من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)

الجزء الثالث: حب السلطة: سقطة الشياطين

من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 - 2024) (3/3)

حب السلطة: سقطة الشياطين

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

 

إنّه حبّ السلطة هو الّذي كان يدفع بابوات روما لهذه الأعمال. لقد سكروا بالسلطة التي كانت لهم على الغرب، فأرادوا التوسّع على غرار الأسياد الزمنيّين، الّذين لم يختلفوا عنهم في أيّ شيء. فحيث فشل إبليس في تجربته للمسيح في البريّة، نجح مع بابوات روما في وعده لهم بأنّه يُعطيهم جميع ممالك الأرض. إنّه حبّ السلطة لدى الشيطان الّذي زرعه في بابوات القرون الماضية. تصوّروا كلّ ما عمله البابا ومُرسَلوه في الشرق، باسم المسيح، من الدسائس والعثرات والغشّ والمراوغة وبذر الفساد، همّهم الأوّل والوحيد اقتناص ما أمكن من النفوس، لِمَدّ سيطرتهم في الشرق، وللتعويض عن هذه الخسائر البشريّة كلّها التي خسرتها في الغرب، بسبب حركات الاحتجاج البروتستانتيّة. إنّهم لم يُفكّروا في خلاص هذه النفوس؛ وبالطبع كلّ من خُدِعَ بضلالاتهم كان قد أسلم نفسه لشيطان الهرطقة والانشقاق، الّذي همّه اقتناص النفوس وزيادة عدد أتباعه. مَن رأى أعمال الرهبان المرسلين ودسائسهم سيرى حتمًا أعمالًا من الشيطان، لأنّها مناقضة كلّيًّا لروح الإنجيل ولأقّل المبادئ المسيحيّة العامّة؛ مناقضة لكلّ ما عمله رسل المسيح في بشارتهم للعالم.

فبعد أن قاومت البابويّة بشراسة إنشاء أيّة بطريركيّة أخرى في الغرب إلى جانب بطريركيّة روما، على نموذج تعدّد البطريركات التي نشأت في الشرق، كان طبيعيًّا أن تسقط البابويّة بهذه الروح السلطويّة، وتمتدّ إلى روح التوسّع الاستعماريّة. لكن الشرّ والفساد ينقلب دائمًا على فاعليه. ففي الوقت الّذي كانت البابويّة تتوسّع استعماريًّا في الشرق الأرثوذكسيّ، في القرون السادس عشر إلى التاسع عشر، تغتصب ضمائر الناس، بالترغيب والترهيب، كان الالحاد ينتشر بقوّة في الغرب بين الشعوب الكاثولكيّة نفسها، بخاصّة بعد الثورة الفرنسيّة، مخلّفة وراءها كنيسة بابويّة مدهرنة، يتآكلها الفساد وجشع إلى السلطة لا مثيل له في التاريخ؛ همّها الأوّل ليس المسيح وخلاص الإنسان، إنّما تثبيت نفوذها الأرضيّ بكلّ الوسائل البشريّة المتاحة لها. وظهر هذا الأمر بوضوح في تحديد عقيدة عصمة البابوات، التي أقرّت في المجمع الفاتيكاني الأوّل، لدعم البابويّة المنهارة، بفساد أساليب وطرق أسياد هذا الدهر. لقد استخدموا العقائد الإلهيّة لتثبيت سلطة البابوات الأرضيّة. وهكذا، ما لم تستطع محاكم التفتيش البابويّة أن تعمله في الغرب، بكلّ أدوات التعذيب والقتل التي في حوزتها، لتعيد الناس إلى طاعة البابا، عملته الإرساليّات الرهبانيّة البابويّة في الشرق، بكلّ أدوات الدسائس والدهاء البشريّ الغنيّة بها، لتخضع الناس لهذه الطاعة المنحرفة. الارساليّات الرهبانيّة البابويّة لم تختلف في شيء عن محاكم التفتيش البابويّة، سوى بالأسلوب. الاثنان قتلوا الناس بحجّة الخضوع للبابا القدّيس. الأوّلون أحرقوا الأجساد، أمّا الآخرون فقد أحرقوا الأرواح والضمير. لهذا ما عملوه في الشرق كان أسوء وأخطر بكثير من قتل الأجساد. لا يمكن لمثل هؤلاء أن يعرفوا الإله الحقيقيّ، إنّ لهم إلههم الخاص، البابا، الّذي له، لا للإله الحقيقيّ، عملوا كلّ ما عملوه لإخضاع الكنيسة في الشرق.

