محاضرة في جماعة الخمسينيّين وخبرة النعمة الإلهيّة (1/7)

الجزء الأوّل: الخِبراتُ الإلهيّةُ وشُروطُ نَيلِها

محاضرة في جماعة الخمسينيّين وخبرة النعمة الإلهيّة.

الجزء الأوّل: الخِبراتُ الإلهيّةُ وشُروطُ نَيلِها

الأرشمندريت جورج كابسانيس.

نقلها إلى العربيّة فريق القدّيس غريغوريوس بالاماس.

 

كان قِدّيسو إيماننا، الَّذين نكرِّمهم في كنيستنا المقدَّسة، متألِّهين ومتَّحدين بالله؛ ولهذا عاشوا خِبراتٍ إلهيَّةً كبيرةً رفيعةً، ولأنَّهم كانوا أعضاءً في جسد المسيح بجدارة. كلّما كان المسيحيُّ عضوًا في جسد المسيح باستحقاقٍ وإدراكٍ، وعضوًا معافًى وسليمًا، نالَ أسمى خبرات النِّعمة الإلهيَّة، وشعر بها في حياته أكثر.

أيّ خبراتٍ يمكن أن يعيش المسيحيّ؟ بحيث لا يكون الإيمان بالنّسبة إليه مسألةً عقليّةً بحتةً، أو كنظريّةٍ أو عمليّةٍ ذهنيّة. ليس الإيمان مثل مطالعتنا نصًّا علميًّا أو غيره، نُدركه بالعقل. لا، فهذا سطحيٌّ. تشملُ خبرةُ اللهِ كِيانَ الإنسانِ بأَسره. فإنَّك تحسُّ بالله في كيانك: أي عقلك وقلبك ونفسك وجسدك.

ما الخبرات الَّتي يمنحها الله للإنسان؟

إنّ من تنقَّى تمامًا من أهوائه ومن الخطيئة، ووصل إلى صلاةٍ نقيَّةٍ حقيقيَّةٍ، فسيؤهَّل لِمثل هذه الخبرة العظيمة، أي مُعاينة نور الله في هذه الحياة. هذا هو النّور الّذي سيشرق في الحياة الأبديّة، ويعاينه القدِّيسون منذ الآن، ويحيطهم، فيشاهدهم الآخرون في وسطه. نحن لا نراه، لكن أنقياء القلب والمستحقّون يشاهدونه. ترمز الهالة، الَّتي تُرسم حولَ رؤوسِ القدِّيسين في الأيقونات، إلى نور الثّالوث القدُّوس. كان القدِّيسون متَّحدين بالله، ولهذا صاروا داخلَ نوره.

سأقصُّ عليكم قصَّةً من الجبل المقدّس. زار ديرنا الأب يوحنّا، مدرِّسٌ جامعيٌّ أعرفه. قال لي: أيُّها الشيخ، إنِّي حزينٌ جدًّا، اسمع ما حصل معي. ذهبتُ لزيارةِ ناسكٍ أعرفه منذ سنواتٍ لأكلِّمه -يقصد القدِّيس باييسيوس- ولكنَّه لم يفتح الباب لأيٍّ من الزّوَّار إذ كان يُصلِّي. كان باب البستان الخارجيِّ مقفلًا. قرعتُ الجرس مرارًا ولكنَّه لم يستجب. عندها قفزتُ فوق القضبانِ، واختلست النَّظر من الشبَّاك إلى داخل القلاّية. أتعلم ماذا رأيت؟ رأيته داخلَ النّور السّماويِّ، يلمع بأكمله. فقدتُ صوابي من شدّة الخوف. بعد قليلٍ، فتح الباب وقال لي: لماذا فعلتَ هذا يا أبانا يوحنّا؟ عقابًا لك، لن تأتيَ لرؤيتي طيلة السّنوات الثّلاث القادمة. تاق كثيرًا هذا الكاهن لرؤية الشّيخ باستمرارٍ، ولسماع نصائحه الرّوحيَّة. وحالما سمع العقاب، اكتأب وجاءني يشكي همَّه، علَّه يتعزَّى قليلًا.

نقرأ في سيرة القدِّيس باسيليوس الكبير، أنَّه حينَ كان يُصلِّي في قلّايته، كانوا يرونه يلمع بأكمله مع القلّاية بالنّور اللّامخلوق. تصادفون هذا في سِيَر العديد من القدِّيسين. إذن، يستأهل الإنسان معاينة النور اللّامخلوق كأسمى خبرةٍ إلهيَّةٍ ممكنة. لا تُمنح هذه لأيِّ كان، إنّما للقلَّة الّتي تَقدَّمت كثيرًا في حياتها الروحيَّة. قد يكون واحدٌ بين مليون مؤمنٍ مسيحيّ، من سيؤهَّل لمعاينة النّور اللّامخلوق. وهم موجودون في أيامنا هذه: مسيحيّون قدِّيسون يستحقُّون هذه الخبرة الإلهيَّة الفريدة.

