حديثٌ عَن سِرِّ التَّوبَةِ والاعتِرافِ (2/2)
الأرشمندريت جاورجيوس كبسانيس
رئيس دَير البارِّ غريغوريوس في الجبل المقدَّس-آثوس
١٩٩٩
نقله إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس
كانَ هُناكَ قَبلَ عِدَّةِ سنواتٍ، شيخٌ رُوحيٌّ يُعرِّفُ عَدَدًا كَبيرًا مِنَ المُؤمنينَ، في كنيسةٍ صغيرةٍ، في أثينا. كانُوا يبوحُونَ لهُ بِهمومِ حياتِهم باكين. ولِشِدَّةِ بَساطَتِهِ، لَم يكُنْ يِعلَم ماذا يفعَل، قالَ: «حينَ يَبكونَ أَمامي، أَبكِي مَعَهُم أنا أيضًا». يا لَها مِن مَحَبَّةٍ في قلبه على مِثالِ المَسيحِ! قد طَبَّقَ القولَ الرَّسُوليَّ: «فَرَحًا مَعَ الفَرِحينَ، وبُكاءً مَع البَاكين» (روميا ١٢: ١٥). ليسَ الكلامُ الكثيرُ ضروريًّا، بَل مُجَرَّد مُشاركتُهِ أَلمَهُم تَكفي؛ كَي يَجِدوا الارتِياحَ والسَّلام.
يَحلُّ الاعترافُ، في أحيانٍ كثيرةٍ، مَشاكِلَ مُستَحيلةً. يُقْبِلُ الكثيرون إلى الاعتراف، ولدَيهِم مشاكلُ مُعَقَّدَةٌ جِدًّا، لا مَخرَجَ مِنها. لكن بِنعمةِ الرُّوحِ القُدُسِ، والاستنارةِ الإلهيَّةِ، يُساعِدُ الأبُ الرُّوحيُّ المُؤمنين على أَنْ يَصِلُوا إلى حَلِّ عُسْرِ مشاكِلِهم، ويَخرُجوا مُرتاحين.
ما دام الاعتِرافُ بِتَوبَةٍ يَمنَحُ بركةً كُبرى لحياتِنا، فستواجهُنا عَقباتٌ عديدة. الأُولى والكُبرى بينَها، هِي كبرياؤنا، أسوَأ العَقَباتِ الَّتي تُعيقُ جميع النّاس. كُلَّ مَرَّةٍ نُزمِعُ على الاعتراف، سيُوَسوِسُ لنا المُجَرِّب، مُستَغِلاًّ غُرورنا: «ما بِك؟ لِماذا تُريدُ الاعتِراف؟ وما شابَهَ» ... لكن عَلينا أَنْ نَنتصِرَ على غُرورِنا وعلى إبليسَ، حتَّى نتمَكَّنَ مِن الذَّهابِ إلى الأبِ الرُّوحيِّ، ونَتمتَّعَ بالعطايا الكَثيرةِ النَّابعةِ مِن هذا السِّرِّ المُقدَّسِ، سرِّ التَوبةِ والاعتراف.
اليَومَ، تُعزِّزُ طريقةُ العَيشِ أَنانيّةَ الإنسانِ، في جَميعِ مَجالاتِ الحياةِ؛ فالتَّربِيةُ والتَّعليمُ، والإعلامُ، والفَلسفة، تهدف إلى إقناع البَشَر بأنَّ الخلاصَ لا يَأتي مِنَ اللهِ، بَل مِن الإنسانِ نفسِه تِلقائيًّا. هذه كانَت خطيئة آدمَ وحوّاءِ نَفسها. أرادَ الجَدَّانِ الأولاّنِ، أَن يُصبِحا إلهَينِ من تِلقاءِ نَفسَيهِما وليسَ بنِعمَةِ الله، وهيِ كذلكَ خطيئةُ حضارتِنا المعاصرة. الإنسانُ الواقِعُ تحتَ تأثيرِ روحٍ كهذه، مِن الصَّعبِ جدًّا عليه أن يُقبِلَ إلى الاعتراف، مُفكِّرًا: «ما مِن داعي لنَعتَرِف، لأنَّنا نَخلِّصُ أنفُسَنا بأنفُسِنا وبِقوَّتِنا الخاصَّة». تُؤيِّدُ الأمرَ نفسَه كُلُّ الأديانِ الشَّرقيَّةِ الهِندوسيَّةِ واليُوغا، الواسِعةُ الانتشار. كُلُّها أنظِمَةٌ تعتَقِدُ بالخَلاصِ التّلقائيّ. يَخلُصُ الإنسانُ عَبرَ مُمارسَتِهِ تمارينَ مُحدَّدةٍ يفعلُها بِجهدِه: لا خَلاصَ عَبرَ نِعمةِ الله. يَجِبُ أن يَحذَرَ الأُرثوذُكسيُّونَ مِن هذهِ الجَماعاتِ والدِّياناتِ البَاطنيَّة. إنَّهُ لَضلالٌ كبيرٌ، لزَعْمِهم أنَّهم يَخلُصُون بِقواهم الخاصَّةِ والتّمارين، وليسَ عَبرَ نِعمةِ الله.
