العدالة الإلهيّة حسب القديس ديونيسيوس الأريوباغي

العدالة الإلهيّة حسب القديس ديونيسيوس الأريوباغي

للمتروبوليت ايروثاوس فلاخوس مطران نافباكتوس

نقلته إلى العربية: لَميا ناصيف

 

أُلقِيَ هذا الخطاب في ٣ تشرين الأول ٢٠٢٢ في قاعة مجلس الشيوخ بالبرلمان القديم في أثينا، بحضور أعضاء نقابة القضاة والمُدَّعين العامّين.

يُقسِم المتروبوليت خطابه إلى ثلاث أقسام. القسم الأول يشير إلى القوانين والعدالة حسب أرسطو وأفلاطون. في القسم الثاني يتناول النظامَ اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ، أمّا في القسم الثالث، فقد تحدّث بشكل خاصّ عن العدالة الإلهيّة عند القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ.

يشير النظام اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ إلى الله كَنورٍ يبعث أشعَّتَه إلى الخليقة، فتنجذب كلُّ الخليقة إلى الله بِطُرُقٍ مختلفة، وهكذا يتمّ التعبير عن العدالة الإلهيّة، حسب مشيئة الله.

ويختم الميتروبوليت الخطاب بأن هناك فرقًا بين العدالة البشريّة والعدالة الإلهيّة، وأنّ القضاة مِمَّن بيننا لا يمكنهم أن يقتربوا بشكل مطلق من العدالة الإلهيّة، بل ينبغي أن نتنقّل بين العدالة البشريّة والعدالة الإلهيّة، أي أن نكون فوق العدالة البشريّة ونسعى إلى العدالة الإلهيّة.

ــــــــــــــــــــــ

أشكركم على تكليفي لمخاطبة هذا الجمع الموقَّر بمناسبة عيد القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ الذي تحتفل به اليونان بِمَجالِها القانونيّ. أنا سعيدٌ شخصيًّا بهذا الموضوع، لأنّ القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ يكتب، مِرارًا وتكرارًا، في النصوص التي تحمل إسمه، أنّ التعليم الذي يَصوغه هو من "معلّمه" القدّيس ايروثاوس، الذي أحمل إسمه، وقد كان القدّيس ايروثاوس معلّمَ القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ بعد الرسول بولس. كان كلٌّ من ديونيسيوس وايروثاوس عضوًا في أريوس باغوس في أثينا.

ولأنّني أحمل اسم القدّيس ايروثاوس، الذي استند القديسُ ديونيسيوس على تعليمه في كلَّ أعماله اللاهوتيّة، فقد درستُ هذه الكتابات الشهيرة بأمانة مرّات عديدة وأدركتُ قيمتها الكبيرة، كما أدرَكَها العديد من الآباء القدّيسين، من القدّيس مكسيموس المعترف إلى القدّيس غريغوريوس بالاماس والقدّيس نيقوديموس الآثوسيّ.

إنّ عنوان موضوعي "العدالة الإلهيّة عند القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ" هو ذو أهمّية كبيرة، وهنا سأشير فقط إلى مواقف إرشاديّة نظراً لضيق الوقت، وسوف أشدّد على أنّه يجب أن نتنقّل بين العدالة البشريّة والعدالة الإلهيّة.

 

١ - القوانين والعدالة بحسب أرسطو وأفلاطون

من الناحية البشريّة، العدالة هي "النظريّة القانونيّة أو الفلسفيّة التي التي يتمّ بموجبها تطبيق القانون"، وهي "إسناد العدالة". فالمسألة هي كيف يتمّ تكوين القانون البشريّ وكيفيّة تفسيره وتطبيقه.

لا ينبغي النظر إلى القانون على أنّه مجرّد انعكاس للاحتياجات الاجتماعيّة لخدمة الناس في اختياراتهم، كما هو الحال في عصرنا هذا، بل بحسب الفلسفة القديمة ينبغي أن يكون تربويًّا، أي لتثقيف الناس، وشفائهم وترويضهم وتقديم معايير الحياة لهم.

