لماذا العقيدة مهمَّة في حياتي؟
الأب عمَّانوئيل حجيذاكيس
نقلها إلى العربيَّة: الشماس مكسيموس سلُّوم
لماذا نصرُّ، نحن الأرثوذكس على التعاليم التي تُفَرِّقُنا أكثر من التي تُوَحِّدنا؟1 ما الفرق الذي تُحدِثُهُ العقائد في حياتنا اليوميَّة؟ هل تُحدِث عقائد الإيمان أي فرق في طريقة عيشِنا؟
الإجابة باختصار هي نعم! "لا يمكن اعتبار العقائد مفاهيم لاهوتيَّة مجرَّدة، بل حقائق بالغة الأهمّية تتعلّق بالإنسان وحياته".2ولهذا السبب نتحدَّث كثيرًا عن العقيدة: لأنَّ الحقيقة هي حياتنا وطريقنا. إنَّ الحقيقة تنير طريقنا، ليس فقط على المستوى الفكريّ، بل أيضًا على المستوى الوجوديّ.
ما هي العقيدة؟
العقائد هي صياغة الحقائق الإلهيَّة التي ليس لنا الحريَّة في تغييرها أو تجاهلها. نحن الأرثوذكسيُّون نصرُّ على العقائد لأنَّها ليست آراء، "حسب وصايا وتعاليم الناس" (كولوسي 2: 22)، قد تتغيَّر بمرور الزمن أو حسب التغيرات الثقافيَّة والاجتماعيَّة. تتعلّق العقائد بأسرار الله الإلهيَّة، التي كُشِفت للقديسين الذين يعيشون الحياة الإلهيَّة حقًّا، وهُم في موضعٍ يُسمح لهم بالتعبير عنها. نحن ببساطة نتَّبع تعاليمهم بأمانةٍ، دون أن نحيد عنها، لا يمينًا ولا يسارًا (راجع تثنية5: 32). هذا يعني أنَّنا نحن الأرثوذكسيِّين نسير على حبل مشدود، مع وجود خطر السقوط باستمرار.
ما علاقة العقيدة بحياتنا؟
في المقام الثاني، ترتبط العقائد بحياتنا على نحوٍ مباشرٍ. بكلِّ بساطة، الشخص الذي ليس لديه الإيمان والعقيدة الصحيحان لن يكون لديه فكرٌ(ethos) صحيحٌ، لأنَّ هذين الاثنين، الحقيقة (العقيدة) وكيف نفكّر بها ونعيشها (ethos)، مترابطان.
تساعدنا العقيدة على أن نعيش الحياة الحقَّة، وبالتالي نخلُص. عل سبيل المثال:
يعلِّمنا بولس الرسول أنَّ جسدنا هو هيكل الروح القدس. هكذا يهتم المسيحيُّون بأجسادهم بنفس قدر اهتمامهم بالكنيسة. كما أنَّ الإنسان يُجمِّل هيكل الله ويزيِّنَه بالإيقونات المقدَّسة ويبخِّره ويقيم فيه الخدمات المقدَّسة، كذلك نُجَمِّل جسدنا: نحترمه ونكرِّمه ونقدِّسه بصلواتنا، وحراسة حواسنا، ونطهِّره بفضائلنا، ونهيِّئُه ليحلَّ الروح القدس عليه ويسكن فيه. إنَّ تعليم الكنيسة والآباء هو أنَّنا هياكل للروح القدس (1كورنثوس6: 19، 2كورنثوس6: 16) وأننا مخلوقون على صورة الله (راجع تكوين 1: 27). هذه هي الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى بعضنا البعض. بالطبع، إذا كان كلُّ ما نراه فينا هو وجود حيواني، بلا نفس ولا روح، بلا أي غرض وهدف في الحياة، فسنتعامل معه على هذا الأساس، وسنتصرّف كالحيوانات.
