أربعٌ وعشرون علامةً تدلّ على الكبرياء، وكيفيّة اكتساب التّواضع

أربعٌ وعشرون علامةً تدلّ على الكبرياء، وكيفيّة اكتساب التّواضع1.

الأب إيمانويل هاتزيداكيس2.

نقله إلى العربيّة: فريق القدّيس غريغوريوس بالاماس.

 

اليومَ، نرى الرّبَّ يذهبُ طَوعًا إلى آلامِه، وهو رَاكِبٌ، بِتواضعٍ، عَلَى أتانٍ وضيعةٍ. إذن، الفرصةُ مُتاحَةٌ لنا للتّأمّلِ في فضيلةِ التّواضعِ، وفي هوى الكبرياءِ. ولكن فَلْنَتأمّل أوّلًا، ولِبُرهَةٍ، في الحدثِ الّذي نحتفلُ به اليوم.

يدخلُ الرّبُّ إلى أورشليم قبل عيدِ الفصح بِخمسة أيّامٍ، مُظهِرًا نفسَه، بِشكلٍ ملحوظٍ، أنّه المَسِيّا، بِتَحقيقه للنّبوءة الموجودة في سفر زكريّا (كما وردَت في إنجيل يوحنّا):

 «لَا تَخَافِي يَا ٱبْنَةَ صِهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ» (يوحنّا 12 : 15).

وتُظهِرُ تراتيلُ الكنيسةِ دخولَ الرّبِّ المتواضعَ:

«إنّ كلمةَ الله الآب الّذي هو الابن المُساوي لهُ في الأزليّة الّذي السّماءُ كرسيُّه والأرضُ موطئ قدمَيه اليوم تواضعَ آتيًا إلى بيت عنيا على جحش عديم النّطق...»3.

وتعكسُ ترنيمةٌ أخرى أيضًا ظهورَ الرّبِّ المتواضعَ:

«[...] ها ملككِ يوافي إليكِ وديعًا ومُخلِّصًا وراكبًا على جحش حمارة ابن أتان...»4.

يكتبُ أحدُ آباءِ الكنيسةِ:

«كان ربُّنا يسوع المسيح مُلتحفًا بِزِيّ التّواضعِ طوال فترة حياتهِ بِالجسد، مُريدًا أن يُرينا طريقَ الحياةِ الأبديّةِ والقداسةِ. وعليه، لا بدّ حقًّا مِن أن يُسمّى التّواضعُ المقدّسُ فضيلةً إلهيّةً» (القدّيس فيلوثاوس السّينائيّ5).

في الحقيقةِ، يقولُ الرّبُّ، بدعوةٍ منه لأن نتشبَّه به: «تَعَلَّمُوا مِنِّي، لِأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ» (متّى 11 : 29). وأعطانا أيضًا هذه القاعدة: «مَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ» (متّى 23 : 12). لِنَتَّضِعْ إذن، لأنّه ما لم نُجاهِد لِنتواضَعَ، فَسَيُشيح يسوعُ المسيح بِوجهه عنّا، الّذي «يُقَاوِمُ ٱللهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (يعقوب 4 : 6).

 

الكبرياءُ

إنّ الكبرياءَ هي هوىً لا يُدرِكُهُ الإنسانُ الّذي يُعانيه، لذلك فهو لن يُقِرَّ بأنّه متكبِّرٌ. يكتبُ القدّيسُ تيخون الزّادونسكيّ6: «الكبرياءُ هي خطيئةٌ مَقيتةٌ، بَيد أنّه بِالكاد يتَبَيّنُها أيُّ شخصٍ لأنّها مَخفيّةٌ في أعماقِ القلبِ». تتولّدُ الكبرياءُ من نقصِ معرفتِنا لِذواتِنا، ومَن نكونُ، ولِمكانتِنا ومَنزِلتِنا الفِعليّتَين، خاصّةً إزاء الله. يكتبُ القدّيسُ تيخون مرّةً أخرى: «إنّ عدم معرفةِ الذّات هو بدايةُ الكبرياء. يُعمي هذا الجهلُ الإنسانَ، فَيَمتلئ من الكبرياء»7.