يجب الإشارة إلى أنَّهُ ليسَ كلُّ نورٍ سنراه، هو بالضّرورة النّور اللّامخلوق. كثيرًا ما يُضلُّ الشّيطانُ النّاسَ، ويُظهِر لهم أنواره الكاذبة؛ كي يخالوا أنَّهم يُشاهدون النّور اللّامخلوق. لهذا، إن شاهَد المسيحيُّ شيئًا أو سمع صوتًا أو نال خبرةً ما، يجب ألاّ يقبلها، لأنَّه بخطر الضَّلال من قِبَل الشِّرير. عليه أن يسأل الأب الرّوحيّ، الَّذي سيفسِّر له خبرته، إن كانت من الله أم من المجرِّب. يلزم هنا الحذر الشَّديد، يا إخوتي.

أيّ شروطٍ تضمن أصالة الخبرات، وافتقاد النّعمة الإلهيَّة، للمسيحيِّين؟

أوَّلاً، يجب أن نكون أشخاصًا تائبين. إن كُنَّا لا نتوب يوميًّا عن ذنوبنا، ولا نتنقَّى من أهوائنا، فلا يسعنا أن نعاين الله. أتذكرون قولَ الرَّبِّ في التّطويبات: «طوبى للأنقياء القلب. لأنَّهم يعاينون الله» (متّى 5: 8) كلَّما تنقَّى الإنسان أكثر من أهوائه، وَبقي يتوب ويرجع إلى الله، يُحِسُّ بحضورِ اللهِ أكثر في حياته، ويعاينه.

إذن، ليس اختبارُ النِّعمة مسألةً مصطنعةً، كما في ضلال الِهندوس أو ممارسي اليوغا، الّذين يحاولون، بأساليبَ نفسانيّةٍ مصطنعةٍ، اختلاقَ خبراتٍ لا تكون من الله، بل يكتسبونها بالخداع.

ثانيًا، يقول الآباء القدِّيسون: «أعطِ دمًا وخُذ روحًا». إن كُنتَ لا تُعطي من دم قلبك بالتَّوبة، والصَّلاة، والصَّوم، وبالجهاد الرّوحيّ، فلا يُمكنك أن تنال نِعمةَ الرُّوح القدُس؛ لا يمكنك أن تنالها مجَّانًا، من دون تكلفةٍ، وتعبٍ، وحسٍّ إلهيّ. تُمنح الخبرات الرّوحيَّة الحقيقيّة للَّذين لا يطلبونها. فهُم مُتواضِعون ولا يلتمسون من الله إلّا التَّوبة والخلاص. يقول المتواضعُ لله في صلاته: «يا ربّ، لستُ مستحقًا لأيّ خبرةٍ أو موهبةٍ روحيَّةٍ؛ لستُ أهلاً لافتقادِ نعمتِك أو تعزيتِك السّماويَّة، ولِأيِّ لَذَّةٍ روحيَّة». هذا ما يخلق في قلبِه نعمةَ الله الوافِرة، وبركة التّواضع. أمّا لأمثالِ الّذين يمثّلون بكبرياءٍ أمامَ الله، ويقولون: «يا ربّ، أريد أن تعطيني خبرات» ... فلن يمنحَ الله أيَّ خبرةٍ حقيقيَّةٍ أو أصيلةٍ، بل سيستغلُّهم الشّرّير بخبراتٍ ضالَّةٍ شيطانيَّةٍ، لأجل غرورهم.

لهذا، إنّ التّواضع شرطٌ أساسيٌّ آخَرُ لنَيل الخبرة الإلهيّة.

ثالثًا، كي تكونَ المعاينات حقيقيّةً، يجب أن نكون في الكنيسة-داخل نطاق أسرارها- لا خارجها حيثُ سيضلّنا إبليس. حالما يجعل الثّعلب أحدَ الِخرافِ مُنفردًا عن القطيع، سيأكله. إنّ الأمان لموجودٌ داخل الرَّعيَّة. ما دامَ المسيحيُّ يحيا في رعيَّة الكنيسة، فهو بأمانٍ؛ أمّا خارجها، فهو عُرضةٌ للضَّلال عبر نفسه، وعبر النّاس والشّيطان. لدينا أمثلةٌ كثيرةٌ، لأشخاصٍ ضلُّوا لعدم طاعتهم للكنيسة وللأبِ الرُّوحيّ، ما أَوهمَهم بأنَّهم يعاينون الله، وبأنَّه يفتقدهم، لكن في الحقيقة كانت خبراتهم شيطانيَّةً مُدمِّرةً لنفوسهم.

كثيرًا ما تساعدنا الصّلاةُ النّقيَّة والحارَّة؛ لأنّ الله يمنحُ خلالَها الإنسانَ، أكبر عددٍ من المواهب. لهذا، ينال المُصلُّون بشوقٍ وغَيرةٍ، وإلحاحٍ، وتصميمٍ، هباتِ الرُّوح القُدس، ويلمسونَ حسَّ نعمتِهِ حقًّا. هناك صلاةٌ نقولها هنا في الجبل المقدَّس، وتُردِّدونها أنتم أيضًا: «ربّي يسوع المسيح ارحمني، أنا الخاطئ». هي المُسمَّاة الصّلاة العليَّة أو القلبيَّة، والصّلاة الدّائمة. حين تُرَدّد بتواضعٍ وشوقٍ وصبرٍ، تجلب تدريجيًّا إلى قلب الُمصلِّي الحسَّ بالنّعمة الإلهيَّة.