لا تنازلات في مسائل الإيمان:
في مسائل الإيمان لا يمكن أن يكون هناك أي تنازلات. إنَّ اتّباع تعاليم المسيح أو عدم اتّباع تعاليم المسيح ليس خيارًا:
“كُلُّ مَنْ تَعدَّى وَلَمْ يَثبُتْ عَلَى تَعْلِيمِ المَسِيح فَلَيْسَ اللهُ مَعَهُ، وَمَنْ ثَبَتَ عَلَى تَعْلِيمِ المَسِيحِ كَانَ الآبُ وَالابْنُ كِلاَهُمَا مَعَهُ. فَإِنْ أَتَاكُمْ أَحَدٌ لا يَحْمِلُ هَذَا التَّعلِيمِ فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي البَيْتِ وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لَهُ سَلاَمٌ فَقَدِ اشْتَرَكَ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَة." (2يوحنا1: 9-11).
ويكتب القديس يوحنا مرَّة أخرى:
"فَمَنْ عَرَفَ الله أصْغَى إِلَيْنَا. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللهِ لَمْ يُصْغِ إِلَيْنَا." (1يوحنا 4: 6).
ما هو "تعليم المسيح" المهم جدًّا لدرجة أنَّ من لا يلتزم به "ليس له الله"؟ كل تعليم. يقول في آياتٍ سابقة: "وَهَذِهِ هِيَ المَحَبَّةُ أَنْ نَسْلُكَ عَلَى حَسَبِ وَصَايَاهُ" (2يوحنا1: 6). إنَّ اتِّباع كل تعاليم المسيح وحقائقه الإنجيليَّة هو القاعدة لجميع المسيحيِّين. ولهذا يحثُّنا القديس يهوذا: "عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ الإِيمَانِ المُسَلَّمِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِلقِدِّيسِين." (يهوذا1: 3).
يخبرنا رسول الأمم شيئًا يصعب قبوله في عصرنا التَّلفيقيّ والمسكونيّ أنَّنا إذا التزمنا بأيّة تعاليم ليست تعاليم المسيح، فإنَّنا نتبع تعاليم الشياطين:
"وَالرُّوحُ يَقُولُ صَرِيحاً: إِنَّ قَوْماً يَرْتَدُّونَ عَنِ الإِيمَانِ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ فيُصْغُونَ إِلَى أَرْوَاحَ مُضِلَّةٍ وَإِلَى تَعَالِيمَ شَيْطَانِيّةٍ" (1تيموثاوس4: 1).
ما هي تعاليم الشياطين؟ هي كل تعليم كاذب. ولهذا ينصح القديس بولس تيموثاوس قائلاً: "أَمَّا الخُرَافَاتُ الدّنِسَةُ العَجَائِزِيَّةُ فَارْفُضْهَا" (1تيموثاوس4: 7). لذلك دعونا لا نستمر في الضلالة، لأنَّه "إِنْ عَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقبِلْ إِلَى الكَلاَمِ الصَّحِيحِ كَلاَمِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ وَإِلَى التَّعْلِيمِ الّذي هُوَ عَلَى مُقْتَضَى التَّقْوَى فَهُوَ صَلِفٌ لاَ يَعْرِفُ شَيْئاً" (1تيموثاوس6: 3-4).
فلنلتزم إذن بتواضع بتعاليم الربِّ، التي تحفظها الكنيسة، "عمود الحق وقاعدته" (1تيموثاوس 3: 15)، وبذلك نخلص.
العقائد ليست اختياريَّة؛ إنها "ضروريَّة للخلاص، لأنَّها تُجَسِّد عن المسيح في عمله الخلاصي".3 إنَّ العقائد هي أكثر من مهمَّة فحسب في حياتنا: إنها حياتنا! "لأَنَّكَ إِنْ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَقَامَهُ مِنْ بَينِ الأَمْوَاتِ فَإِنَّكَ تَخْلُص." (رومية10: 9). ولهذا السبب فإننا نركِّز بشدَّة على العقيدة. وبعد قولي هذا، ينبغي أن نميِّز بين الإيمان بالحقائق العقائديَّة وبين أن نكون "عقائديِّين"، بين التعبير عن إيماننا بالتعاليم العقائديَّة وكوننا "تعليميّين".