إذن، واضحٌ أنّه مِن الصّعبِ جدًّا أن نتحرّرَ من هذا الهوى، وعلى أيّ حالٍ، أن نعملَ على استئصالِه من قلوبِنا، لأنّنا غيرُ مُدرِكين، في الأساسِ، أنّه موجودٌ فينا. كيفَ يُمكننا الذّهابُ إلى الطّبيبِ، والشّفاءُ من المرضِ الّذي نُعانيه، عندما لا نكونُ مُدرِكين أنّنا مُصابون بِالمرض. يعرضُ لنا القدّيسُ تيخون إشاراتٍ معيّنةً، أو علاماتٍ، تُمكِّنُنا من تفحّصِ ذواتِنا إذا ظهرَت علينا هذه العوارضُ. وإذا ظهرَت، فإنّنا نعلمُ عندئذٍ أنّنا مُصابون بِالمرض. فَلْنَتَفَكَّر إذن، بِانتباهٍ شديدٍ، في هذه العلامات:

«تُعرَفُ الكبرياءُ مِن أعمالِها كما تُعرَفُ الشّجرةُ مِن ثمرِها. لكن، لِنَرَ ما تكونُ هي ثمارُ بِزرَة الكبرياءِ المُرَّة، وسنعرضُ هنا بعضًا منها فقط، مع تعليقٍ موجزٍ:

1. يسعى الإنسانُ المتكبّرُ، بِكلّ الوسائل، إلى الإكرامِ، والمجدِ، والمديحِ. إنّه يرغبُ دائمًا في أن يَظهَرَ كإنسانٍ ذي شأنٍ، وأن يوجِّه الآخرين، ويأمُرَهم، ويسيطرَ عليهم. لكنّه يغضبُ بِشدّةٍ، ويغتاظُ مِن كلِّ مَن قد يُعيقُ رغبتَه. تتغذّى النّفسُ البائسةُ الّتي للإنسانِ المتكبّرِ مِن الإكرامِ، والمجدِ، والمديحِ، وتتوقُ بِنَهَمٍ إلى هذه الأمور. كان الفرّيسيّون يرغبون في المتّكآت الأولى، أماكِنَ الشّرّف، وكانوا يطالِبون بها. لهذا السّبب، يحبُّ الإنسانُ المتكبّرُ القوّةَ والسّلطةَ. وإن لم يَحصُل على ما يُريد، يَمتعِض، ويُضمِر الحقدَ والضّغينةَ.

2. إنّه يتذمّرُ، ويستاءُ، ويلعنُ، عندما يُحرَمُ من الإكرامِ والقيادةِ. «ما الخطأ الّذي ارتكبتُه؟ لِمَ أنا مُخطِئٌ؟ هل هذا ما تستحقُّه أعمالي وخِدمتي؟» [...]

3. إنّه يُصِرُّ على التّدخُّلِ في شؤون الآخرين. ويرغبُ في أن يوجِّه جميعَ النّاس في كلّ مكانٍ، على الرّغم من أنّه، هو نفسه، لا يدري ما الّذي يفعلُه، فقد أعمَتُه الكبرياءُ إلى حَدٍّ كَبيرٍ.

4. إنّه يفتخرُ بِنفسه بِوقاحةٍ، ويرفعُ نفسَه. «لقد فعلتُ كذا وكذا. لقد قدّمتُ خدمةَ كذا وكذا للمجتمع». يا أيّها الإنسان، أنتَ تعدِّدُ خَدَماتِك، لكن لماذا لا تذكرُ عُيوبَك؟ فيما يكونُ مِن المُخجِل، بِالنّسبة إليك، أن تُجاهِرَ بهذه العيوب، ينبغي لك أن تخجلَ أيضًا من مَدحِ نفسِك.