يتناول أرسطو، كمعلِّمٍ، في كتابه "الأخلاق النيقوماخية"، مسألةَ العلاقة بين فضيلة المجتمع والقوانين، حيث يناقش أنّ الفضيلة هي الحلّ الوسط بين الإفراط والنقص، وهي لا تأتي بالطبيعة، بل هي نتيجة للأخلاق. ويخلُصُ إلى أنّ الفضيلة هي عمل المعلّم الذي يقوم به المُشَرِّع، والذي يقوم بدور المُرَبّي من خلال القانون. يكتب أرسطو: «من الواضح أنّ الخير العام يتحقّق من خلال القوانين، وهي جيّدة طبعًا إذا تمّ وضعها من خلال قوانين جيّدة - سواء كانت القوانين مكتوبة أو غير مكتوبة، لا يبدو أن هذا مهمّ، كما أنّه لا يبدو مهمًّا ما إذا كانت قوانين سيتمّ من خلالها تعليم شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص». ويتابع قائلًا إنّ القوانين هي أحد أعمال فنّ السياسة، ويختم أرسطو إلى أنّه يريد فحص ما هو أفضل نظام سياسيّ، «وكيف يتمّ تنظيم كلّ منها، وحتّى القوانين والأعراف التي تنطبِّقُ على كلُّ منها».

ومن هذا المنظور، فإنّ العدالة ليست فقط إسناد المساواة بين الناس، بل هي أيضًا تحقيق التوازن بين قوى المجتمع.

دعوني أذكر هنا أنّه بحسب أفلاطون، كما هو مشروح في كتابه "الجمهورية"، إنّ نفس الإنسان تقسم إلى ثلاثة قوى، هي: النفس العاقلة، النفس الغضبيّة، والنفس الشهوانيّة، وتتوافق مع هذه القوى ثلاث فضائل أساسيّة، هي: فضيلة الحكمة، والتي تشير إلى الجزء العاقِل من النفس، فضيلة الشجاعة، والتي تتعلّق بالنفس الغضبيّة، وفضيلة التعقّل التي تنبع من النفس الشهوانيّة.

إنّ النقطة الأساسيّة، بحسب أفلاطون، هي الفضيلة الرابعة ألا وهي العدالة، وهي تحقّق الرّابط والوحدة بين الفضائل الثلاث الأخرى.

إذا اعتقد المرء أنّ الجمهورية، حسب أفلاطون، هي نموّ النفس، فَعَلى المواطنين ممارسة الفضيلة. تشير فضيلة الحكمة إلى الملوك والحكّام، و فضيلة التعقّل تتوافق مع العُمّال، أمّا فضيلة الشجاعة فتتناسب مع الحرّاس والجنود. ولذلك، فضيلة العدالة هي الفضيلة المُوَحِّدة التي تُوازِن بين الفضائل الثلاث الأخرى والطبقات الثلاث الأخرى التي تعيش في الجمهورية. وهذا يدلّ، لا على القيمة التربويّة للقانون فحسب، بل على قُدسِيّة العدالة، التي تعلّم ولا تسمح لكلّ فضيلة أن تعمل أُحادَيًّا، بل بوحدة مع الفضائل الأخرى.

كان القدّيس ديونيسيوس الاريوباغيّ، الذي عاش في أثينا، يعرف هذه الأمور، لكن مسألة العدالة تسمو إلى مركزٍ أعلى. لذا أريد أن أتكلم على العدالة الإلهيّة في النظام اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس الاريوباغيّ. أشير ببساطة أنّه بحسب التقليد الأرثوذكسيّ، لا يمكننا القول بأن تجسّد ابن الله وكلمته قد حدث من أجل التَّكفير عن العدالة الإلهيّة، كما يعلّم اللاهوت السكولاستيكيّ، وبشكل أساسيّ وفقًا لأنسِلم كانتربري(Anselm of Canterbury)، وكما عبّرت عنه المسيحيّة الغربيّة.

وفقًا للتعاليم الآبائيّة الأرثوذكسيّة، يتمّ تعريف العدالة الإلهيّة بأنّها محبّة الله، أي التضحيّة، والتقدِّمة، وإخلاء الذّات، والصليب.