يُوجَد تَوجُّهٌ اجتماعيٌّ مُنظَّمٌ، يُحاوِلُ إقناعَ النَّاسِ بأنَّ الإنسانَ ليسَ هوَ المُذنِبُ بشأنِ الشَّرِّ العامِّ الحاصِلِ حَولَه؛ بَل يقَعُ الذَّنبُ على المُجتَمَعِ عامَّةً. أَي يُقالُ: «هُناكَ ظُلمٌ في العالَم، إذن مِنَ المُبَرَّرِ لي أَن أكونَ ظَالِمًا للآخَرينَ، ولا لومَ عَليَّ». هذا ما يحوّلُ المَسؤوليَّةَ الشّخصيّةَ، مسؤوليّةً عامّةً. بالطَّبع، يقعُ اللَّومُ، في شأنِ شرورٍ عديدةٍ، على مُجتمَعِنا المَريضِ الَّذي نَعيشُ فيه، لكن لا أَكُفُّ عَن أَن أَكونَ أنا نَفسي مُذنِبًا، إلى حَدٍّ ما، بسببِ الشُّرورِ الصّادرةِ مِنِّي ومِن مُجتَمَعي. قَد تَبَنَّت حَضارةُ اليَومِ، نَظَرِيَّةَ فرويد بالإباحَةِ الجنسيَّة. هو العالِمُ النَّفسيُّ الَّذي أَعلَنَ (pan sexualism) وهو القائِلُ إنّ إشباعَ الأَهواءِ الجَسديَّةِ ليسَ بِخطيئَةٍ، بَل الخطيئةُ عِندَهُ هي حيَن لا تُشبِعُ الرَّغباتِ الجنسيَّة. صارَ هذا التَّيَّارُ مُتفشِّيًا اليَومَ لدى المُعالِجينَ النَّفسيِّينَ، وفي حَياتِنا عَبرَ بَرامجِ التِّلفازِ والإذاعات، حتَّى في المَدارسِ يُدخِلونَ تَربيةً جِنسيَّةً وِفقًا لآراءِ فرويد. يَتضَرَّرُ الأطفالُ إنْ نَشَؤوا على هذهِ الأفكارِ كثيرًا. فإنَّنا نحنُ الكِبار نَتأثَّرُ سلبيًّا بِها، ونضعُفُ تَدريجيًّا، ونَبدأُ نقول: «لا يهمُّ. لا يُعَدُّ الفعلُ الفُلانيُّ خطيئةً. وبعدَها، نَفقِدُ يومًا بعدَ يومٍ الحسَّ والإدراكَ الصَّحيحَ بأنَّ تلك الأفعال هِي خَطايا فعلًا. نضلِّ إذن، ونَبتَعِدُ من الاعترافِ، ولا نَعودُ نَطلُبُ الشِّفاء.
إنَّ التّرويجَ للفَسادِ، والتَّسويقَ للجَريمَةِ، عَبرَ وَسائِلِ الإعلامِ، يَجعَلُ الحسَّ الأَخلاقيَّ في الإنسانِ ينحَرِف. المناظِرُ القَذِرَةُ الّتي نعتادُها، على شاشَةِ التِّلفاز، وفي المَجلّات، والجَرائد والإعلانات، تُفقِدُ الإنسانَ حسَّ التَّمْييز بين ما هو خَيْرٌ وما هو شَرٌّ وإِثْم، فيعتَبِرُها أمورًا عاديَّةً طبيعيَّة. ولكنّها لَيست طبيعيَّةً أبدًا، بِل انحرافٌ -مخالِفةٌ للطَّبيعَة- وتُحزِنُ اللهَ والرُّوحَ القُدُس. على هذا النَّحوِ، تَنحَرِفُ الحاسَّةُ الخُلقِيَّةُ عندَ المَرء. وهذا ما يُعيقُ بَعضَ النَّاسِ مِنَ الإقبالِ إلى سِرِّ التَّوبة.