5. إنّه يَحتقِرُ الآخرين ويُذلِّهم. «إنّه رجلٌ دَنيءٌ، وعديمُ الفائدةِ»، وما إلى ذلك. يا أيّها الإنسان، إنّه إنسانٌ مثلك تمامًا، لأنّنا جميعًا بشرٌ. نعم، هو خاطئٌ، لكنّني أظنّ أنّه لا يمكنكُ أن تنكرَ أنّك أنتَ خاطئ أيضًا. لقد عَصى في أمرٍ ما، أو هو خاطئ، لكنّك أنتَ أيضًا خاطئ بِطريقة أخرى، أو ربّما بِالطّريقة نفسِها. «إِذِ الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية 3 : 23).

6. إنّه لا يخضعُ للسّلطات، ولا يطيعُها... لا يحني المتكبّرون أعناقَهم البتّة. إنّهم يرغبون دائمًا في تحقيقِ مشيئتِهم وتنفيذِها.

7. إنّه ينسبُ الصّالِحاتِ لذاتِه، ولِجُهودِه، ولِأعمالِه، وليس لله. يا أيّها الإنسان، ما الّذي يمكنكَ أن تملكَه من ذاتِك، يا مَن خرجتَ من بطنِ أمِّك عاريًا؟ ما الذي يمكنكَ الحصولُ عليه إن لم يمنحكَ إيّاه اللهُ، ينبوع كلّ صلاحٍ؟ ما الّذي يمكن أن يحقّقَه جهدُنا وعملُنا من دون معونتِه، هو وحده القادرُ على كلّ شيٍء، والّذي من دونه يكونُ جميعُ النّاس كَعَدَمٍ، كَظِلٍّ من دون جسدٍ؟

8. إنّه يكرهُ اللّومَ والعتابَ كثيرًا. يظنُّ نفسَه نقيًّا طاهرًا، على الرّغم من أنّه دَنِسٌ تمامًا.

9. إنّه عديمُ الصَّبر، ومُستاءٌ، ومتذمّرٌ، وغالبًا ما يلعنُ عندما يكون تَعيسًا، ومُزدَرى به، وعندما يكون في مُصيبةٍ أو كارثةٍ.

10. إنّه يَظهر مُتعجرفًا، ومغرورًا إلى حدٍّ ما... وذلك بِالقَوْلِ والفِعْل.

هذه هي ثمارُ الكبرياء المَمقوتة من اللهِ والإنسانِ. إنّ الثّمارَ الّتي تنتجُها مُرَّةٌ. «إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ ٱللهِ» (لوقا 16 : 15). وعليه، فإنّه مكتوبٌ أيضًا: «لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا 14 : 11)8.

 

سنزيدُ بعضَ العلامات الإضافيّة:

11. إذا تجنّبتَ التّحدُّثَ إلى شخصٍ ما، مُتجاهلًا حتّى وجودَه، فهذه كبرياءٌ.

12. إذا أردتَ أن تستحوذَ على الكلام في أثناء محادثةٍ، وأن تكون لكَ الكلمة الأخيرة دائمًا، فهذه كبرياءٌ.

13. إذا أعرَضتَ عن شخصٍ يُخالِفك الرّأي، فهذه كبرياءٌ.

14. إذا رفعتَ صوتَك لِتوضيح وجهة نظرك، فهذه كبرياءٌ.

15. إذا وجدتَ نفسَك تقومُ بِأمرٍ مُخالِفٍ لِما توصي به الكنيسةُ، فهذه كبرياءٌ.

16. إذا وددتَ أن تُكَرَّمَ، وإذا رغبتَ في أن يُذكَر اسمُك باحترامٍ ووقارٍ من قِبَلِ الآخرين، وإذا أحببتَ أن ترى اسمَك على لوحاتٍ ذهبيّةٍ، وإذا أردتَ تُعرَفَ بِمُساهماتك وإنجازاتِك، فهذه كبرياءٌ.

