تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان

تَقريظٌ لقطع رأس النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان،
القدّيس ثاودوروس السّتوديتيّ،
نقله إلى العربيّة: ماهر سلّوم.

 

أعزّائي المسيحيّين، خائفي الله، إنّ العيد الّذي اجتمعنا ها هنا للاحتفال به اليوم، هو بَهِيٌّ ومملوءٌ بالفرح السّماويّ. لقد سُمِّيَ بهيًّا، لأنّه يأخذ بهاءَه من اسم المُكَرَّم الّذي هو مصباح النّور؛ ذلك المصباح الّذي لا يُنيرُنا بنورٍ مادّيٍّ، لأنّ نورَهُ ثابِتٌ لا يتبدّدُ، ولا يصطدِم بأيِّ عائق. هو نورٌ يُظهِرُ بهاء إشراق النّعمة الإلهيّة، من أعماق قلوب الّذين اجتمعوا ليحتفلوا بتذكاره، ويرفعوا أذهانهم ليتفكّروا بعذابات هذا الرجّل الصِّدّيق، حتّى أنّنا إذ نركّز عيونَ نفوسنا على استشهاده المبارك، نمتلئ فرحًا روحيًّا.

لكن العيونُ تبتهج بمشاهدة دماء كلّ قدّيسٍ، وتطرب آذاننا لِسَماع بشائر الخلاص، وشِفاهُنا تُكَرِّمُ القدّيسين؛ لأنّ افتقادَهم لنا، يمنحنا اشتراكًا كاملاً بالحياة الخالدة والحقيقيّة. كلُّ ما كان للقدّيسين، هو مَرغوبٌ وكريمٌ لأولئك الّذين عَزموا على عبادة الله باستقامةٍ: قطرةُ دمٍ، أو ذخيرةٌ مقدّسةٌ من أجسادِهم، أو شعرةٌ واحدةٌ من رأسهم، أو قطعةٌ من ثيابهم أو من أيِّ شيءٍ لمسوه بأيديهم. لأجل هذا، مَن يَقْتَنِ أحَدَها، في البيت أو الكنيسة، يعتبرْه شَرَفًا خاصًّا، ويزهُ به، كأنّه كنزٌ يوطّد قداستَه ويضمن خلاصه. يتقدّمُ المؤمنون نحوَ صندوق الرّفات، حيثُ التّراب المقدّس، بِجلالٍ عظيمٍ، ويلمسون بكلّ ورعٍ، الرّفات المقدّسة الّتي يتعذّر لمسُها لِعِظَمِ قداستها.

ماذا عسايَ أن أقول أيضًا، عدا إشارتي لدماء الرّسل والشّهداء والأنبياء - الّذين أهرق دماءَهم مجرمون بَغيضون بعدّة أساليب- الدّماءِ الّتي تُحيط بالأرض كنهرٍ غزيرٍ يُخمِدُ لهيب الكُفر؟

هكذا كانت دماء سابق المسيح وصابغه، الّذي نتكلّم عنه اليوم، الّتي أهرِقت من عُنُقِه المقدّس كطيبٍ مقدّسٍ يعطّر العالم بأسرِه. لم تتولّد هذه الدّماء عن شراهة المتعة، ولا من خمرٍ، ولا من أيّ طعامٍ يُسمِن الطَّمّاعين ويعطيهم اللّذّة.

بل تولّدت عن نعمة الإمساك، الّذي مارسه القدّيس منذ طفولته حتّى موته الاستشهاديّ. وكما قال الرّبّ، يوحنّا لم يأكل ولم يشرب (اُنظر متّى 18:11-19).

لقد سُفِك هذا الدّم، قبل دم الرّبّ، الكأس الخالِدة. فقد كان ضروريًّا لِسابق النّور، الّذي أنار مَن على الأرض بولادته البهيّة من أمٍّ عاقرٍ، أن يكون بشيرًا ساطعًا لِمَن كانوا تحت الأرض أيضًا، أي في الجحيم.

لهذه الدّماء دالّةٌ لدى الرّبّ، أكثر من دماء هابيل الصّدّيق. فكلُّ حركةٍ فيها صوتٌ سرّيٌّ، غير صادرٍ من أوتارٍ صوتيّةٍ، بل يتّضح من القوّة الكامنة فيه بوساطة الشّخص الّذي يأتي بالحركة.

