آباء الفيلوكاليا

نقلًا عن نشرة الكرمة

عدد 41- أحد الآباء المجمع المسكونيّ السابع- الأحد 13 تشرين الأول 2024

كلّ خبرة الروحانيّة الأرثوذكسيّة التي خطّها آباء الرهبنة الهدوئيّة انسكبت في مجموعة كتابات سُمّيت الفيلوكاليا.

الفيلوكاليا، ومعنى الكلمة اليونانيّة "محبّة الجمال"، وهنا يتكلّم بالطبع عن الجمال الروحيّ، هي مجموعة من النصوص الآبائيّة التي كُتبت بين القرنين الرابع والرابع عشر، تتكلّم عن خبرة الجهاد الروحيّ الداخليّ ضدّ الأهواء ولأجل اقتناء الفضائل. فيها التعليم حول الحرب الروحيّة، والأهواء الثمانية، والصراع ضدّ الأفكار وهجمات الشياطين؛ وتتكلّم أيضاً عن درجات المعاينة الإلهيّة المختلفة وحول الصلاة النقيّة.

فالحركة الفيلوكاليّة هي حركة اليقظة الهدوئيّة، إنّها صراع الذهن ضدّ أفكار الكبرياء وكل أنواع التخيّلات. تكشف عن العمق الروحيّ الّذي ينبغي أن يدخل فيه المجاهدون. النسك وحياة الصلاة هي وسائل لاستعادة الحالة الملائكيّة واقتناء محبّة الله.

لا يوجد في الأرثوذكسيّة روحانيّتين، كما لا يوجد عقيدتين. العقيدة واحدة ومُلزمة للجميع، وهكذا أيضًا الروحانيّة والجهاد الروحيّ هو واحد للجميع، لكن جهاد كل واحد يكون حسب قدرته وظروفه. سنتكلّم عن القليل من الآباء الّذين من جهاداتهم المقدّسة تكوّنت جمالات الفيلوكاليا.

القدّيس أنطونيوس الكبير (250-356): كان أوّل الهدوئيّين تقريباً، مارس النسك بقسوة كبيرة؛ وكان كل يوم يبحث عن النموّ الروحيّ بغيرة جديدة. كان يُردّد بتواتر كلمة الرسول: أنسى ما وراء وأمتدّ إلى قدّام" (فيل13:3). في الهدوئيّة القاسية في الصحراء الجرداء كانت الأبالسة تحاول أن تُعطّل هدوء أنطونيوس. لكنّه بالصلاة المتواترة والتواضع كان ينموّ في الهدوئيّة وسلام النفس. اقتنى موهبة تمييز الأرواح، ومعرفة حركاتهم وطرق مقاومتهم. "ليس فقط لم يكن يُخدع منهم، لكن كان يُعزّي بكلامه كل أولئك الّذين يتعذّبون من الأفكار التي تُهاجمهم، ويكشف لهم ضعف حبائل أعدائنا الكثيرة".

ذياذوخوس أسقف فوتيكيس: كان رئيساً لجماعة رهبانيّة في فترة انعقاد المجمع المسكوني الرابع سنة 451، قبل أن يُصبح أسقف فوتيكيس في الأبيروس (اليونان). يُعالج المراحل المختلفة من الحرب الروحيّة اللامنظورة، وانسحاب النعمة الإلهيّة التدبيريّ، وأهميّة الذكر الدائم لاسم الربّ يسوع المسيح. اليقظة الروحيّة ضروريّة لأجل النموّ الروحيّ، ولأجل تذوّق الإنسان نعمة الله بقوّة.

القدّيس مرقس الناسك: كان ناسكاً في بدايته ثمّ رئيس دير خلال القرن الخامس. ينقل إلى جيله المعاصر له عمق الخبرة الروحيّة التي هي الخبرة الرهبانيّة للآباء القدماء. "كل انسان مُعمّد بالإيمان الأرثوذكسيّ يتلقى بطريقة خفيّة ملء النعمة. لكن لا يحصل على ملء اليقين إلا بالعمل بالوصايا... لا شيء أقوى من الصلاة للحصول على القوى الإلهيّة... كل تطبيق الوصايا موجود في الصلاة. لأنّ لا شيء أرفع من محبّة الله".