بالنسبة لنا، الحق هو المسيح (يوحنا 14: 6)، أي أنَّ الحقَّ يتجسَّد فيه، وهو أمر لم يكن بيلاطس مستعدًّا لقبوله (راجع يوحنا 18: 38). إنَّ الحقَّ (المسيح) يشترك مع المتَّحدين به (القديسين الذين هم أعضاء الكنيسة الحقيقيين). لا يتمّ التعبير عن الحقيقة بعبارات مجرَّدة، مقطوعة عن حياة الرب وكنيسته. إن العقائديَّة، باعتبارها إيديولوجيَّة لا تتزعزع، والتي يدفعها التمسُّك المتعصِّب بمواقف غير منطقيَّة وغير مقبولة، لا يمكن التوفيق بينها وبين الحقيقة المسيحيَّة، التي يتمّ التمسُّك بها طوعًا بدافع المحبَّة.4
إن العقائديَّة تعمي الذّهن، في حين أنَّ عقائد (حقائق) إيماننا تفتح عينيّ الإنسان الأعمى روحيًّا (راجع مزمور19: 8). العقائديَّة تجعل الإنسان متعصِّبًا ليصبح "شهيدًا" بقتل الآخرين؛ إنَّ محبَّة حقيقة إيماننا تدفع الإنسان إلى التضحية بنفسه من أجل الآخرين.
https://www.orthodoxwitness.org/why-is-dogma-important-in-my-life/
1المقصود هنا هو الفروقات مع غير الأرثوذكس (كاثوليك، بروتستانت، أصحاب الطبيعة الواحدة، مسلمين، يهود، بوذيين، هندوس...) (المعرِّب).
2Prof. Mantzaridis, Orthodox Spiritual Life, p. 43.
3Fr. Dumitru Staniloae, The Experience of God, Holy Cross Orthodox Press, Brookline, Mass, 1994. p. 65.
4إنَّ اعتبار العقيدة الأرثوذكسيَّة إيديولوجيَّة أمرٌ خطيرٌ على الحياة الكنسيَّة للمؤمن الأرثوذكسيّ. ينقسم أصحاب هذا الفكر إلى إثنين: الفئة الأولى تتمسَّك بالعقيدة بأسنانها وتعتبر نفسها مدافعة عن الإيمان ولكن عند أوَّل اختبار حقيقي تسقط بسهولة مستسلمةً لأهوائها وشهواتها. مثلاً: تتمسَّك هذه الفئة بالعقائد الإيمانيَّة ولكنها تشترك بالصلوات مع غير الأرثوذكسيِّين، أو أنَّ نمط حياتها ينافي الأمور الإيمانيَّة. عندها العقائد الإيمانيَّة تصبح مجرَّد أفكار إيديولوجيَّة. أمَّا الفئة الثانية فهي أيضًا تتمسَّك بالعقيدة ولكنها تخلط بين الفكر الهرطوقي والإنسان الهرطوقي. فالأرثوذكسيّ الحق يمقت الخطيئة ويحبُّ الخاطئ. المشترَك بين الفئتين هو عدم التمييز التي هي أعظم الفضائل الروحيَّة. لعل أفضل من كتب عن هذا المنهج هو القديس باييسيوس الآثوسي: "الذين يسبِّبون الاضطِّراب في الكنيسة الأُم هم كثيرون، للأسف، في عصرنا. منهم من المثقَّفين الذين تمسَّكوا بالعقيدة عقليًّا وليس بروح الآباء القديسين؛ ومنهم من الأمِّيين الذين التقطوا العقيدة بين أسنانهم وباتوا يُصرُّون عليها عند تبادل الآراء في القضايا الكنائسيَّة، وهكذا أمسوا عنصرًا مؤذيًا للكنيسة أكثر ممن يحاربون أرثوذكسيَّتنا من الخارج." (المعرِّب)