على سبيل المثال، يكتب القدّيس نيكولاس كاباسيلاس: «إنّ أفضل وأسمى أعمال المحبّة التي يقدّمها الله للبشريّة هي الفضيلة الإلهيّة والعدالة». هنا يكمن الفرق بين اللاهوت الغربيّ واللاهوت الأرثوذكسيّ، وقد تمّ تحديده ببساطة، ليقتصر النقاش على القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ، وحتّى على العدالة الإلهيّة. ولكن قبل تحديد ماهيّة العدالة الإلهيّة، لا بدَّ من الإشارة بشكل مختصر إلى النظام اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ.

 

٢. النظام اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس

عندما كان القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ في أثينا، مدينة الفلاسفة، أفلاطون وأرسطو وتلاميذهم، كان يعلَم بالتأكيد أفكارَ أفلاطون والمحرِّك الأساسي لأرسطو. فمثلاً، كان أفلاطون قد جعل بداية لاهوته العقل البشريّ بأفكاره ، وقد نقل هذه الصورة إلى لاهوته، ليقول إن عالم الأفكار موجود في ثَنايا الله، وأن كلَّ العالم هو نسخة عن عالم الأفكار.

بعد أن تقبّل القديسُ ديونيسيوس الأريوباغي تعليمَ الرسول بولس وصار مسيحيًّا، وبعد أن عرف أن الله هو النور الحقيقيّ، انطلق من هذه الحقيقة. فكما ترسل الشمسُ أشعَّتَها إلى العالم بعد أن تمرّ عبر طبقات مختلفة في الغلاف الجوي، كذلك الله هو النور الحقيقي وقِواه تمرُّ تباعاً عبر رِتَب الملائكة والبشر وتصل إلى الخليقة كلّها. ومن هذا المنطلق يتحدّث عن المراتب السماويّة، أي مراتب الملائكة، وعن المراتب الكنسيّة. في كلّ الخليقة، غير المنظورة والمادية، ثمّة وئام حيث أن جميع المخلوقات تتلقّى نور الله، ولكن يتمّ ذلك بشكل هَرَمِيّ، وفقًا لمشاركة كلّ كائن.

يتحدّث القدّيس ديونيسيوس عن السيادة الإلهيّة (Thearchy) التي يعرِّفُها بأنّها أصل التألّه، وأصل التألّه هو الله، أي أنّ الإله الثالوث هو أصل القوّة الإلهيّة، ولكنّه أيضًا أصل انجذاب جميع الكائنات نحوه.

في السيادة الإلهيّة، في الوحدة الثالوثيّة، نرى ديمومةً، هي جوهره، الجوهر الفائق الجوهر، الاحتجاب، ولكنّها أيضًا تَقَدُم الله نحو كلّ الخليقة، أي إنّها قِوى الله، القوة الإلهيّة. إن قوّة الله تُسمّى التَقدُم، والتي تتضاعف في العديد من القوى الأخرى. هناك حديث حتّى عن "أنوار السيادة الإلهيّة".

إلى جانب السيادة الإلهيّة، يتحدّث أيضًا عن الأسماء الإلهيّة. هذه الأسماء تعني أيضًا صفات الله، الأسماء العديدة التي نعطيها لله، مثل الوجود، العشق، الحب، الرغبة، المحبوب، الحكمة، القوة، العدالة، السلام، القداسة، الحاكِم، الألوهيّة، إلخ.

يُصِرُّ القدّيس ديونيسيوس الأريوباغي، في بداية كتابه في الأسماء الإلهيّة، على اثنين من أسماء الله وهما الخير والجمال. وهذا ما أطلق عليه الفلاسفة القدماء "الحُسن والجمال". من هو الإنسان المثالي؟ فهو "الصالح والجميل". لقد تلقّى القدّيس ديونيسيوس الأريوباغي هذه الأسماء من البشرية ونَسَبَها إلى الله. فهي إذن أسماء الله. بالنهاية، وفقًا للاهوت الإيجابيّ (cataphatic theology)، فإنّنا نعطي أسماء لله، ونقول إنّ الله محبّة، وسلام، وعدالة، ومع اللاهوت السلبيّ (apophatic theology) نزيل الأسماء من الله، ونقول إنّ الله غير منظور، وغير مُدرَك، وغير موصوف، وما إلى ذلك.

