بدعة كهنوت المرأة (3/3)

حُجّة "الشماسات" في الكنيسة الأولى

بدعة كهنوت المرأة (3/3)

حُجّة "الشماسات" في الكنيسة الأولى

روني سعيد
 

من الواضح أنَّ دُعاة "كهنوت المرأة" لا يؤمنون بأنَّ الروح القدس هو المصدر "الوحيد" للتعليم المسيحي، وبالتالي لا يعتقدون بأنَّ القداسة هي الشرط "الوحيد" للمعرفة اللاهوتيّة سواء وُجدت المعرفة الأكاديميّة أم لم توجد؛ بتعبير آخر، لا يؤمنون بسلطة الآباء القديسين "الحصريّة" في التعليم، أي لا يؤمنون بالتقليد كمصدرٍ أوحد للتعليم1.

ولكن، من غير الواضح، كيف أنّهم، يستخدمون "التقليد" حجةً ضد التقليد، أي يدّعون أن بدعتهم المحارِبة للإيمان الأرثوذكسي موجودةٌ في التقليد نفسه! هذا مِمّا لا يمكن تفسيره إلا في إطار ماكيافيلّي: "الغاية تبرّر الوسيلة"؛ فهم يريدون إقناع أكبر عدد من الناس، بِغَضّ النظر عن الوسيلة، وليس لديهم إلا التقليد للتأثير على الأرثوذكسيّين المتمسّكين بما عندهم. هكذا، بالضبط، تكون الذئاب الخاطفة التي تظهر لأبناء الله بصورة الحملان.

وتتلخّص حجتهم بأنَّ "كهنوت المرأة" ليس اختراعًا جديدًا، إنّما تعود جذورُه إلى التقليد، وحياة الكنيسة الأولى. والدليل الذي يقدّمونه على ادّعائهم هذا، هو وجود "شمّاسات" نساء في الكنيسة الأولى، بل وحتى القرن العاشر تقريبًا. وقبل مناقشة حجّتهم، ينبغي الإشارة إلى مسألة منهجيّة في غاية الأهميّة.

ثمّة خصائص مشتركة، تجمع كافة الهراطقة – على اختلافهم – الذين تعاقبوا على كنيسة الله المقدّسة منذ عشرين قرنًا، وإحدى أهم هذه الخصائص هي "استغلال الألفاظ المتشابهة"، أي استغلال المصطلحات التي يمكن أن تحمل معانٍ متعدّدة. فالشيطان يعلم أنَّ اللغةَ البشريّة محدودةٌ بطبيعتها وقدرتها على التعبير عن الإلهيّات من حيث "الدقّة" و"الوضوح".

ومع ذلك، استطاع الآباء القدّيسون المُلهَمون من الله، مع الزمن، وبحسب ما فرضه الهراطقة من تحدّيات، أن يصوغوا الإيمان المُعاش بأدق، وأفضل، وأوضح طريقة ممكنة. فكانوا يزيدون "الدقّة اللغوية والتعبيريّة"، وليس "المعنى اللاهوتي" الثابت، حتى يغلقوا جميع الأبواب التي يحاول الهراطقة الماكرون أن يدخلوا منها.

فأبوليناريوس على سبيل المثال، الذي حرمه المجمع المسكوني الثاني عام 381، استغلّ وجود لفظة "الجسد" بعدّة معانٍ في الكتاب المقدّس، فقام باللعب على الألفاظ، ليضلّل المؤمنين ويقنعهم بأنَّ الرب يسوع لا يملك طبيعةً بشريّة كاملة، إنّما مجرّد "جسد" خالٍ من الروح والعقل. فاعتمد أبوليناريوس على قول الرسول بولس: "عظيم سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (1 تيموثاوس 3: 16)، ليقول إنَّ تجسد الإله، يعني أخذه للحم والدم، من دون النفس والعقل.

إلا أنَّ لفظة "الجسد" لا تأتي فقط بمعنى "الجسد الخالي من النفس البشريّة" كما في إنجيل متى: "فأخذ يوسف الجسد ولفّه بكتّان نقي" (متى 28: 59)؛ ولكن قد تأتي بمعنى "أعمال الخطيئة" في النفس والجسد كليهما، مثلًا: "لكي يتمّ حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (رومية 8: 4)؛ وقد تأتي بمعنى الطبيعة البشريّة كاملة، نفسًا وجسدًا، كما في قول الرسول بولس نفسه: "عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد" (رومية 1: 3). أوردنا كل هذه الأمثلة، لنُظهِر كيف يقوم أبوليناريوس – كنموذج لجميع الهراطقة – بالتلاعب بالألفاظ المتشابهة لتضليل المؤمنين البسطاء.