برغمِ كُلِّ هذا، واجِبٌ عَلينا أَنْ نُقِرَّ بأَنَّنا، في عَصرِنا، نَرى إقبالًا على سرِّ التَّوبَةِ والاعترافِ، وهوَ مُزدَهِرٌ بمعونةِ اللهِ ونعمتِه. في كُلِّ سنينِ حياتي، في حقلِ الكَنيسة، وعُمري الآنَ ٦٤ سنةً، لَم أعهَدْ إقبالًا كهذا على سِرِّ الاعترافِ كما في أيَّامِنا، سِواءٌ أَفي المُدُنِ والأبرشيَّات أم في الجبلِ المُقدَّس، وفي كُلِّ مكان. هُناكَ بحثٌ وطلبٌ لدى الكثيرينَ لسرِّ الاعترافِ بتوبة. ما السَّبب؟ فَهِمَ النَّاسُ أنَّ كُلَّ شيءٍ باطلٌ، وأنَّ المسيحَ وَحدَهُ هوَ الحقيقَة. المسيحُ وحدَهُ يَقدِرُ على مَنحِ السَّلامِ الحقِّ للبشريَّة. يُدرِكونَ أنَّ حَضارةَ الأنانيَّةِ والغُرورِ، والاكتفاءِ الذّاتيِّ، وتأليهِ الإنسانِ لنفسِه، وخلاصِ الإنسانِ بقدراتِه الخاصَّةِ، لا تَقودُ إلى أَيِّ مكانٍ، إنّما تُوصلُ إلى الهاويَةِ والعَدَم. تتوقُ نفسُ الإنسانِ دَومًا إلى الله. وإذا لَمْ يَجدِ الإنسانُ اللهَ، أو لَم تتَحرَّرْ نفسُهُ مِن وِزرِ الخطايا الثّقيلِ، فهو لن يرتاحَ أبدًا.
لهذا، نشكرُ اللهَ لأَنَّهُ أنارَ الشَّعبَ المَسيحيَّ، أكثَرَ مِن أيِّ زمنٍ سبقَ، كَي يعتَرِفَ. يجدُرُ بِنا، أن نذكُرَ إنَّهُ لولا وجودُ آباءٍ روحيّين أَكْفاء، لَما كانَ هذا لِيتحقَّق. في كُلِّ مكانٍ، هُم يَتعَبونَ كثيرًا لأجلِ المُعتَرِفينَ لدَيهم. أودُّ أَن أُخبِرَكُم إنّ ما مِن عَمَلٍ يَقومُ بِهِ الكاهِنُ يُتعبهُ لهذا الحَدِّ مِثلَ الاعتِراف. وهُو عمَلٌ يستَلزِمُ مسؤولِيَّةً كُبرى. إنَّ الإكليريكيّينَ الحقيقِيِّينَ، الَّذينَ يُعَرِّفونَ بِتَواضُعٍ ومحبَّةٍ ومَخافَةِ اللهِ، يُضَحُّونَ بِذواتِهِم. كُنتُ أعِرفُ أُسقُفًا، قد رقَد الآن، كانَ أَبًا رُوحيًّا لِسنَوات. لكَثرَةِ الاعترافات، لِساعاتٍ متواصِلَةٍ، أُصيبَ بِمَرضِ الصُّداعِ المُزمِن الَّذي رافَقَهُ حتَّى مَوتِه. كانَت تلكَ هي تضحيَتَهُ مِن أجلِ أبنائهِ المُعتَرِفين. ثَمَّةَ كثيرونَ يُضحُّون مِثلَه.
هُنا، اسمَحُوا لي أَنْ أحذِّرَ من مَسأَلٍة مَهِمّةٍ: تُوجَدُ مُوضَةٌ اليَومَ، أَن يَبحَثَ بعضُ المسيحيّين عَن آباءٍ مَوْهوبينَ بالنُّبوءَةِ أو صُنعِ الأَشفِيَة. هذا خَطِرٌ جِدًّا. جَميعُ الكهَنَةِ عَليهِم نعمةُ الله. يَجِبُ أَلّا نبحثَ عَن آباءٍ مُتنبِّئينَ أو عجائبيِّين؛ لأنَّ الشَّيطانَ سيُضَلّلُنا. ولَن نُفيدَ الكَهَنَةَ المُتنبِّئينَ أو صانعي عجائب، إنّما قَد نُسبِّبُ لهم ضَررًا روحِيًّا، عَبرَ مَدْحِنا لهذه النّعَمِ الّتي يتمتّعون بها. يَجب أًن نَعتبِر كُلَّ أبٍ روحيٍّ قدِّيسًا، ونَفتحَ لهُ قَلبَنا بِتواضُعٍ ونعتَرِف.