الصَّلاح هو السَّبَب الوحيد لكلّ شيء، وهو ما يدلّ على نور الله، قوّة الله، النور الذي يتدفّق على كلّ الخليقة. إنّ صلاح الله هو حركة من الله نحو كلّ الخليقة. الله هو عِلّة كلّ شيء، وهو النور.

الجمال بحسب القدّيس ديونيسيوس مرتبط بما هو جميل. ما تخلقه السيادة الإلهيّة هو انعكاس النور، وهذا يُظهِر أنّ هناك وحدة في العالم، ووِحدة الله مع الخليقة، فتتجلّى هذه الوحدة بالنور. الجمال هو عودة الكائنات إلى الله من خلال ما هو جميل.

وهذا يعني أنّ الصَّلاح هو عِلّة كلّ شيء، وهو النور، الاستنارة المنبعِثة من السيادة الالهيّة. ومن ثمّ يرى الإنسان هذه الاستنارة في جمال المخلوقات، فيعود إلى الله بالانجذاب. ويحصل ذلك أيضًا مع الخليقة. إذن، لدينا حركتان. بالصَّلاح يتحرّك الله نحو الخليقة، وبالجمال، تعود الخليقة كلُّها إلى الله بما هو جميل .

يتعلّق هذا بحقيقة أنّ الله هو العُشق والمَعشوق، وكَعِشقٍ يتحرّك نحو الإنسان، وكمَعشوقٍ يجذب نحوه الأشياء القابِلة العشق. لذلك، الله هو العُشق والمَعشوق. ويمكن أن يُعزى العشق إلى مفهوم الصَّلاح، لأنّ الله صالحٌ. يمكننا أن نربط العشق بالجمال، بأنّ الله هو الجمال، لأنّ المخلوقات، عندما ترى الجمال، تعود إلى الله.

وهاتان هما الحركتان، أي حركة الله نحو الخليقة بنوره، وحركة الخليقة نحو الله نفسه. بهاتين الحركتين تكون الوحدة بين الله والخليقة كلِّها. لذلك، الله هو الصَّلاح والجمال، وهذه هي أسماء الله، ومن خلال مشاركة الناس في قوى السِّيادة الإلهيّة يشترك الإنسان بالله ويكتسب معرفته.

وبعد السيادة الالهيّة وأسماء الله، هناك ايضاً التَّراتُبِيّة Hierarchy. إنّ كلمة Hierarchy مشتقّة من hiero وarcho وتشير إلى أصل القداسة. هذا هو المقصود بالتَّراتُبِيّة.

ونحن طبعًا نستعمل هذه الكلمة بمعنى آخر، بتَّراتُبِيّة كلّ الأشياء. هذا المعنى موجود أيضًا، لأنّ القدّيس ديونيسيوس يتكلّم على التَّراتُبِيّات، فقط حين يقسمها إلى ثلاثة ويفسّرها بالمعنى التّالي: الرّتبة الأولى تستقبل الاستنارة وترسلها الى الرُّتَب التّالية التي تجذبها، أي أن الرُّتَب الأدنى تنجذب للرُّتَب الوسطى، والرُّتَب الوسطى تنجذب للرتب الأعلى، وكلُّها تعود نحو الله. إذن، هناك دائماً أصل القداسة التي هي أصل الاشتراك في قوى الله.

عندما يتكلّم القدّيس ديونيسيوس الاريوباغيّ على التراتبيّات، يشرح أنّ أصل وجوهر كلّ التراتبية هو الله، الله الجَمال والصَّلاح والحكمة، الذي هو إعلان العشق الإلهيّ والمحبّة الإلهيّة.