هذه الدّماء مستحقّةٌ أكثر من دماء البطاركة (إبراهيم، وإسحق، وهلمّ جرًّا)، إنّها أعظم قَدرًا من دماء الأنبياء وأكثر قداسة من دماء جميع الأبرار. لأنها أكثر عَجَبًا حتّى من دماء الرّسل والشّهداء. ليس ما أقول رأيي الشّخصيّ؛ إنّما رأيُ الكلمة العظيم، يسوع المسيح، الّذي قدّم شهادته في السّابق الكريم.

هذه الدّماء تزيّن الكنيسة أجمل من أيّ أزهارٍ مُوَشّاة. لقد أهرِقت من أجل البِرّ في آخر الزّمن، حين كان النّاموس سارِيًا وزهرةً تُنبِئ بحضور المسيح.

فلنُكمِل الآن خَبَرَ إهراق دمه، حسب الأناجيل المقدّسة، ولأيّ سببٍ حصل، ومن قام بهذا العمل الشّنيع. فحسب الإنجيل، قَبَضَ هيرودوس على يوحنّا، وقيّده وألقاه في السِّجن، لأجل هيروديّا، زوجة أخيه فيليبس. لأنّ يوحنّا قال له: «لَا يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ». فأراد قتل يوحنّا، ولكنّه كان خائفًا، لأنّ الشّعب كان يعتبره نبيًّا (متّى 2:14-5).

لِنَرَ أوّلاً: مَن كان هيرودوس هذا؟ فهناك شخصان بالاِسم ذاته، ما يسبّب التباسًا؛ فعلَيْنا التّمييز بينهما. هيرودوس الّذي نتكلّم عنه هو رئيس الرَّبْع. أمّا الآخَر، فهو هيرودوس الأب، قاتلُ الأطفال الأبرياء، وكان قد مات قبل وقتٍ طويل1.

لكن لماذا وَبَّخَهُ يوحنّا؟ لأنّه تخلّى عن زوجته الشّرعيّة، ابنة الملك أريتاس، وكان يُساكِن زوجة أخيه فيليبّس حَرامًا. بالتّأكيد، كان بإمكانِه الزّواج بها شرعيًّا، لو لم يكن لديها أولادٌ من أخيه، لأنّ الشّريعة الموسيّة تسمح بهذا من أجل إنجاب وَرَثة. كانت لها ابنةٌ اسمها هيروديّا أيضًا، وهي نسل أفعى، أداةٌ للشّيطان في هَلاكِها. فلهذا السّبب، وَبَّخَهُ يوحنّا أشدّ التّوبيخ. بيد أنّ هذا التّوبيخ لم يكن عُنجُهيّةً أو تكبُّرًا، ولم يلجأ يوحنّا إليه كي يسبّب الأذى لنفس هيرودوس ويجرح كرامته؛ إنّما كان تذكيرًا لَه لِتَصويب سلوكه.

فماذا قال لهيرودوس؟ «لَا يَحِلُّ أَنْ تَسكن معها». ذكّره بالنّاموس الإلهيّ، كأنّه يقول له: «انظر، ما يأمرك النّاموس أن تفعل» ... «إِذَا سَكَنَ إِخْوَةٌ مَعًا وَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ ٱبْنٌ، فَلَا تَصِرِ ٱمْرَأَةُ ٱلْمَيْتِ إِلَى خَارِجٍ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ. أَخُو زَوْجِهَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُهَا لِنَفْسِهِ زَوْجَةً، وَيَقُومُ لَهَا بِوَاجِبِ أَخِي ٱلزَّوْجِ. وَٱلْبِكْرُ ٱلَّذِي تَلِدُهُ يَقُومُ بِٱسْمِ أَخِيهِ ٱلْمَيْتِ، لِئَلَّا يُمْحَى ٱسْمُهُ مِنْ إِسْرَائِيلَ (تثنية 5:25-10). هذا ما يقوله النّاموس، ولكنّك أخذتَ زوجة أخيك الّتي لديها ولد. لا تَعصِ الفَريضة الّتي وضعها المُشَرِّع. ولا تدنّس ثوبك الأرجوانيّ بِزِنى مُحَرَّم. لا تظهر أنّك ترتكب مخالَفةً، فيما يجب أن تكون مِثالاً للتّقيّد الإراديّ بالناموس. وإن سقطتَ في هذا الخطأ، فسوف تُعاقَب، ومَن هم في المراكز العليا، يُعاقَبون بِطَرائِق أقسى».

