سرّ صمت الله

حديثٌ عن الألم (2/3)

سرّ صمت الله

حديثٌ عن الألم (الجزء الثاني)

للأب خرالمبوس بابادوبولوس

 

نحن أناس مذعورون وضعفاء، عائشين في عدم اليقين والخوف. وإن سألت الناس، لن يقول أحدٌ منهم: «أريد أن أشعر بالألم!»

لا أحد يريد أن يختبر الألم. هذا موقف طبيعيّ، ومنطقيّ، ولكنّه، في الوقت عينه، غير ناضج روحيًّا. وإذا أراد أحدٌ ما تغييرًا روحيًّا في حياته، فعليه أن يكون واقعيًّا، كما كان آباء الكنيسة. لقد كانوا واقعيّين، لا سارِحين في خَيالِهم. علينا أن نفهم أنّنا نطرح السؤال الخطأ.

نحن نسأل: «هل أريد أن أشعر بالألم أم لا؟»

لا يتعلّق الأمر بما إذا كنتُ أريد ذلك أم لا، وسواء كنتُ أحبُّ ذلك أم لا، بل يتعلّق الأمر بأنّني سأختَبر الألم. لا توجد حياة من دون ألم. الحياة من دون ألم هي حياة خطيرة على المجتمع. يشعر الجسد بالألم فيُعلِمُكَ بالتالي أنه يوجد خطب ما. تشعر نفسُكَ بالألم وتقول لك: «توقّف! لقد تجاوزتَ الحدّ، تجاوزتَ الحدّ الذي يمكنك تحمّله».

ما هو الحزن؟ ما هو التوتّر وكلّ ما يتعلّق به؟ الألم «يدقّ» الجرس؛ أي يأتي ليُعلِمَكَ، ليخبركَ: «احذر، هناك خطب ما فيك».

الإنسان الذي لا يشعر بالألم هو خطير لأنّه قد يرتكب أفعالًا شريرة. نشعر بالألم، ولكننا نشعر أيضًا بالرغبة في الانتقام والكراهية. تخيّلوا ماذا سيحدث لو لم يكن هناك ألم. إنّ الألم عنصر بنيويّ، وسوف نختبره.

ولكن السؤال أيضًا ليس ما إذا كنّا سنشعر بالألم أم لا، بل لماذا يستحقّ الأمر أن نختبر الألم. ليس السؤال ما إذا كنتُ سأختبر الألم أم لا – فهذا أمرٌ مفروغٌ منه - بل ما الذي يستحق أن نختبر الألم من أجله. من أجل ماذا سنتحمّل الألم؟ لماذا تحمّل القدّيسون كلّ التنكيل والعذابات والاضطهادات؟ بالضبط لأنّهم أجابوا على هذا السؤال الأساسي: "من أجل مَن سأتحمّل الألم؟" واختاروا الألم من أجل محبّة المسيح. لقد بذلوا كلّ شيء من أجل محبّة الله؛ وكانوا مستعدّين للألم من أجل هذه المحبّة. كانوا يدركون أنّ الألمَ جزءٌ لا يتجزّأ من الحياة، لذا واجهوه بلا خوف. لذلك، من المهمّ جدًّا لنا أن نفهم بِوَعيٍ: ما هي هذه القيمة؟ مَن هو هذا الشخص؟ ما المعنى الذي نضعه في حياتنا؟ ولماذا يوجد معنى في الألم؟

مَن صَبَرَ في السجون؟ مَن نجا في معسكرات الاعتقال؟ مَن صبر أثناء المعاناة والاضطهاد والإبادة الجَماعيّة والمجاعة؟ أولئك الذين كان لديهم هدف. وفقًا لدراسات عديدة، يتعافى الناس في المستشفيات بسرعة أكبر إذا آمنوا بهدف أسمى في حياتهم. أولئك الذين لديهم معنى وقِيَم يعيشون من أجلها... من المهمّ لنا أن نفهم لماذا نُصلَب في حياتنا.

