، فَيَحْتاجُ الإدراكُ العَقليُّ إلى حقائقِ الإيمانِ، كي يتجلَّى، وقد سَلَّمَ لأسرارِ الإعلانِ الإلهيِّ. لأنَّ عقيدةَ الثَّالوثِ القدُّوسِ تُمثِّلُ الجوهَرَ في الأفكارِ اللاَّهوتيَّة جميعِها، بِدْءًا مِمّا سمَّاهُ الآباءُ اليونانيّون "لاهوتًا" بالدَّرجةِ الأولى. يُدركُ المرءُ إذًا، أنَّ أيَّ اختلافٍ حول هذه المسألةِ الجوهريّةِ، مَهما بدا طفيفًا للوهلةِ الأولى، إلاّ أنَّ له أهميَّةً بالغةً وحاسمةً؛ ويُضِيْفُ أَيْضًا، أَنَّ إلهَ "الفيلوكيه" (filioque) ليس هو إلهُ الكشفِ الإلهيِّ؛ بل إلهُ المَنْطِقِ، ومن المحتملِ أن يكون "المنطِقُ" إلَهَ ديكارت (Descartes) ولايبنِتز (Leibnitz) بلْ ومَن يدري، ربّما هو إلهَ فولتير، إلى حدٍّ ما، وإلهَ المرتَّدينَ عنِ المسيحيَّةِ، ومُلحدِي القرنِ الثَّامنَ عشرَ».
-في حديثٍ رسميٍّ لصاحبِ الغبطةِ، البطريركِ المسكونيِّ، في جامعة ثسالونيكي في 1 تشرين الأول 1997، بيَّن الأهميّةَ البالغةَ للعواقبِ السَّلبيَّة جراءَ هرطقةِ "الفيلوكيه" على العِلم الكنسيِّ.
هذا مهِمٌّ جدًّا، إذ يدَّعي بعضُ الأرثوذكس ومسيحيّو الطوائفِ المُختلفةِ: أنَّ الشَّرقَ والغربَ عبَّرا بأساليبَ مخُتلفةٍ، عن التقليدِ الرَّسوليِّ نَفْسِهِ! ويسمُّونَه بالتَّقليدِ الفْوتيّ، نسبةً للقدِّيس فوتيوس! ما هذا إلّا تزيِّيفٌ رهيبٌ للتَّاريخ، فيه يجرؤون على زعمٍ كهذا! وخاصَّةً في نِسْبَتِهِ إلى القدِّيس فوتيوسَ العظيمِ، المُدافعِ الرائدِ عن الأرثوذكسيّةِ، بالدَّرجةِ الأولى، ومَن وبَّخ بقُوَّةٍ معتقدَ "الفيلوكيه" الرّدِيْءِ.
ألْفَرْقُ الثَّالِثٌ :اعتِبَارُ النعمةِ مَخْلُوقَةً
في القرنِ الرابعَ عشرَ، أتى الرَّاهبُ الغربيُّ برلعامُ إلى بيزنطيةَ وعَلَّمَ أَنَّ نِعمةَ اللهِ مخلوقةٌ (أي مِن صُنْعِ اللهِ)، عندَها جاهَرَ الأرثوذكسُ، يرأسُهم القدِّيسُ غريغوريوسُ پَالاماس، أنَّ نعمةَ اللهِ غَيرُ مخلوقَةٍ. هذا هوَ الفَرْقُ الثَّالِثُ بينَ الأرثوذكسيَّةِ والكاثوليكيَّةِ، وهو فَرْقٌ لا يقلُّ أَهمِّيَّةً عنِ الفَرْقَيْنِ الأَوَّلَيْنِ .
إِنَّ اعتِبارَ النِّعْمةِ الإِلهيَّةِ مَخلُوقةً لا تُؤَلِّهُ الإِنسانَ وبالتَّالي لا تتحقَّقُ غايةُ الحياةِ بالمسيحِ ألا وهي التَّأَلُّهُ، بل تُصبحُ غايةُ الحياةِ بالمسيحِ الرُّقِيَّ الأَخلاقِيَّ فَحَسْبُ. لذلكَ، لا يناقشُ الغربُ التَّأَلُّهَ على اعتِبَارِهِ غايَةً لحياةِ المسيحيِّ، وإِنَّما الارتِقاءُ إلى الكمالِ الأخلاقيِّ، وأَنْ يُصبحَ البَشرُ أَفضَلَ، وليس آلهَةً بالنِّعمةِ. بالتّالي، لن تقدرَ الكنيسةُ أن تكونَ مجتمعَ تألُّهٍ، وإنَّما مُؤسَّسةٌ تُوَفِّر للبَشَرِ التَّبريرَ، عبرَ طريقَةٍ شرعيَّةٍ، أيْ:عَبْرَ نعمَةٍ "مَخْلُوقَةٍ". نتيجةً لهذا كلِّهِ، يتحوَّرُ جوهرُ الكنيسة، ولن تكونَ فيما بعد شركةٌ للإنسانِ معَ اللهِ.