التراتبية هي الزّينة، التي هي صورة جمال السيادة الإلهيّة، وهذا الجمال بدوره هو الظّهور الإلهي للصَّلاح ولِما هو جميل. هذه هي التراتبية. وما هي غاية التراتبية؟ «الغاية هي التَّمَثُّل والاتّحاد بالله على قدر الإمكان، كونه سيّد كلّ العلوم والقوى المقدَّسة».

هذا النظام اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس الاريوباغيّ الذي يَنُصُّ على تحرّك الله نحو العالم وانجذاب العالم نحو الله لَهو أمر عجيب. إنّها مسألة خبرة من منظار إلهيّ تسمو بوضوح على وجهات النظر الفلسفيّة ما قبل سقراط، كفلسفة هراكليتوس والميتافيزيقا الكلاسيكيّة لأفلاطون وأرسطو والأفلاطونيّين الجُدُد، وحتّى الفلسفة الغربيّة الحديثة والمثاليّة الألمانية.

ليس من السهل تبسيط هذه القضايا الكبيرة، ولكننا ببساطة نُلقي نظرة سريعة عليها لكي نفهم أنّ العدالة الإلهيّة هي إحدى الأسماء الإلهيّة، إحدى قوى الله، والتي تشارك فيها الخليقة بنظام مَجمعي وتراتُبيّ واحد، للاشتراك بالله.

 

٣- العدالة الإلهيّة عند القدّيس ديونيسيوس الاريوباغيّ

في كتابات القدّيس ديونيسيوس، هناك حديث عن "العدالة الإلهية"، عن "عدالة الله". لكنّ المسألة هي كيف تُفهم العدالة الإلهيّة بما سبق ذكره عن قوى الله.

يشير القدّيس ديونيسيوس في كتابه "في الأسماء الإلهيّة" إلى أسماء الله وصفاته. الله غير مُدرَك من حيث جوهره، وذلك، على وجه التحديد، لأنّه لا يمكن للإنسان أن يشترك به في جوهره، ولكنّه أيضًا متعدّد الأسماء في قواه، القابلة للاشتراك. ومن بين هذه الأسماء الإلهيّة العدالة. وفي فصل خاص من كتابه (الفصل 8) كتب "في السلطة، والعدالة، والحفظ، والفداء، وفي عدم المساواة أيضًا". بالطبع يجب أن أكرّر أنّ هذه الأسماء ليست لله، لكننا نعطي الله أسماء تشترك في قواه غير المخلوقة.

يبدأ في هذا الفصل بعبارة: «ولكن بما أنّ اللاهوتيين يُشيدون بالحقيقة الإلهيّة والحكمة الفائقة كقوة وكعدالة، ويدعونها الحِفظ والفداء، فهلمّوا إذًا نكشف هذه الأسماء الإلهيّة أيضًا، قدر ما نستطيع».

يتحدّث هنا عن كيف يتكلّم اللاهوتيون، أي الرّاؤون، أولئك الذين "يرون" الله، على "الأسماء الإلهيّة".

إنّ كلام القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ عن كون الله قوة، عند اللاهوتيّين، يعني أنّه يسبق كلّ قدرة ويفوقها، لأنّه هو سبب كلّ قوة، ويصنع كلّ شيء بقدرة غير منقوصة وغير محدودة، ولأنه سبب قوة الفرد واكتفائه الذاتي. ينبسط هذا الامتداد اللامتناهي لله على جميع الكائنات، ولا يوجد كائن محروم تمامًا من بعض القوة، بل كلّ شيء له قوة غير منظورة أو قوة عقلانية أو حِسّية أو حيوية أو جوهرية.

ومن ثم يكتب، في كلامه على عدالة الله، أنّ الله يُمجَّد بإعتباره عادلاً لأنّه يمنح كلّ الكائنات، وفقًا لقيمتها، التّناغُم والجمال والنظام والحركة. فهو يخصّص كلّ المواهب والمناصب بما يليق بكلّ كائن وفقًا لقاعدة العدالة المطلقة. إذًا، العدالة الإلهيّة هي التي تصنّف وتحدّد كلّ شيء، وكلّ شيء يكون واضحًا وغير مختلط، وهي تمنح جميع الكائنات ما يناسب كلّ واحد منها، حسب قيمته الخاصة.