ليست المشكلة دائمًا في الخطيئة، بما أنّ الربّ أعطانا توبة ومغفرة للخطايا، إنّما في تبرير الخطيئة. غريب أن لا يشعر أولئك الّذين انشقّوا عن الأرثوذكسيّة وتبعوا أمًّا غريبة، أن لا يشعروا بإثمهم وخيانتهم لأمّهم الحقيقيّة، التي حفظت لهم الإيمان وطريق الخلاص، وسط هذه الاضطهادات والضغوطات كلّها التي مرّت بها في كلّ تاريخها في هذا الشرق الجريح. لكنّهم عوض ذلك، يُزوّرون التاريخ، ليُبرّروا خطيئة انشقاقهم. عدم الأمانة هو زنى أسوأ من كلّ الخطايا. لقد أصبح هؤلاء المنضمّون إلى روما، كما وصفهم أحد اللاهوتيّين اليونان، كجيش الانكشاريّة التركيّ، الّذين كان الأتراك يختطفونهم من أولاد المسيحيّين، يربّونهم على الإسلام ليصيروا فيما بعد ألدّ أعداء المسيحيّين وأكثر المضطهِدين لآبائهم وإخوتهم الّذين وُلدوا منهم1. هكذا يعمل هؤلاء المنضمّون إلى روما بكنيسة آبائهم.

البابويّة لم تعد كنيسة الأنبياء والرسل والشهداء، أوّل الكنائس المدافعة عن الإيمان الأرثوذكسيّ الحقيقيّ. مَن لا يتذكّر بابوات روما القدّيسين: لاوون الكبير، غريغوريوس الذيالوغوس، مرتينوس، ولاوون الثالث، الّذين أحبّوا كنيسة المسيح الحقيقيّة وحفظوا ملء الإيمان؟ لماذا لم يبقَ البابوات الّذين أتوا بعدهم أمينين لهذا الإيمان؟ لَكُنّا بقينا كنيسة واحدة عظيمة في شهادتها للحقّ ومسيحه. لماذا لم يحفظوا هذا الفصل الجذريّ، الّذي أراده المسيح، للكنيسة عن العالم؟ لماذا تحوّلت كنيسة المسيح إلى كنيسة البابوات وأتباعهم؟ لماذا لم تعد كنيستهم تمتدّ نحو السماوات، كما كانت في القرون الأولى، إنّما تمتدّ نحو كلّ ما يخدم سلطتهم وتثبيتها؟ تبذل دمًا لا لتحصد روحًا إنّما أعداداً بشريّة؛ لأجل التوسّع والسيطرة والهيمنة على البشر. وكلّما تقدّمت الأيام نحو النهاية ستزداد سلطة البابوات الأرضيّة، لأنّهم أثبتوا أنّهم قادرون أن يكونوا زعماء الدين الجديد، الدين المسكونيّ الّذي سيجمع لا فقط ما يُسمّى كنائس مسيحيّة، إنّما أيضًا الأديان العالميّة كلّها، والّذي تُخطّط له الحركة المسكونيّة ومن يقف وراءها. من هذه الروح أتى أولئك الّذين انشقّوا عن الكنيسة الأرثوذكسيّة وباعوا أنفسهم للبابويّة. لقد فهموا المسيحيّة أنّها عدد وسلطة ونفوذ عالميّ، لهذا أسرعوا بترك الأرثوذكسيّة وبغضها واعتناق البابويّة والترويج لها. هؤلاء هم المسمّون أنفسهم "روم كاثوليك".

هذه لمحة مختصرة عن إنشقاق أُضيف إلى الانشقاقات الأخرى، التي مزّقت الكنيسة باسم المسيح نفسه، وخلقت عثرات لا تُحصى بين المؤمنين، واستغلال كنيسة المسيح من أعداء المسيح. والضلالة الكبرى اليوم، هي الدعاية المسكونيّة المنتشرة في كلّ مكان، التي تريد أن تمحو الماضي لا بالتوبة والعودة إلى الحقّ، إنّما بتثبيت الأخطاء والخطايا وتشريع كلّ الهرطقات والضلالات المختلفة، التي شوّهت أسس الإيمان الكامل والنقيّ. لا يمكن لإله الحقّ أن يوجد في هذا الفكر المسكونيّ المشحون بروح المراءاة والعداوة للحقّ. إنّه مشحون بطاقة شيطانيّة، هدفها الوصول إلى توحيد أديان العالم كلّها، لتسجد في النهاية لعدوّ المسيح الآتي. الماضي لا يُمحى إلَّا بالتوبة وإصلاح الأخطاء، على مثال توبة زكّا في الإنجيل. إذا كان الروم الكاثوليك صادقين في سعيهم إلى الوحدة، عليهم أن يعودوا بتوبة واعتراف بخطأ آبائهم. أن يعودوا إلى كنيسة آبائهم الأصليّة التي خرجوا منها، ومن دون أيّة شروط. نحن واحد حين نعود إلى إيمان مجامع الألف الأوّل المسكونيّة، الّذي هو واحد؛ دون أن ننقص منه أو نُضيف إليه. حينها يكون إيماننا واحدًا وتقليدنا المقدّس واحدًا. مَن لا يملك الجرأة والتواضع الكافي ليعترف بخطيئة انشقاقه، ويمحو خطيئة انشقاقه بالتوبة والاعتراف، لا يمكن أن يوجد مستحقًّا للمسيح ولكنيسته الواحدة، ولا لكلّ هذه الدماء التي بُذلت لأجل حفظ الإيمان، ووديعة الحقّ. مثل هذا ليس من روح المسيح بل من روح آخر. أيظنّ هؤلاء أنّهم يخلصون من دون هذه التوبة والاعتراف لغسل إثم آبائهم؟ هل يخلصون من دون إصلاح خطيئة انشقاقهم؟ تزوير الحقيقة قد يُريح ضميرهم النائم، لكنّه لا يُخلّصهم.