أيضًا في هذه الحال، لا تكونُ الأسرارُ مُؤشِّرًا على حضورِ اللهِ في الكنيسةِ، ومُؤشِّرًا لوجودِ تواصلٍ معَ نعمةِ اللهِ غيرِ المخلوقَةِ؛ بَل تصيرُ مثلَ صنابيرَ، تفتحُها الكنيسةُ، فتجري منها "نعمةٌ مخلوقةٌ"، ويتوقَّعُ النَّاسُ أن يتبرَّرُوا من خلالِها، بأسلوبٍ قانونيٍّ. على هذا النحو، تُفهَمُ الأسرارُ "حُقُوقِيًّا" لا "كنسيًّا". هكذا يُقلّلون من شأنِ النُّسْكِ ويحوِّلونَه إلى مُمارساتٍ دينيّةٍ وأخلاقيّةٍ. لن يستطيعَ المُجاهدُ المَسيحيُّ أن يلقى خبرَةً روحيَّةً من النِّعمةِ غيرِ المَخْلُوقَةِ. لن يُعايِنَ النُّورَ غيرَ المَخلوق، نورَ"جبلِ ثابورَ". وبالتَّالي يبقى مِنْ دونِ تعزيةٍ، أو عِشْقٍ للنُّورِ الإِلهيِّ، حسبَ قولِ القدِّيسِ غريغوريوسَ پالاماسَ. لا يشاركُ في مجدِ الثَّالوثِ القُدُّوسِ، ولا لمعانِه ولا ملكوتِه. وهكذا، فَعِلمُ اللاَّهوتِ منْ دونِ خبرةِ النُّور غيرِ المَخْلوقِ، يصيرُ منهجًا سكولاستِيْكِيًّا-عقلانِيًّا. وفي النَّتيجةِ، يَظَلُّ الإنسانُ مُنغلِقًا في سجنِهِ المُعتِمِ، سجنِ العالَمِ الحَاضِرِ؛ مِنْ دونَ انفتاحٍ أو تذوُّقٍ مُسبَقٍ للمَلكوتِ العتيدِ.
ثبَّتت كنيستُنا المقدَّسةُ، عبرَ مجامِعِها الكُبرى في القرنِ الرابعَ عشرَ، التعليمَ بشأنِ تميِّيزِ جوهَرِ اللهِ عن قِواهُ غيرِ المَخْلُوقَةِ، وتمييزِ قواه غيرِ المَخْلُوقَةِ عن النُّورِ غيرِ المَخْلُوقِ، وأَبرَمَتْ، في لاهوتها،"النُّورَ غيرَ المَخْلُوقِ" عقيدَةً. وأعلنت أنّ القدِّيس غريغوريوس پَالاماس هو "معلِّمُ الكنيسة" الثّابتُ والمستقيمُ الرَّأْيِ والكوكبُ المُنيرُ الكنيسةَ. فَفَرَزَتْ جميعَ مَن لا يقبَلون هذا التَّعليمَ. لم يقبلِ الباباويُّون حتَّى اليَوم هذا التَّعليمَ، والكثيرونَ مِنهم يحارِبُون القدِّيسَ غريغوريوسَ پَالاماسَ.
هذا الفَرْقُ الرَّئيسُ، لَمْ تتمَّ حتّى الآنَ مناقَشَتُهُ في الحوارِ اللاَّهُوتيِّ. والأجْدَرُ أن يُناقَشَ لأنَّهُ، إِنْ حصلَ اتِّحادٌ ما بينَ الكَنِيْسَتَيْنِ، أَيَجُوزُ أنْ نُؤمِنَ نحنُ بالنِّعْمَةِ غيرِ المَخْلُوقَةِ وأَنْ يؤمنوا هُمْ بأنّها مخلوقةٌ؟ فلنتذَّكر، على هذا الصَّعيدِ، قَولَ القدِّيسِ غريغوريوسَ اللاهوتيِّ في دحضِ محاربِيْ الرُّوحِ: «لو إنَّ الرُّوح القُدُس ليسَ إلهًا (كما تزعمون) فليُصبِح هو نفسه إلهًا أوَّلاً، ومِن ثُمَّ فلِيجعلني أتألَّه، أنا المعادل في الكرامة».
إنَّ إيمانَ الكنيسةِ الأرثوذكسيَّة لا يتَزعزعُ، في أنَّ النِّعمَةَ هي من قوى اللهِ، المثلَّثِ الأقانيمِ، غيرِ المخلوقَةِ والإلهيَّةِ. يرى النِّعمَةَ الكامِلُونَ والقدِّيسُونَ، سِرِّيًّا وبطريقةٍ لا تُفَسَّرُ، كمعاينَتِهم النُّورَ غيرَ المَخلُوقِ، نورَ ثابورَ. هذه هي خبرة الكنيسة، كما عاشَها القدِّيسُونَ عبرَ العُصُورِ.
هذا بالإِضافةِ إلى خُبُرَاتٍ عايَشَها كِبارُ الشُّيُوخِ القِدِّيْسِيْنِ الأُرثوذكسيِّيْنَ المُعاصِرِيْنَ، نذكُرُ منهم: الشيخَيْن صفرونيوس وباييسيوس، اللَّذَيْنِ بَرْهَنَا عن حقيقة الكلمة. أمَّا الشيخ صفرونيوس المغبوط الذكر، كان شيخًا آثوسيًّا، ومُؤسِّسَ ديرٍ في انكلترا للسَّابقِ المجيدِ يوحنّا المعمدان. فقدْ عبَّر في كُتُبِهِ المُهمَّةِ، عن خبرةِ معاينَةِ النُّورِ غيرِ المخْلُوقِ، بِدَافِع ِالمَحَبَّةِ.
(يتبع...)