لكن بما أنّ هيرودوس تسلّم زمام السّلطة حديثًا، فقد نسي الله. كان مُغتاظًا، يستشيط غضبًا، ولا يتقبّل التّأنيب. لم يتمثّل بداود الّذي، عندما أدّبه النّبيّ ناثان لأجل خطيئة الزّنى، قال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ» (2 ملوك 13:12). وقد غفر له الرّبّ بسبب تواضعه. بيد أنّ هيرودوس، قبض على يوحنّا وطرحه في السّجن (متّى 3:14). فالّذي كان أسير هوى الخلاعة، قبض على مَن عاش في أسمى درجات الحرّيّة، نتيجة حياته الإلهيّة؛ الّذي كان مقيّدًا بحِبال الفجور، قد وضع القيود على مَن تحرّر من كلّ شيءٍ، ومن كُلِّ علاقةٍ مُقَيِّدة؛ الّذي كان غارقًا في لجّة الحمأة، قد طرح في السجن ذاك الّذي كان بشير الكنيسة وحارسَها.

كلّ هذا من أجل هيروديّا، زوجة أخيه فيليبس (متّى 9:14). من أجل هيروديّا، التي ضارعت أخلاق دليلة2، فهي أداة حقيقيّة للشيطان. فهي كانت مَن شجّعت الّذي شارك فِراشَها – حبّها الحَرام، بالأحرى – وزرعت فيه الغضب تجاه يوحنّا. قالت له: «أنا ملكةٌ، ولا يمكنني أن أكون مادّةً للسّخرية من قِبَل ابن زخريّا. اُسْجُنِ اللّسان الّذي يقصم عظامي. اِطعنْ، مَن كلماته تجرح نفسي كالسِّهام». وبرغم أنّه كان يرغب في قَتله، لم يفعل ذلك لأنّه كان خائفًا من الشّعب الّذي كان يعتبر يوحنّا نبيًّا ويُجِلُّه (متّى 5:14). فإن أراد المقتدرون أن يرتكبوا ما هو غير مشروعٍ، لَما استطاعوا تنفيذه حالما يفتكرون به، لسببَين: أوّلاً، لأنهم يهابون رَعاياهم. وثانيًا، لأنّهم ينتظرون إلى أن تسنح الفرصة كي يضعوا الكراهية الّتي في نفوسهم موضع التّنفيذ، من دون خطرٍ على نفوسهم.

بينما كانوا يحتفلون بعيد ميلاد هيرودوس، تقدّمت ابنة هيروديّا ورقصت لهم. لقد أعجبت هيرودوس جدًّا، فأقسم أن يمنحها أيّ شيءٍ تريد (متّى 6:14).