عندما لا تخاطرون، عندما تشعرون بالخوف، عندما تشعرون بالخوف وعدم اليقين وتريدون أن تحسبوا وتحدّدوا وتتحكّموا في كلّ شيء، فأنتم لا تعيشون في الواقع. تصبحون أشخاصًا عَصَبِيّين وجبناء. تذكّروا مثل الوزنات. الرجل الذي أخفى وزنته، الذي أخفى موهبته، اختبأ من الحياة - كان يخشى أن يعيش. ماذا نفعل؟ نحن نخاف من العيش. نحن خائفون من أن نكون. نحن خائفون من كلّ شيء. وبالتالي، نحن لا نعيش، نحن غير موجودون. هذا الخوف من عدم فقدان أي شيء لن يمنحَك حياة سلاميّة في النهاية. سيكون لديك دائمًا خوف من الشعور بالألم، والخوف من وجود صعوبات. والمشكلة الكبيرة هي أنّنا نربي أطفالنا بنفس الطريقة. نظنّ أنّ أهمَّ شيء هو العناية الزائدة حتّى لا يشعروا أبدًا بالألم ولا يحتاجون إلى أي شيء. ولكن إذا لم يشعر الإنسان بنقصٍ ما، إذا لم يشعر بالألم، فلن يتمكّن من أن يتعلّم تحمّل الألم والصعوبات والتجارب. نحن آباء نعمل كفرقة إنقاذ. نسارع باستمرار لمساعدة أطفالنا، وبمجرَّد أن نرى أنّ شيئًا لا يسير على ما يُرام بالنسبة لهم، "نطير" نحو حياتهم. كلّ هذا كي لا يشعر طفلنا بالألم، كي يحصل على كلّ شيء، كي يحصل على كلّ شيء جاهزًا. إنّه لَأمرٌ مخيف.

تذكّروا ما حدث للشاب في سينتاغما1. لا أعرف ما إذا كنتم قد سمعتم عن هذا. كانت هناك اشتباكات في ميدان سينتاغما. اشتبك الفوضويّون (Anarchists) مع الشرطة، وألقوا زجاجات المولوتوف. ورأت إحدى الأمّهات من ضواحي أثينا ابنَها في الحشد. ماذا تظنّون أنها فعلت؟ غادرت منزلها وذهبت إلى سينتاغما لإحضار معطف له، لأنّها رأت أنّ ابنها، الذي كان يرمي الحجارة وزجاجات المولوتوف، لم يكن يرتدي معطفًا. لم يزعجها أنّه كان يرمي الحجارة وزجاجات المولوتوف - كانت قلقة من أن يمرض ابنُها! يمكنكم قراءة هذه القصة على الإنترنت.

رُبَّ رجلٍ في الثلاثين، والأربعين، والخمسين... بل في السِّتّين من عُمرِه... تسأله: «لماذا أنت دائمًا كئيب؟»

فيجيب: «إنّه خطأ أمي! خطأ أبي! خطأ والديّ!!»

حسنًا، لكنّك راشِدٌ الآن! أنت في السِّتّين من عمرِكَ، وما زلت تلوم أمَّكَ وأباك؟!

الناس لا يلاحظون هذه المتلازِمة، لكنها موجودة. لا يمكنكم التخلُّص منها.

ذهبتُ مرّةً إلى قرية جبليّة في جزيرة كريت لسماع الاعترافات. الظروف صعبة في قرى الجبال في جزيرة كريت. أثناء الاعتراف، فُتِح الباب ودخل رجل كريتيّ طوله ستّة أقدام ونصف، بشارب ضخم، وبِقَميصٍ مفتوح الأزرار، وهو يرتدي حذاءً ضخمًا، وسلاسل. كان طوله أكثر من ستة أقدام، وأنا قصير القامة. قلتُ لنفسي: «هذا كلّ شيء، لقد انتهيت. سيقتلني.» لا يوجد سوى الجبال من حولنا؛ ولا يوجد الكثير من الناس في القرية. أه، ماذا سيحدث؟!

فسألته: «هل أتيتَ للاعتراف؟»

«نعم»

ففكرتُ في نفسي: «هناك شيء غريب!»

«تفضل!»

جلس، فسألتُه: «هل هناك شيء ترغب بالاعتراف به؟»

«كلا!»

«كلا؟»

«كلا!»

«لماذا جئتَ إذًا؟»

«والدتي طلبت مِنّي القُدوم!»

«والدتُكَ طلبت منك أن تأتي لرؤيتي؟»

أجاب: «نعم»،

استجمعتُ شجاعَتي على الفور.

«كم عمرُكَ؟»

«خمسة وأربعون.»

«وأمُّكَ قالت لكَ أن تأتي إلى هنا للاعتراف؟»

«نعم.»

«فهمتُ. احنِ رأسَك، وسأقرأ عليك صلاةَ الحلّ!»

لا يستطيع الإنسان أن ينمو بهذه الطّريقة، ولا أن يأخذ حياته على محمل الجدّ. لذا هو يعذّب نفسه والآخرين.