الأنبا فيليمون: لا معلومات لدينا عن حياته غير النص الموجود عنه في الفيلوكاليا، ونعلم من بعض الإشارات أنّه عاش بين سنوات 470-550. كتاباته هي خلاصة لامعة لكل الروحانيّة الهدوئيّة، كما كانت تُعاش في الصحراء في القرنين الرابع والخامس. يُعتبر الأوّل الّذي أعطى الصيغة الكاملة لصلاة يسوع: "يا ربيّ يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني".

القدّيس بطرس الدمشقي: لا نعرف شيئاً تقريباً عن القدّيس بطرس الدمشقيّ. هناك اسقف لدمشق بهذا الاسم عاش حوالي سنة 775، جاهد ضدّ الاسلام والمانويّة، وانتهى به الأمر بأن قُطع لسانه بأمر الخليفة ونُفي إلى العربيّة حيث مات هناك. القدّيس نيقوديموس الآثوسي ينسب إلى هذا الأسقف الأعمال الموجودة في الفيلوكاليا تحت هذا الاسم. لكن الأرجح بأنّها لأحد الرهبان الّذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر. لكن يبقى ما يقوله القدّيس نيقوديموس الآثوسي عن أعمال بطرس الدمشقيّ صحيحاً: "إنّها دائرة ضمن دائرة، إنّها فيلوكاليا داخل فيلوكاليا كبيرة".

نيكيفوروس المتوحّد: عاش في القرن الثالث عشر، من اصل إيطالي اهتدى إلى الأرثوذكسيّة وتنسّك في جبل آثوس. كتب عن طرق الصلاة المقدّسة واليقظة. أغنى الخبرة الروحيّة حول طريقة النفس-جسديّة في الصلاة، كما كانت تُمارس في أوساط النسّاك في جبل آثوس.

ثيوليبتوس الفيلادلفي (1250-1322): ولد في نيقية، كان متزوّجاً لكنّه انفصل عن زوجته لكي يعتنق الحياة الرهبانيّة. صار تلميذاً لنيكيفوروس المتوحّد، وواجها معاً السياسة الوحدويّة للأمبراطور ميخائيل الثامن باليولوغوس، الّذي حاول الحصول على مساندة اللاتين له على حساب الإيمان الأرثوذكسيّ. لهذا السبب نُفي الاثنين مع رهبان آخرين آثوسيّين إلى جزيرة في بحر إيجه. بعد موت ميخائيل الثامن سنة 1282، اختير ثيوليبتوس مطرانا على فيلادلفيا سنة 1284، وكان له تأثير كبير على السياسة الدينيّة للأمبراطوريّة.

"يُظهر المسيح نفسه للنفوس المجاهدة ويسكب عليها فرحاً في القلب لا يوصف. ما من لذّة أرضيّة أو ألم يمكن أن بنزع منه هذا الفرح الروحيّ".

كاليستوس أنغليكوزيس (1325-1395): يُعتبر من أهمّ الهدوئيّين في الربع الأخير من القرن الرابع عشر. نسك في منسك قرب مدينة Melenicon في مقدونية شمالي سيريس Serres. لقد كان كاليستوس أب روحيّ ولاهوتيّ، وضع مقالة ضدّ توما الأكوينيّ، التي كانت العمل الوحيد لدحض مبادئ الطريقة السكولاستيكيّة، بسبب استخدامها المُفرط للعقل في اللاهوت.

أعماله الروحيّة هما اثنين هامّين التعليم الهدوئيّ والتعزية الهدوئيّة. لا يوجد في كتاباته ترداد ويتكلّم من خبرته الشخصيّة. الإنسان يُحقّق دعوته على الأرض حين يشترك بقوى الروح القدس. يستند على القدّيس غريغوريوس بالاماس في تمييزه بين الجوهر والقوى غير المخلوقة، التي هي اشعاعات الجوهر الإلهيّ. الذهن البشريّ، يتجلّى بهذه القوى، ويُحقّق ملء "طبيعته الفيلوكاليّة"، ويبلغ إلى معاينة الجمال الإلهيّ.