في اليوم الذي كان ينبغي فيه أن يشكر الله على ولادته، اختار أعمال الظّلمة. كان يتوجّب أن يكون هذا اليوم للفرح الرّوحيّ، لا للرّقص، وبالتأكيد، لا للنّساء الرّاقصات أمام الرّجال. ماذا أنتج هذا الرّقص؟ القَسَم. وماذا ولّد ذلك القسم؟ الجريمة. متى اجتُثَّ الشّرُّ، تضمحلّ المعصية. لكن إذا ما تجذّر الشّرّ، فسوف ينتِج ثمارًا، أي أنّه سيدخل حَيِّزَ التّنفيذ. رقصت ابنة هيروديا بين المَدعوّين وأَعجبت هيرودوس. ماذا يمكن أن تتعلّم الصّبيّة، المُتَمَرِّسة بالفُجور، من أمّها سوى الرّقص المُثير، باحترافٍ كهذا، كي تُثير إعجاب هيرودوس. لأجل هذا، أدّى قَسَمًا ليمنحها ما ترغب. هكذا تكون زلّة ألسن النّاس، عندما ينغمسون في الأهواء المبتذَلة: يزلق لسانهم، من دون تفكيرٍ، بكلّ ما يدور في عقولهم. سبّبت الصبيّةُ، الّتي تتلمذت على يد أمّها، الذّبحَ الشّائنَ للقدّيس يوحنّا، الّذي كانت ترغب هيروديا الحَقودة في تحقيقِه قبل مدّةٍ طويلة. إخالُ أنّها قالت: «يا بنتي، ها هي الفرصة الّتي كنّا ننتظر. لقد تمكّنتِ، بِقَدَمَيكِ الرّاقصتَين، أن تجعليه يقدّم ما أريد. لقد أخمدْتِ ألمي بأغنيتكِ الحاذِقة. فلندفن الرّجل الّذي يوبّخنا. اذهبي سريعًا وقولي لهيرودوس، أَعْطِنِي هَهُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ». (متّى 8:14). يا له من طلبٍ وحشيٍّ وإجراميّ! يا لكِ من مجرمةٍ مَسعورة! فإنّكِ لم ترضَي بالذَّبح، وعزمتِ أن يؤتى لكِ بالرّأس على طبق. يا لكِ من امرأةٍ حقيرةٍ فاجرة! لقد تجاوزتِ إيزابل3 الملطّخة بالدّم قساوةً.

يُخبِرُنا الإنجيل إنّ الملك حَزِنَ، لكن لسبب تأديته القَسَم ووعدِه أمام مَدعوّيه، أمر أن تُعطى الرّأسَ. ألقى يوحنّا في السّجن، حيث قُطِعَ رأسُه، ثمّ وُضِعَ على طبقٍ، وجيءَ به إلى الصّبيّة وأمّها (متّى 11:14).

يا لها من نهايةٍ شرّيرةٍ، لتلك المؤامرة الشّيطانيّة! مَن صَوَّبَ ضربةَ السّيف القاتلة على الهامة المقدّسة؟ خادِمٌ مخالِفٌ للشّريعة، وهو مثل دُواغ4 آخر، لم يتشبّه بأولئك اليهود الّذين واجهوا شاوُل بِحَذَرٍ وشجاعةٍ، عندما أمَرَهم بقتل أنبياء الله. «فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ». ماذا نسمّي هذه العَربَدة؟ احتفالًا أم مسرح جريمة؟ ماذا نسمّي المدعويّن الأغبياء؟ مُشارِكين في العشاء أم مُلَطَّخين بالدّماء؟

يا له من مشهدٍ غير مسبوق! يا له من إثم! من ناحيةٍ، كانوا يقدّمون دجاجًا، ومن ناحيةٍ أخرى، طَبَقًا فيه رأسُ نبيٍّ. من جهةٍ، كان يتدفّق خمرٌ غنيٌّ، ومن جهة أخرى، كان يتدفّق دمُ رجلٍ صِدّيقٍ.

إنه لَمَرهوبٌ لي أن أتفوّه بهذه الكلمات، وفظيعٌ أن أعبّر عنها!

«وَدُفِعَ إِلَى ٱلصَّبِيَّةِ، فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا». وا حَسرتاه! كم هو مُرَوِّعٌ! الهامة الطّاهرة المَصونة، جزيلة الإجلال حتّى من الملائكة، قد قُدِّمَت من أجل فِعلٍ مَلعونٍ آثِمٍ. لقد قدّمت الفتاةُ الهامةَ إلى أمّها، كأنّها تُعطيها طعامًا مَطهوًّا، وكأنها تقول: «خُذي يا أمّي، كُلي جسد الّذي عاش كأنّه بلا جسد. اشربي دم الصَّوّام. لقد سَدَدْنا الآن فم الّذي وَبَّخَنا مرّةً، وإلى الأبد».