17. إذا كنتَ تحسدُ الآخرين الّذين يملكون الثّروات، ويتمتّعون بِالتّكريم، ولديهم أتباعٌ ومُعجَبون، فهذه كبرياءٌ.

18. إذا كنتَ ترى أخطاءً عند الآخرين، ناهيكَ عن أنّك تنتقدُهم بسبب عيوبِهم، وتتحدّثُ عنهم من وراء ظهورِهم، فهذه كبرياءٌ.

19. إذا كان قلبُك قاسيًا وباردًا، ولا تحبُّ الفقراءَ والجهلاءَ والمتألّمين، ولا تتعاطفُ معهم، فهذه كبرياءٌ.

20. إذا كنتَ تُضمِرُ الكرهَ والحقدَ والسّخطَ لأنّ أحدَهم أساءَ إليك، وألحقَ الأذى بكَ، وافتَرى عليكَ، فهذه كبرياءٌ.

21. إذا ابتعدتَ منزعجًا مضطربًا من محادثةٍ مع أحد الأشخاص، فهذه كبرياءٌ.

22. إذا انزعجتَ واضطربتَ ممّا يحدثُ في حياتك، وكان ذهنُك قلقًا مرتبكًا، والقلقُ لا يسمحُ لك أن تجد السّلام، ووجدتَ أنّك لا تستطيعُ أن تصلّي، فهذا بسبب الكبرياء.

23. يتطلّب الذّهابُ إلى الاعترافِ تواضعًا. ولكن، إذا وجدتَ أنّه ليس لديك ما تعترفُ به، فهذه كبرياءٌ.

24. إذا كنتَ تبرّر ذاتَك قدّام الله، وإذا كنتَ تستعرضُ أعمالَك الصّالحةَ في ذهنك وتتباهى بها، فهذه كبرياءٌ.

ما المشكلة في أن تكون متكبّرًا؟ تعزلُ الكبرياءُ النّاسَ عن بعضهم. إنّها مُعادِيةٌ للمجتمع. فهي تضعُ الأنا، وليس الله، في وسط كلّ شيء. يظنُّ الإنسانُ المتكبّرُ أنّ العالم يدورُ حوله. يظنُّ نفسَه أساسيًّا جدًّا، لدرجة أنّ العالم سينهارُ إذا ما تنحّى جانبًا. مَن يريدُ أن يكونَ بِقرب إنسانٍ كهذا؟ إنّه يعرفُ كلَّ شيء. لا يطلبُ المتكبّرُ مشورةً، ولا نصيحةَ أحدٍ، لأنّ كلّ ما يقوم به مثاليٌّ. في الواقع، إنّه يستاءُ ويشعرُ بالإهانة إذا قُدِّمَت إليه النّصيحةُ. لا يُقدِّمُ الإنسانُ المتكبّرُ أيَّ نصيحةٍ لأنّه أنانيٌّ، فهو غالبًا يُصدِر الأوامر؛ هو لا يعرفُ كيف يُعطي، فهو يتلقّى فحسب، أو بِالأحرى يطلبُ؛ هو لا يعرفُ المحبّة، الّتي هي بذل الذّات، من دون مقابل، من أجل الآخرين، لأنّه يقطع علاقاتِه مع جميع النّاس؛ هو يريدُ الانتقامَ من الأخطاء الّتي ارتُكِبَت بِحَقِّه؛ فهو لا يعرفُ المغفرةَ ولا الرّحمةَ؛ هو مستاءٌ، ويُضمِر الضّغينة مدى الحياة، ويأخذُها معه إلى القبر. تُكَوِّنُ الكبرياءُ التّلالَ والجبالَ، لكن فَلْنَتَذَكَّر أنّ «كُلّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ» (إشعياء 40 : 4).
 