وحتى لا نبدو كأنّنا نخترع هذا التوصيف للحالة الهرطوقيّة، نقدّم لكم شهادة القديس باسيليوس الكبير، معلّم المسكونة، الذي يقول في كتابه عن الروح القدس إنَّ "الهراطقة يثرثرون حول الحروف لكي يدعّموا رأيهم المُخَرّف" (ف2: 4)، وإنَّ لديهم "تطرّف يظهر في التدقيق حول الألفاظ والكلمات ... الشرّ الذي يبتغونه ليس هيّنًا، فهو ينطوي على قصدٍ مظلمٍ وماكر موجَّه ضد الإيمان الصحيح" (ف2: 4)2؛ ثم يؤكّد أنَّ استخدام الحروف والألفاظ في الكتاب المقدّس هو "غير مقيّد"، وهذا ينطبق على اللاهوت الآبائي الأرثوذكسي: "فاستخدام الحروف (والكلمات) في الأسفار هو استخدام غير مُقيَّد حسب التعبير المطلوب وكلّما دعَت الحاجة" (ف4: 6)3، وأكثر من ذلك، فإنَّ حروف الجر نفسها، "لها عدة معانٍ متنوعة" (ف5: 9)4.

هكذا، وبهذه الروح الماكرة ذاتها، يتلاعب دُعاة كهنوت المرأة بلفظتَيْ "شماس" و"شماسة"، من أجل أن يوهموا القارئ بأنَّ المرأة تستطيع أن تصبح كاهنًا. ولن ندخل في تاريخ الألفاظ، كي لا نُرهِق القارئ، ولأنَّ الألفاظ قد تتغيّر، وأما المعنى فثابتٌ ثبات اللاهوت الأزليّ. إلا أنّنا سنوضح كيف أنَّ مصطلح "الشمّاس" يُقال بمعانٍ متعدّدة، منها ما يتضمن "الكهنوت"، كالشمّاس الإنجيلي على سبيل المثال، ومنها ما لا يتضمنه أبدًا كالقندلفت الذي يُساعد الكاهن في أمور غير ليتورجيّة وغير أسراريّة، وكان يُقال له شمّاسٌ في ما مضى.

حين يتحدّثون عن وجود شمّاسات في الكنيسة الأولى، فإنّهم لا يكتشفون شيئًا غير معلوم للجميع، إنّما أمرًا بديهيًّا نعلمه كلّنا. فالرسول بولس يذكر في رسالته إلى أهل رومية (16: 1-2)، الشمّاسة διάκονον فيبي، طالبًا من الإخوة مساعدتَها لأنّها كانت بدورها مساعِدةً لكثيرين. ونجد ما يشبه كلام الرسول بولس في المصادر المسيحيّة الأوّلية مثل كتاب الدسقولية، أي تعاليم الآباء الرسل، وهو غير كتاب الذيذاخي، وكذلك في قوانين المجامع المسكونيّة التي تتكلّم عن وجود شمّاسات، وهي: القانون 19 من المجمع المسكوني الأول (نيقية 325)، والقانون 15 من المجمع المسكوني الرابع (خلقيدونية 451)، وكذلك القانون 11 من مجمع اللاذقيّة المكاني (حوال العام 365) والذي هو بمثابة مجمع مسكوني. لذلك، سنتخطّى تلك الإشكاليّة المصطنعة حول "وجود الشمّاسات" قديمًا، لنتناول السؤال الجوهريّ: ماذا كانت تعني الكنيسة بمصطلح "شماسة"؟ هل عَنَت بها "الكهنوت الأسراري" بأيّ شكلٍ من الأشكال؟

لم يجرؤ أحدٌ، طوال تاريخ الكنيسة، ما عدا بعض الغنوصيّين والمونتانيّين القدماء، المتأثّرين – كما أسلفنا – بالوثنيّين وكاهنات معابدهم، حتى على التفكير بما يسمّى كهنوت المرأة، والسبب يعود إلى أنَّ الجواب على السؤال الجوهري الذي طرحناه هو واضحٌ وبديهيٌّ. ولكنّنا نضطّر الآن، في هذا العصر البائس، إلى توضيح الواضحات، وشرح البديهيّات.

ليست "شموسيّة" المرأة سوى وظيفة تتعلّق بالخدمة، والمساعدة، والتعليم، إذ لا علاقة لها البتّة بسرّ الكهنوت لا من قريب ولا من بعيد. وهذه الوظيفة الخدماتيّة والتعليميّة لم تكن مُبهمَة أو مطلقة، بل واضحة ومحدّدة في تعليم الكنيسة، وكذلك، لها شروطٌ معيّنة ينبغي توفّرها في المرشّحة إلى هذه الخدمة. فما هي الشروط؟ وهي ما هي المهام "المحدّدة"؟