يقولُ الآباءُ القدِّيسونَ، الأَمرَ الرَّهيبَ هذا: إِن وَجدتَ أمامَكَ حَطَبَةً، والتمستَ مِنها الإرشادَ الرُّوحيَّ، فستجيبُكَ بِما يُرضي اللهَ، ما دامَكَ سألتَ بِتواضُع. إذن، فالمُتواضِعُ هو بِغِنًى عَن البَحثِ عَن أبٍ روحيٍّ مَوهوبٍ (عَجائِبيٍّ أو يَعرِفُ المُستقبَلَ) بَل يقدِرُ أن يعتَرِفَ عندَ أيِّ كاهنٍ ورِعٍ خائفِ الله، لأنَّ المتواضِع رَجاؤُهُ باللهِ، وإيمانُهُ أنَّهُ ينالُ الحلَّ مِن أبيهِ الرُّوحيّ. بِنعمةِ اللهِ، ثَمَّةَ آباءٌ روحيُّونَ، على هذا المِثالِ، في الجَبَلِ المُقَدَّسِ وخارِجه. أَقولُ هذا لتَكونَ لَديكُم ثقةٌ بآبائِكُم الرّوحيِّين.
ختامًا، لَديَّ قِصّةٌ ستُعجِبُكم. أعتذِرُ إلى سيادَتِكَ عن أنّي سأُؤخِّرُكُم خمسَ دَقائقَ. فهِيَ أجمَلُ ما سَمِعتُ في حياتي. عاشَ في قَريَةٍ ما، كاهِنٌ متواضِعٌ وَديعٌ، غيرُ مشهورٍ، وأُمِّيّ. لكن كانَ مُنعمٌ عليهِ مِن الله. لَم يَمدحْهُ أحَدٌ قَطّ، على أَنَّهٌ أبٌ روحيٌّ مُهِمّ. مَرَّةً، في أثْناءِ الاحتلالِ في الأربعينيّات، عانى النَّاسُ مجاعةً لفترةٍ طويلة، فأرسَلَ هذا الكاهِنُ ابنَهُ إلى القَريَةِ المُجاوِرَةِ، عَلَّهُ يَجِدُ القَليلَ من الخبُزِ ليَسُدُّوا جُوعَهُم. وَجَدَ الصَّبيُّ رغيفًا، وتَوَقَّفَ في طريقِ العَودَةِ عِندَ عَينِ الماء. وجدَهُ أحدُهم واقِفًا هُناك، وقتَلَهُ لأجلِ الخُبز. فأحضروا الغُلامَ قتيلًا إلى أَبيهِ الكاهِن. تتخيَّلونَ ألَمَ الأبِ على مُصيبتِه. مَرَّت السّنواتُ، وجاءَ إلى تِلكَ القَريَةِ شابٌّ يبحَثُ عن العَمَل، فأخَذَهُ الكاهِنُ ليعمَلَ في حَقلِه. مَعَ الوَقتِ، لاحَظَ كَم أنَّهُ شابٌّ جادٌّ ونشيطٌ، وبَعد أَن اشتغلَ عِندَهُ لِسنواتٍ، قَدَّرَهُ الكاهِنُ. قالَ لهُ يَومًا:
يا بُنَيَّ، نحنُ نُقدِّرُكَ، عِندي ابنةٌ ونَوَدُّ أن تَصيرَ صِهرًا لَنا.
فرَدَّ الشَّابُّ بحزنٍ:
يا أبانا، لستُ أهلًا.
كيفَ تقولُ إنَّك لا تَستَحِقُّ؟ نحنُ نَراكَ مُمتازًا.
لستُ مُستحقًّا يدَ كريمَتِك. مِن فَضلِكَ تَعال هذا المساء إلى الكنيسة. أودُّ أَن أَعتَرِفَ وستَرى.
ذهبَ الكاهنُ الورِعُ إلى الكنيسة، ووَضَعَ البطرشيلَ، ووقَفَ أمامَ إيقونةِ السَّيِّدِ المَسيحِ، مُنتظرًا سَماعَ الاعتراف. جاءَ الشَّابُّ وبدأَ اعترافَه. قالَ:
يا أبانا، أنا مُجرمٌ. غَمستُ يَديَّ في الدِّماء. قَتلتُ صبِيًّا قُربَ نَبعِ الماءِ في المَكانِ الفُلانيّ.