حسب الإنجيل، أتى تلاميذه بعدها، وأخذوا جسده ودفنوه (متّى 13:14). انظروا كيف يوصَف دفنُ هذا الرّجل البارّ، وكيف يكذبُ أعداء الأيقونات المقدّسة، الّذين هم أعداء الحقيقة أيضًا. رَكِّزوا على هذه القصّة، واعتبِروا منها: لقد اقتادوا القدّيس من السّجن، مُثقَلاً بالسّلاسل، ورفع الجَلّاد السّيف، مثل حيوانٍ مفترسٍ، فوق الهامة المقدّسة، ثمّ قُدِّمت الهامة، مُفيضة الطّيب، بعد الإعدام، إلى هيروديا. بعدَها، دَفنَ التّلاميذُ الجسد المقدَّس، بدموعٍ وبألمٍ ينخس نفوسهم. كان واحدُهم يعانق قدمَي يوحنّا، وآخر يحاول إعادة جَمع الهامة بالجسد الهامِد، وآخَر يرتّل نشائد الجنّاز فيما يبخّر الجسد.

والآن، إنني حاضرٌ هناك بعَينَيْ ذهني، وأستطيع رؤية جنازة الرّجل الصِّدّيق في جوٍّ سَلاميٍّ، كما ورد عند النّبيّ إشعيا: «بادَ ٱلصِّدِّيقُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ. وَرِجَالُ ٱلْإِحْسَانِ يُضَمُّونَ، وَلَيْسَ مَنْ يَفْطَنُ بِأَنَّهُ مِنْ وَجْهِ ٱلشَّرِّ يُضَمُّ ٱلصِّدِّيقُ. يَدْخُلُ ٱلسَّلَامَ. يَسْتَرِيحُونَ فِي مَضَاجِعِهِمِ. ٱلسَّالِكُ بِٱلِٱسْتِقَامَةِ» (إشعيا 1:57-2). أتصوّر ذلك الوجه الملائكيّ، مَن عيناه قد غابَتا كَشَمسَين مُشرقتَين، وعليهما خُتِمَ جمال نفسه. لا حركة له ولا نَسَمة أرضيّة، ولكنّه يفوحُ بطيب النّعمة الإلهيّة. أقبّل تلك اليدَين المقدَّستَين، اللّتين لم تختبرا الخطيئة، والإصبع الّذي وجّه الشّعب نحو المسيح، حامِل خطيئة العالم أجمع. أسجد أمام تلك القَدَمَين اللتَين نقلتا البشرى السّارّة إلى الشّعب، وبوساطَتِهما تهيّأ طريق الرّبّ. أحضِروا لي السّلسلةَ المقدَّسة، الّتي قُيِّدَ بها الأرفعُ قدرًا من بين الرِّجال والمُماثل للملائكة، لكي ما أكرِّمَها. أحضِروا لي الطَّبَقَ الّذي وُضِعَت عليه الهامة الشّريفة، الأكثر ثمنًا من الذّهب والجواهر. لو كنتُ حاضِرًا هناك، لَما توانَيتُ عن تأدية الإجلال للسّيف الفتّاك الّذي قطع العنق المقدَّس، ولَما تردّدتُ في تقبيل الأرض حيث وورِيَ الكنز، متأكِّدًا من أنّ هذا يجلب لي النّعمة الإلهيّة. مباركٌ هو القبر، وطوبى للحجر الذي غطّى الجُثمان المثلّث البركة، الّذي لفّ الجسد الأغلى من الزّمرّد واللآلئ.

ففي هذا المشهد، كان جَمعُ تلاميذه المنظور حاضِرًا، وجَمعٌ غير منظورٍ من الملائكة، مُسَبِّحين وممَجِّدين ومُنشِدين ليوحنّا، ومُرافِقين إلى السّعادة الأبديّة مَن عاش كملاكٍ غير مُتَجَسِّمٍ، وسبق فأنبأ بمجيء المسيح. كان مُسارًّا حقيقيًّا للرّبّ، قد أرشد الكنيسة إلى الختن السّماويّ، والمصباح الوَهّاج للنّور الفائق الوصف، وصوت الإله الكلمة الحيّ، الّذي كان أرفع من الأنبياء، وأعظم من جميع مواليد النّساء. إذن، كان دفن هذا الرّجل البارّ سلامِيًّا كما وصفناه، وبَشير فرحٍ وخلاصٍ للعالم أجمع.