لذا، الشيء المهمّ ليس ما إذا كنا سنواجه مشاكل. سنواجه المشاكل. دعونا نزيل من خيالنا فكرةَ وجود الزواج المثالي في مكانٍ ما، وشريك الحياة المثالي، والأطفال المثاليّين. قد تقول عن كريت: «كريت هي الجنّة!»

في كريت نقول: «كاتِريني2 هي الجنة!»

في العالم يقولون: «كلّ شيء مثالي في جبل آثوس!»

في جبل آثوس يقولون: «يمكنك أن تعيش الجهاد النُّسكي في العالم أيضًا».

ذات مرّة ذهبت مع بعض الأصدقاء إلى دير، وقلنا للرئيس: «ياروندا، ديرُكَ هو الفردوس!»

فقال لنا: «نعم، ولكن آدم وحواء أخطآ في الفردوس!»

من المهمّ أن نفهم أنّه لا جدوى من البحث عن حياة خالية من المتاعب، لأنّ مثل هذه الحياة غير موجودة. والسؤال هو ما إذا كانت المشاكل التي تواجهونها ستقودكم إلى شيء ما، وما إذا كانت معاناتكم ذات معنى بالنسبة لكم. وهذا ما يَهبُنا حياة روحيّة في المسيح - فهو يفسّر المعاناة، يعطي معنًى للألم البشري، يقود الإنسان إلى المسيح، إلى الله، إلى عُمق ذاتِه، إلى جاره، وما إلى ذلك. إذًا الألم هو فرصة لنمو الإنسان. تخيّلوا فقط: وراء التغييرات الكبيرة والجَذرِيّة التي تحدث في حياتنا، هناك دائمًا ألم؛ وراء الكاريزما هناك صليب؛ وراء الإنجازات هناك تعب بشري؛ وراء النجاح هناك ألف فشل. لكي ينجح عالِمٌ ما ويبتكر مُنتَجًا ما، لِيَصِلَ إلى استنتاج علميّ، فإنّه يواجه مئات الإخفاقات، وييأس، ويعاني من الألم، ويضرب رأسه بالحائط. رُبَّ رياضيٍّ يحقّق النجاحات ويتنازل عن الكثير من أجل الفَوز. هناك دائمًا تجربة مصحوبة بالألم. وبالتالي فإنّ الألم في حياتنا يساعدنا على النمو. إنّه يقودنا إلى مكان ما، ومن المهمّ أن نختار إلى أين نريده أن يقودنا.

الألم هو فرصة لنعيد النظر بِقِيَمِنا، بِغَضِّ النظر عن كيفيّة عيشنا السّابقة. فقط الألم، فقط كارثة ما ستساعدنا للقيام بذلك. وهنا يكمن سرّ صمت الله.

قبل بضعة أيام، أخبرتني امرأة: «لقد كنتُ حزينة ومريضة لفترة طويلة؛ جسدي يؤلمني وليس لديّ رغبة في مغادرة المنزل والتحدّث مع أي شخص».

أبَتْ أن تتعزّى. قالت لي أيضًا: «أصلّي إلى الله ليأتي إلى هنا، إلى هذه الغرفة المغلَقة، ويساعدني!»

قلت لها: «لن يأتي!»

وهو لن يأتي لأنّها في الواقع، تمامًا مثل بقيّتنا، لا تبحث عن الله عندما تواجه بعض الصعوبات. إنّنا نبحث عن عكّاز نتَّكِئ عليه، ولكنّنا لا نبحث عن الله نفسه. إنّ الله لن يأتي لأنّ الرب يريدكم أن تمرّوا بهذه الحالة، كي تغيّروا طريقة تفكيركم، نظرتَكم إلى الحياة، وموقفكم منها. فإذا أتى، فإنّه «سيحطّمكم». لهذا السبب هو صامت. لكن هذا ليس صمتًا، بقدر ما هو جوابه. إنّ صمتَه هو طريقته في الكلام، ليقودَكم إلى مكان ما ويستمرّ في قيادتكم طوال حياتكم. كما يقولون، فإنّ الربّ لا يحضر لكم سمكة، بل يعلّمكم كيف تصطادون. لا يُريد الله أن يُسلَّمكم كلّ شيء على طبق من فضّة؛ يريد أن يعلّمكم، يريد أن يجعلكم ناضجين، أن يقودكم إلى حالة حيث تتعلّمون فن الحياة. نحن بحاجة إلى فهم هذا وإدراكه في سِنّ الرُّشد.