فقال الكاهن:
يا وَلَدي، هَل آذاكَ الصَّبيُّ بِشيء؟ قال:
لا، يا أَبَتِ. لكن تَشوَّشَ ذِهني من شدَّةِ جُوعي، وحالَما شاهَدتُ رَغيفَ الخُبزِ في يَدِهِ، قَتلتُهُ كما لَو كانَ حمَلًا. كان يرتَدي صليبًا في عُنُقِهِ، فأَخذتُهُ وعَلَّقتُهُ في عُنقي. مُنذَ ذلكَ اليَوم، كُلَّ ليلةٍ يُحرِقُني هذا الصَّليب. فأَبكي نَدَمًا. ها هوَ الصَّليب. وكشَفَ عنه. حالَما شاهَد الكاهِنُ صليبَ ابنِهِ، خانَتهُ قِواهُ وكادَ يَهوي أرضًا. قالَ:
اسندْني يا بُنَيَّ، فأنا هَرِمٌ وما عادَت قَدمايَ تَحمِلاني. اسندني كَي لا أَقَع. فَسندَهُ الشَّابّ. ثُمَ نظرَ الكاهِنُ إلى المَصلوبِ، وتَعلَّمَ درسًا مُهِمًّا، فاستَمَدَّ قُوَّةً، ثُمَّ قالَ الشَّابُّ:
والآنَ، بَعدَما سمِعتَ كلامي، ألا زِلتَ تُريدُني صِهرًا في بَيتِك؟ أرَأيتَ أيّ خاطئٍ شَقِيٍّ أنا؟
فَردَّ علَيهِ ذاكَ الكاهِنُ الوَديع:
يا بُنَيَّ، ما دامَ اللهُ يَقبَلُكَ عَبرَ التَّوبَةِ في مَلَكوتِهِ، أَيُمكِنُني ألاّ أقبَلَكَ في بَيتي؟ هيَّا اركَع اذن، يا وَلَدي، لأقرأَ عليكَ صَلاةَ الحلِّ. ركَعَ الشَّابُّ، وصلَّى لُه الحلّ. ثمَّ قالَ له:
اسندْني، لنَذهبَ مَعًا إلى البَيت (لأنَّ رجليهِ لَم تحمِلاه).
أخذَهُ الشّابُّ إلى بَيتِهِ. وزوَّجَهُ ابنتَه.
لم يُخبِر هذا الكاهِنُ القدِّيسُ أحدًا عَن هُويَّةِ هذا الشَّابّ. ثمَّ قبلَ رُقادِهِ بقليلٍ، فيما كانَ في المُستشفى في أثينا، رَوى القصَّة لأَبيهِ الرُّوحيِّ الَّذي رَواها بدَورِه لي شخصيًّا. إنَّها حقيقيَّةٌ، وأنا رَويتُها لكُم، لكي تَرَوا كَم مِن النِّعمَةِ يُخبِّئُ الكاهِنُ المُتواضِعُ في قلبِه، ولتَرَوا أيّ بَركَةٍ عُظمى تكونُ لنا بوُجود الآباءِ الرّوحيّين.
أودُّ أَن أختُمَ حديثي هذا المُتواضعَ، بشُكرَ الرَّبّ الَّذي منَحنا هذهِ الهِبَةَ العظيمَةَ في كَنيستِنا الأُرثوذُكسيَّةِ المقدَّسةِ، أَلا وهي سِرُّ التَّوبَةِ والاعتِرافِ المُقَدَّسُ العَظيم. فِيه تَحقيقٌ لوعدِ الرَّبِّ المُفرِحِ في التَّطويبات: «طُوبى للبَاكينَ الآنَ لأَنَّهُم يَتَعَزَّونَ» (لوقا ٦:٢١) طُوبى لِكُلِّ مَن يَبكي على خَطاياهُ مِن الآنَ، ويَعتَرِف بِها بِتَوبَةٍ؛ لأنَّهُ سينالُ التَّعزِيَةَ والمَغفرةَ مِن الله؛ تَعزِيَةَ الرُّوحِ القُدُسِ، هُنا على الأَرضِ، وكَذلِكَ في السَّماء.
صلّوا، طالبينَ أَن يَمنَحَنا السَّيِّدُ الإلهُ نِعمَةَ التَّوبَة. آمين!