فَهل تمكّن هيرودُس المُختلّ العقل من الإفلات من العقوبة، لبقيّة حياته على الأرض؟ بالتّأكيد، لا. على العكس، فقد ثارَ جميع رعاياه ضدّه، وخُلِعَ عن عرشِه، بسبب هذا الجُرم. بهذه الطّريقة، أراد الله أن يُرهِبَ الملوك اللّاحقين ويحذّرهم، لمنعهم من ارتكاب جرائم مماثلة. لكن، بالعودة إلى موضوعنا، فَلْنُهَلَّل لهذا اليوم كما يليق.

اليوم، يُمدَح يوحنّا السّابق لأنّه ضحّى بِهامَتِهِ من أجل الحقّ، ويُستهزَأ بهيرودُس المُتَعَدّي الشّريعة، ويُزدَرى به؛ اليوم، يَمدحُ جميعُ النّاس يوحنّا السّابق، لِتَوبيخه الحازم، ويُعَيِّرون هيرودُس الفاقد العقل لِفسقه؛ اليوم، تُقَدَّمُ هامة يوحنّا السّابق ذبيحةً مقدسّةً على طبقٍ، وتتلقّى هيروديّا الفاجِرة، عنوةً، إدانةً أبديّة؛ اليوم، يُسفَك دمُ يوحنّا السّابق لأنّه حفظ النّاموس الإلهيّ، ويُطرَدُ بِعدلٍ، الّذي عارَض المعمدانَ عبر تعدّيه النّاموس؛ اليوم، يُقطَع رأس يوحنّا السّابق لتمسّكه بِالبرّ، ولمجاهرتِه أمام هيرودُس.

هكذا يتعلّم ملوك الأرض ألّا يهجروا نساءهم الشّرعيّات، ويدينوا مَن يهجر امرأته. اليوم، يغرس يوحنّا المعمدان علامةً في الأرض، ويَحُضّ جميع الرِّجال أن يرضوا بامرأتهم الشرعيّة، وألّا يتعدّوا ذلك؛ اليوم، ينزل يوحنّا السّابق إلى الجحيم، وينال الأموات بشائر الفرح لحضور المسيح. اليوم، تبتهج السّموات لذبح يوحنّا السّابق، الذي قُدِّمَ ذبيحة من أجل الفضيلة، فيما يعيّد الأرضيّون بنشائد الشّكران. إنّ السّابق المجيد، برأيي، ينظر إلينا من السّماء، ويكافئ بالعطايا الإلهيّة أولئك الّذين يمدحونه بالتّسابيح. فهو يشرق بين مصافّ الأنبياء، مثل كوكب الصّبح، وينير سماء الكنيسة؛ يلمع بين الرّسل، فقد وَرَدَ قبلهم، كشمسٍ بين شموسٍ كثيرة، بل هو أكثر لمعانًا منهم؛ يتميّز بين الشّهداء بعجائبه، مثلَ سماءٍ مزيّنةٍ بالنّجوم؛ يبرز بين الأبرار، بفضل التّجارب العديدة التي عاناها مجاهدًا من أجل الفضيلة، ويرتفع أعلى من أرز لبنان ذاك الّذي نشر السّرور في جميع أنحاء العالم.

فإن كان الكثيرُ من النّاس قد ابتهجوا يوم ميلاده (لوقا 10:2)، فالفرح في يوم استشهاده يجب أن يكون بالمقدار نفسه. لقد أُهِّلنا جميعنا، كهنةً، ونسّاكًا، ورهبانًا في الدّير، وعلمانيّين، للاحتفال به، لأنّ لكلّ شخصٍ نصيبه في الفرح الوارِدِ من رسالتِه. ولتشتمِلْنا شفاعاتُه، نحن السّاكنين في هذا الدّير المقدّس، باسم يسوع المسيح ربّنا، الّذي به يليق المجد والقدرة، مع الآب والرّوح القدس الصّانع الحياة، الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين. آمين!

 

https://www.johnsanidopoulos.com/2017/08/encomium-on-beheading-of-honorable.html

 

1. في سنة 4 ق.م. كان لهيرودوس الأوّل أربعة أبناء باِسم هيرودوس.

2. انظر قضاة 16 (المترجم)

3. انظر 3 ملوك 16 (المترجم).

4. انظر 1 ملوك 21 (المترجم).