التّواضعُ

لِنُحَوِّلِ انتباهَنا الآن إلى الفضيلةِ المعاكسةِ للكبرياء، وهي التّواضع. إنّ التّواضعَ هو الفضيلةُ الّتي تُميّز الأشخاصَ البُسَطاء والوديعين. بطريقةٍ أو بأخرى، لا نظنّ أنّ التّواضعَ لائقٌ بِالأشخاص الّذين في السّلطة. من الممكن أن ندعو هؤلاء النّاس رَؤوفين بِالآخرين، ومُنفتِحين، ومُتعطِّفين عليهم، وواقعيّين، وما إلى ذلك... لكنّهم ليسوا متواضعين. ومِن المُثير للاهتمام أنّ أصل كلمة humble الإنجليزيّة – أي متواضع – يعودُ إلى الكلمة اللّاتينية humilis، وهي مشابهةٌ لكلمةٍ لاتينيّة أخرى هي humus، والّتي تعني التّربة، والأرض. لذا فإنّ عبارة down to earth  الإنجليزيّة – الّتي تُتَرجَم حرفيًّا مُنخفِض إلى الأرض، وهي تعني متواضع – قريبةٌ في المعنى من الكلمة الّتي تشتقُّ منها.

إنّنا ندعو متواضعًا الإنسانَ البَسيط، والوَديع، والمُترفِّق، والحَليم، والصَّبور، والّذي لا يغضبُ أو يغتاظُ بِسهولةٍ، والّذي يُدرِكُ عُيوبَه وعِلَلَه، وغير المُدَّعي، والّذي تنعدمُ لديه الكبرياءُ، والتّبجّحُ، والغرورُ، والادّعاء.

يقولُ القدّيسُ تيخون ما يلي عنِ التّواضع:

«إنّ الفضيلةَ المعاكسةَ للكبرياءِ هي التّواضعُ. ولكن بقدر ما هي الكبرياءُ بَغيضةٌ ومَقيتةٌ، فإنّ التّواضعَ مُستحَبٌّ ومُستَحسنٌ عند اللهِ والنّاسِ. إنّ اللهَ العظيمَ والعليَّ لا ينظرُ بِعَينِ الرِّضا والاستحسانِ إلى شيءٍ، كَمثل نظرتِه إلى القلبِ المتخشّعِ المتواضعِ. وعليه، فإنّه، حتّى والدة الإله الفائقة القداسة، قالَت عن نفسِها: لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ (لوقا 1 : 48)»9.

قد تسألون الآن: كيف سأكتسبُ فضيلةَ التّواضع؟ يجيب القدّيسُ هكذا:

«عندما تنسحبُ الكبرياءُ من الإنسان، يبدأ التّواضعُ في السُّكنى فيه، وكلّما تضاءلتِ الكبرياءُ، كلّما زادَ التّواضعُ. فالواحدةُ تُفسِحُ المجالَ للآخر، بما أنّه نَقيضُها. ترحلُ الظّلمةُ، ويظهرُ النّورُ. إنّ الكبرياءَ ظلمةٌ، لكنّ التّواضعَ نورٌ»10.

بَيد أنّنا نظنُّ أنّنا ذوو شأنٍ، وأنّنا أنجَزنا بعضَ الأمور، وأنّنا صنَعنا لِأنفسنا اسمًا، وأنّنا عملنا بِجَدٍّ حتّى وصلنا إلى ما نحن عليه. فلماذا لا نُعرَفُ بِإنجازاتنا؟ يتابعُ القدّيسُ:

«عندما نفحصُ ذواتَنا، ونُدرك مُصيبتَنا وبؤسَنا، فهذا سيكونُ سببًا كافيًا لنتواضعَ. لقد وُلِدنا عراةً، ونحن نبكي. ونعيشُ في البؤسِ والمصائبِ والخطايا. ونموتُ بِالخوف والمرضِ والتّنهّدِ. ونُدفَنُ في الأرضِ ونعود إليها. وهناك، ليس جليًّا أين يرقدُ الإنسانُ الغنيُّ، وأين الفقيرُ؛ أين يرقدُ النّبيلُ، وأين البائسُ؛ أين يرقدُ السّيّدُ، وأين الخادمُ؛ أين يرقدُ الحكيمُ، وأين الجاهلُ. هناك كلُّهم متساوون، لأنّ جميعَهم يعودون إلى الأرض. لماذا إذن يغترُّ كلٌّ من الأرضِ والفسادِ بِنفسه؟»11