كما قال القديس باييسيوس، لن يعطيكم الربُّ أبدًا ما سبق وأعطاكم إيّاه. تريدون أن يعطيكم الله كأس ماء في حين أنّه سبق وأعطاكم نبعًا كاملاً. اذهبوا وأحضِروا لأنفسكم بعض الماء من النبع. يقول الشيخ إميليانوس إنّ الله قد سبق وأعطانا ما نحن بحاجة إليه. تريدون أن تكونوا سُعَداء، وقد أعطاكم الله الفرصة لتكونوا سُعَداء: تعرّفوا على الناس - عيشوا وكونوا سُعَداء. هذا ما تحدّث عنه القدّيس بورفيريوس: يجب أن نفرح بكلّ شيء – بالبحر، بالجبال، بالسباحة والطعام وبالعلاقات، حتّى يصبح كلّ شيء فرصة للحياة، سببًا للابتهاج، سببًا للتمجيد؛ حتّى تغدو أبسطُ التفاصيل فرصةً للتمجيد. لقد أعطاكم الله كلّ هذه. لهذا يقول القدّيس باييسيوس إنّه إذا لم تجدوا أي ماء في الصحراء، فلن يُريكم الربّ مكان النبع - لا تتوقّعوا ذلك - لن يُريه لكم لحين يرى أنّكم تجاهدون من أجله، تبحثون عنه، تفتّشون عنه، تحاربون من أجله. لن يعطيه لكم على الفور. يريد أن يرى طاقتكم، رغبتكم بالعمل، أن يرى كيف تنبض حياتكم، كيف تعيشون - هذا ما يريده منكم. يريدكم أن تعيشوا، لا أن تكونون مجرّد شبح أو ظل شاحب.

علينا أن نتعلّم كيف نعيش مع الألم الذي اخترناه. هذا يعني أن الفرح والسعادة في حياتنا هو اختيار: أنا أختار أن أكون سعيدًا. لماذا أقول هذا؟ لأنّه إذا كنتم تنتظروا أن يصبح كلّ شيء في حياتكم مِثاليًّا قبل أن تبدأوا في الضحك، فلن تبدأوا بالضحك أبدًا. لا يحدث أن يعيش شخصٌ ما حياةً مثاليّةً من دون أي مشاكل. ما الذي نقوله دائمًا؟ نقول: «كيف يمكن لكلّ شيء أن يكون على ما يُرام يا أبي، إذا كنتُ مريضًا، إذا لم يكن لديّ أي مال، إذا كانت زوجتي صعبة المراس، إذا كان زوجي عنيدًا، إذا كانت لديّ مشاكل مع أطفالي أو في العمل مع زملائي؟" لكن كلمتَي «إذا» و«لماذا» حاضرتان دائمًا في حياتنا. يمكنك دائمًا العثور على «إذا» ،«ربما» أو «لأن»، هذه الكلمات تدمّر الفرح في حياتكم؛ ستمرّ حياتكم بأكملها ولن تكونوا سُعَداء أبدًا ولن تستمتعوا أبدًا بِمتع الحياة.

علينا أن نتبع مسار حياتنا، ولو أن حياتنا ليست دائمًا مثاليّة. دعونا لا نقف فقط في انتظار أن يكون كلُّ شيء مثاليًّا في مسار حياتنا، لأنّنا حاليًّا نسير على هذه الطريق. نريد التحكّم في كلّ شيء وترتيبه، نريد الحصول على إجابات جاهزة لأسئلتنا، ثم العيش والاستمتاع. لكن هذا لن يحدث أبدًا؛ ستمرّ حياتنا بأكملها، ستضيع أفضل لحظات حياتنا، سندمّر حياتنا. ستصبح حياتنا وروتيننا اليومي مقبرة ضخمة للحظات الضائعة، والأيام الضائعة التي أعطانا إيّاها الرب لنعيشها ونكون في علاقة معه ومع أنفسنا ومع الناس، ونحن نبحث عن كمال خياليّ لا وجود له. الجمال مختبئ في الأمور الصغيرة، والتي، بنعمة الله، ستصبح كبيرة؛ الجمال مختبئ في الأمور البسيطة، في الحياة اليومية – هناك يكمن الجوهر.

 

المرجع:

https://orthochristian.com/160772.html

 

1. يقع ميدان سينتاغما (Πλατεία Συντάγματος) في وسط مدينة أثينا في اليونان، وقد شهد العديد من التظاهرات وأعمال الشغب خاصة خلال الأزمة الإقتصاديّة في اليونان سنة 2015. (المترجم)

2. كاتِريني (Katerini) هي مدينة ساحليّة في شمال اليونان. (المترجم)