المساواة في كلّ شيء تقاس بعدالة الله. إنّها تحفظ كل شيء، لا تسمح لأي شيء أن يضطرب، أو أن يختلط بأي شيء، بل هي تحرس الكائنات، كلًّا بحسب نوعها، في الموقع الذي تنتمي إليه بطبيعتها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن ما يكتبه القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ عن العدالة والمساواة، لا يُقصَد به أي نوع من الإقطاعيّة، كما نمت وكما طبّقها الافرنج في اللاهوت الغربيّ، إذ يرسل الله نوره إلى الخليقة كلّها، إلى الملائكة والناس، إلى المُعَمَّدين، والذين هم خارج الكنيسة. لكن كلّ منهم يشترك في نوره بطريقة مختلفة. لذلك، ليس الله هو الذي يخلق عدم المساواة بالطبيعة، بل يحصل عدم المساواة بالطريقة التي يشترك كلّ واحد بالنور الإلهيّ.

في مجمل النظام اللاهوتيّ للقدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ، والذي يختلف بشكل واضح عن الأنظمة الفلسفيّة في عصره، تتميّز جميع الكائنات عن بعضها البعض، ولكنّها في نفس الوقت مترابطة، ويمكن رؤية ذلك من المبادئ الثلاثة التي تربط العلاقات بينها. المبدأ الأول هو مبدأ الاتّحاد، إذ أنّ العالم هو متعدّد الكائنات، ويميل دائمًا إلى الاتّحاد بالله الواحد. والمبدأ الثاني هو مبدأ حركة الله والكائنات بحركة مستقيمة ودائرية وحلزونية (helical). والمبدأ الثالث هو مبدأ القرابة والنظام، فإنّ كلّ جمال يُحيط بالله هو أقرب لِمثاله مِمّن هو بعيد عنه، ومَن هم أقرب من النور الحقيقيّ هم أكثر إشراقاً وإضاءة. وهذا يحدث في كلّ المراتب الفردية وهذه هي العدالة الإلهيّة. كلّما كانت المرآة نظيفة، كلما كانت أكثر إشراقا ووضوحًا، تستقبل وتطلق أشعة الشمس.

*******

لقد حاولتُ بقدر الإمكان أن أعرض صفات الله، ومن بينها صفات العدالة الإلهيّة. هكذا يتكلّم اللاهوتيّون التجريبيون (empirical theologians)، أي الراؤون مثل القدّيس ديونيسيوس الأريوباغيّ.

هناك فرق بين العدالة الإلهيّة والعدالة البشريّة. العدالة الإلهيّة هي تقسيم النور الإلهيّ إلى درجات مختلفة. العدالة البشرية هي تطبيق القوانين البشرية. ومع ذلك، فإنّ وكلاء العدالة البشرية، الذين يعزِّزونها حسب درجة وطريقة انسكاب العدالة الإلهية، لديهم إمكانية رؤية القانون باعتباره تطبيقًا على ظروف محدّدة للإنسان، وربما يكونون أكثر رأفةً به. وهذا ما عبّر عنه ألكسندروس باباديامانتيس بطريقة مذهلة في روايته القصيرة "القاتلة". فهو ينهي روايته القصيرة: «لقد وجدت العجوزُ ‘هادولا‘ الموتَ في ممرّ أجيوس سوستيس، في العنق الذي يربط صخرة المَنسَك بالأرض اليابسة، في منتصف الطريق بين العدالة الإلهيّة والعدالة البشريّة».

وهذا يعني أنّ باباديامانتيس يترك "القاتلة" المرأة العجوز هادولا فراغويانوس لعدالة الله ورحمته. وهذا يعني بالتالي أنّنا لا نستطيع التصرّف بشكل كامل بالعدالة الإلهيّة، لأنّ الله يرى عمق نفوسنا، لكن يجب علينا جميعًا أن نحكم قليلاً فوق العدالة البشرية الناقصة، أي أن نتحرّك في الوسط بين العدالة البشرية والإلهيّة.

 

https://www.mystagogyresourcecenter.com/2024/10/divine-justice-according-to-saint.html