لكن، لِمَ الاتّضاعُ؟ لأنّنا نريدُ أن نتشبّهَ بِالمسيح. يكتبُ القدّيسُ:

«أيّها المسيحيّون الأحبّاء، فَلْنَتَبَيَّن شقاءَنا وبؤسَنا. فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ ٱللهِ ٱلْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ (1 بطرس 5: 6). فَلْنُدرِك أيّها الأحبّاء، أنّنا نحن المسيحييّن، ننتمي إلى للمسيحِ الوديعِ والمتواضعِ القلب. إنّه لَمِنَ المُخزي أن يتكبّرَ الخدّامُ عندما يكون سيّدُهم متواضعًا. ما من أمرٍ ممقوتٍ عند المسيحيّين وغيرِ لائقٍ منهم مثل الكبرياء، وما من أمرٍ يُثبت أنّ الإنسانَ مسيحيٌّ بقدر ما يفعلُ التّواضع»12.

وليس مستغرَبًا أنّه، إذا كان التّواضعُ يجعلُنا نتشبّه بالمسيحِ الوديعِ والمتواضعِ القلبِ، فإنّ الكبرياء، بِالمقابل، تجعلنا على صورةِ الشّيطان ومثالِه، الشّيطانِ المُتَصَلِّف، الّتي أدَّتْ كبرياؤه إلى سقوطِه (راجع إشعياء 14 : 12 - 15). ويُنهي القدّيسُ هذا الفصلَ عن الكبرياء كالآتي:

«يُعرف الإنسانُ أنّه تلميذٌ حقيقيٌّ لِيسوعَ الوديعِ والمتواضعِ القلب مِن التّواضع. إذا أردنا أن نُثبِتَ أنّنا مسيحيّون حقيقيّون، فَلْنَتَعَلَّمْ من المسيحِ أن نكون متواضعين كما يوصينا هو نفسُه: تَعَلَّمُوا مِنِّي، لِأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ (متّى 11 : 29). لِنَحفُرْ في عمقِ ذاكرتِنا قولَ الرّسولِ الّذي شرحناه: ٱللهَ يُقَاوِمُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً (1 بطرس 5 : 5)»13.

آمين.

 

1. يردُ في هذا النّصّ عدّة مقتطفاتٍ من كتاب «مسيرةٌ إلى السّماء» (Journey to Heaven ) للقدّيس تيخون الزّادونسكيّ (الفصل 7، «الكبرياء»، ص. 73- 76).

2. ألقى الأب إيمانويل هاتزيداكيس هذه العظة في أحد الشّعانين عام 1998.

3. الإيذيوميلا الثّانية من صلاة غروب أحد الشّعانين.

4. الإيذيوميلا الثّالثة من صلاة غروب أحد الشّعانين.

5. «أربعون نصًّا عنِ اليقظة» Forty Texts on Watchfulness ، الفيلوكاليا، المجلّد الثّالث، ص. 20.

6. مسيرةٌ إلى السّماء (Journey to Heaven)، القدّيس تيخون الزّادونسكيّ، ص. 73، دير الثّالوث القدّوس، جوردانفيل، 1994.

7. المرجع نفسه ص. 73.

8. المرجع نفسه ص. 73 - 75.

9. المرجع نفسه ص. 75.

10. المرجع نفسه ص. 75.

11. المرجع نفسه ص. 75.

12. المرجع نفسه ص. 75 - 76.

13. المرجع نفسه ص. 76.