يكذب أولئك القائلون إنّ الأرثوذكسيّة يمكن أن يكون إيمانها واحدًا مع أيٌّ من كلّ تلك الجماعات المسمّاة مسيحيّة، مهما كان قِدَمُها وتسلسلها الرسوليّ، وعدد أتباعها وقوّتها وسلطتها. من غيّر حرفًا واحدًا في الإيمان خرج من كلّ الإيمان ومن كلّ تسلسل رسوليّ. الأرثوذكسيّة بقيت هذا القطيع الصغير، الّذي طوّبه المسيح، لسبب وحيد: أنّها وحدها كانت أمينة على وديعة الحقّ، وديعة الإيمان الحقيقيّ؛ وحدها ثبتت في الحقّ، وثبت الحقّ فيها. لا يملّ إبليس من عمل غربلة تلاميذ المسيح، وحتّى اليوم الأخير سيجد دائمًا خلفاء ليهوذا، في كلّ جيل وزمان ومكان سيجد خلفاء لآريوس ونسطوريوس وأفتيخيوس وخلفائهم.

في الرسالة الطويلة التي ذكرناها للكاتب الياس بن فخر، الشهير بابنِ الفخر الطرابلسيّ، الموجَّهة إلى القسَّ يوحنّا قسطنطين الحلبيّ في سنة 1728 مسيحيّة، خلال انشقاق الروم الكاثوليك، يردّ فيها عقائديًّا، ببراهين لا تُحصى من الكتاب المقدّس والآباء القدّيسين وأعمال المجامع المسكونيّة، على كلّ الابتداعات البابويّة، يختم الكاتب رسالته هكذا: "نحن، بقدرةِ الله، واقفون وثابتون على تعاليمِ الرسل والآباءِ القدّيسين وتقليداتِهم المكتوبة وغير المكتوبة، كما أوصانا بولس الرسول الإلهيّ (2تسا15:2). وأمّا الذين حادوا عنها وزاغوا وزادوا وأنقَصوا، فلنتجنّبهم كأعداءِ الحقّ، ونُعرِّفهم سوءَ ضلالتِهم لاسيّما أولئك الذين خَرجوا منّا ويحاربونا. فإنّهم، على رأيِ يوحنّا الرسول الإنجيليّ، "مِنّا خَرجوا ولكنّهم لم يكونوا مِنّا لأنّهم لو كانوا منّا إذًا لَثَبتوا معنا، ولكن ليتبيّنَ أنّهم جميعًا ليسوا مِنّا" (1يو 2: 19)... أمّا الذين هذه السجيّة سجيّتُهم، يحذّرنا منهم الرسولُ الحبيبُ يوحنّا بقولِه، "فإن أتاكُم أحدٌ لا يحملُ هذا التعليم فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام. فإنّ من قال له سلامٌ، فقد اشتركَ في أعمالِه الخبيثة" (2 يو 10). الذين نسألُ ربَّنا الصالح الذي يشاءُ الكلّ أن يخلُصوا وإلى معرفةِ الحقّ يُقبِلوا (1 تيم 2: 4) بأن ينيرَ بصائرَ عقولِهم ليعرفوا الحقَّ ويرجعوا إلى حضنِ أمِّهم الحقيقيّة، الكنيسة الشرقيّة، مبتعدين عن كلِّ ضلالةٍ محدَثة وغوايةٍ ملتوية. له المجد والعزّة والاقتدار الآنَ وكلَّ أوانٍ وإلى دهرِ الداهرين آمين"2.

 

1 Protopresbyter George D. Metallinos, UNIA: The Face and the Disguise, Apostoliki Diakonia.

2 ينهي الكاتب كتابه هكذا: "وكان النجازُ من نسخِه نهار الجمعة في الخامس والعشرين من شهرِ أيّار في قريةِ أميون، في كنيسةِ القدّيسِ يوحنّا المعمدان، شرقيّ القرية المذكورة، تذكار وجود هامتِه الشريفة. وذلك في سنة 1744 مسيحيّة. بيدِ كاتبِه المسكين الراجي عفوَك يا ربَّنا ورحمتَك، القسّ يوسف بن يوسف مرك". (نُسخ هذا الكتاب في هذه السنة، 1744، عن الكتاب الأصليّ المكتوب سنة 1728).