القدّيس غريغوريوس السينائي (1255-1346): يُعتبر المحرّك الأوّل للنهضة الهدوئيّة في القرن الرابع عشر، وأعماله من أهم الكتابات الموجودة في الفيلوكاليا. وُلد في منطقة سميرنا سنة 1255، أصبح راهباً في قبرص، ثمّ انتقل إلى سيناء، حيث مارس حياة نسكيّة قاسية ومضطرمة بمحبّة الله. انتقل إلى آثوس حيث انضمّ إلى بعض الرهبان الّذين يُمارسون الصلاة الهدوئيّة في منسك ماغولا Magoula، قرب دير الفيلوثيو. وتقدّم في الحياة النسكيّة وأصبح في وقت قصير المُعلّم الأكثر شهرة للصلاة الهدوئيّة في آثوس. ترك آثوس عام 1325 بسبب غارات الأتراك مع بعض التلاميذ إلى منطقة جبليّة في باروريا، على الحدود بين تراقيا وبلغاريا، حيث ساعده ملك بلغاريا أرسن على تأسيس مركز رهبانيّ مهمّ.

اجتمع حوله تلاميذ يونان وبلغار وصرب ورومان، من بينهم الراهب ثيودوسيوس، الّذي أسّس بعد رقاد غريغوريوس دير جبل Kelifarevo، قرب مدينته تيرنوفو. من هذا الدير شعّت الروحانيّة الهدوئيّة في كل العالم السلافي. وتأثيره ظهر في القرن اللاحق مع ممثّل الهدوئيّة الروسيّة، القدّيس نيلوس سورسكي (1433-1508)، الّذي تشرّب بقوّة عقيدة القدّيس غريغوريوس السينائيّ الهدوئيّة.

إنّ انتشار الهدوئيّة في البلقان، في رومانيا، وفي روسيّا، لم تقتصر على المتوحّدين، لكن جدّدت أيضاً الحياة الهدوئيّة في الأديار الشركويّة. وهذه الحركة أثّرت أيضاً في حياة العلمانيّين، كما تشهد كتابات القدّيس نيقولاوس كاباسيلاس، "الحياة في المسيح"، والحلقات التي كان يُقيمها القدّيس بالاماس في تسالونيكي لتعليم ممارسة الصلاة الذهنيّة للعلمانيّين.

ممارسة الحياة الهدوئيّة لا تنفصل عن حياة التواضع والطاعة المعاشة وسط الجماعة الرهبانيّة، بقيادة أب روحيّ مُختبر. بدون هذه القواعد لا يجني الهدوئيّ أي ثمر.

في النسخات الأولى للفيلوكاليا اليونانيّة كان يوجد تفسير لصلاة الربّ يسوع، "ربيّ يسوع المسيح ارحمني"، وهو عمل القدّيس مرقس الأفسسيّ. هذا التفسير يختصر رسالة كل الفيلوكاليا. إنّها الدخول في سرّ تدبير الخلاص. إنّها وعي الإنسان لحالته الخاطئة وبؤسه وفي الوقت ذاته الثقة برحمة الربّ، والدخول في سرّ التقديس والتألّه.

في زمن الفيلوكاليا، كان الإيمان الأرثوذكسيّ الحيّ مهدّداً بالتحوّل إلى إيمان نظريّ عقلانيّ من قِبل مروّجي حركات النهضة الانسانويّة، التي كانت حركات وثنيّة مُلحدة بغطاء مسيحيّ. آباء الفيلوكاليا واجهوا هذه الهجمة الانسانويّة بالعودة إلى التقليد العقائديّ الّذي اعتمدته الكنيسة في دفاعها عن الإيمان، وعلى التقليد الهدوئيّ الروحيّ الّذي ترافق مع هذا الالتزام الإيمانيّ العقائديّ. في الأرثوذكسيّة حفظ العقائد لا يمكن أن يوجد من دون حياة روحيّة هدوئيّة. الإيمان الأرثوذكسيّ هو هذه المحبّة للجمال الإلهيّ، إنّه فيلوكاليا مقدّسة تعكس جمال الملكوت السماويّ. لأولئك المستمرّون في خطّ آباء الكنيسة القدّيسين.