يُشترَط بالشماسة، بحسب القوانين الرسوليّة، أن تكون "عذراء طاهرة" أو "أرملة" مشهود لها بالسيرة الحسنة، كما لا يحلّ لها أن تتزوّج بعد شموسيّتها. والقانون 15 من مجمع خلقيدونية يقول: "لا تُسام امرأة شمّاسة قبل بلوغها الأربعين ويجب أن تجتاز فحصًا دقيقًا واختبارًا صارمًا". كما يضيف القانون ما معناه أنّه إذا أهانت الشماسة وظيفتها بعقد زواج فلتُبسَل.5

وأما مَهامهنَّ، بحسب كتاب الدسقولية، فتتلخّص في زيارة وخدمة المرضى من النساء في بيوت الوثنيّين حصرًا، وذلك كي لا يتعثّر الشماس الشاب لرؤيته نساء وثنيّات غير محتشمات؛ فضلًا عن مساعدة الأسقف في مسح النساء المعتمدات بالزيت المقدس، كما استقبال وإرشاد وتعليم المرأة المعتمدة حديثًا6 ولا يعني مساعدة الكاهن، اشتراكًا في "سر المعموديّة"، إذ يقول كتاب الدسقولية حرفيًّا: "إنّها (الشمّاسات) لا تُعمِّد وإنَّما تساعد أو تخدم الكاهن الذي يُعمِّد النساء"، كما يقول: "لأجل أن النساء لا يعمدن: نحن نعلمكم أن هذا الفعل خطية عظيمة لِمَن يفعله ... ولو كان يجوز لأحد أن يتعمَّد من امرأة لكان السيد المسيح تعمَّد من أمّه"7. في الحقيقة، لم تكُن وظيفة الشماساتُ جزءًا من الرتبة الكهنوتيّة التي للشمّاس، إذ لم يشاركنَ في الخدم الإلهيَّة أو يلبسن ثيابًا كهنوتيَّة.

هذه الاشتراك اللفظي، لا المعنوي الكهنوتي، بين "الشماس" و"الشماسة"، نراه أيضًا بين "الشيخة" والشيخ". فالشيوخ بحسب الكتاب المقدس، لديهم صفة كهنوتية، إذ يتمّمون الأسرار التي لا تستطيع الشماسات أن تتمّمها، إذ نقرأ في رسالة يعقوب: "هل فيكم مريض فليدعُ شيوخ πρεσβυτέρους الكنيسة وليُصلّوا عليه ويدهنون بزيتٍ باسم الرب" (يعقوب 5: 14)؛ من الواضح، أنَّ الشيوخ وحدهم، وكذلك الأساقفة، يستطيعون إتمام "سر مسحة المرض"، لأنَّ المريض لم يستدعِ إلا الشيوخ لذلك.

ويؤكّد القديس أغناطيوس الأنطاكي (القرن الأول) على هذه الصفة الكهنوتية للشيوخ بقوله: "لازموا أسقفكم والشيوخ والشمامسة ... ولا تأتوا عملًا بدون الأسقف" (الرسالة إلى فيلاديلفيا، 7)8. وليس أدلّ على ذلك أيضًا، إلا كلام الرسول بطرس، الذي يجعل الصفة "الرسوليّة" متضمّنة لصفة الشيوخ الكهنوتيّة، حين يقول: "أطلب إلى الشيوخ Πρεσβυτέρους الذي بينكم أنا الشيخ مثلهم συμπρεσβύτερος" (1 بطرس 5: 1).

وأما الشيخات، التي يتحدث عنهن القانون 11 من مجمع اللاذقية، فيتمايزن عن الشمّاسات العاديّات، في أنّهن متقدّمن عليهن، أي بمثابة رئيسات عليهم، ولهنّ دورٌ إضافيّ واحد وهو "ضبط الهدوء عند النساء (حصرًا) أثناء الخدم الكنسيّة". يقول القانون بِنَصِّه الحرفي: "الشيخات المتقدّمات، كما يلقبن، أو الرئيسات من النساء لا يُسمح بتعيينهن في الكنيسة". ويعلّق القديس أبيفانيوس على هذا القانون قائلًا إنَّ دور الشيخات ينحصر في الخدمة الكنسية على ضبط النساء أثناء الصلاة عن أي تشويش او ازعاج.

فضلًا عن ذلك، يشدّد القديس إبيفانيوس على أنّ المسألة ليست إلا تشابهًا لفظيًّا في الألقاب بين الشيخ ككاهن والشيخة، "إذ إن هناك فرقًا واسعًا بين معنى كل من الكلمتين وان تقاربتا لفظًا واملاءً في اللغة اليونانية".9 ويقول قدّيسُنا في مقالٍ له إنَّ الشيخات "لم يُسمح لهن على الإطلاق أن يقدّمن الذبائح كما يدّعي هؤلاء، بل كان يُسمح لهن بالخدمة العاديّة"10. وطبعًا، لم يأتِ القديس بهذا الكلام من عنده، فمجمع اللاذقية نفسه يقول في القانون 44: "لا يجوز للنساء (بما فيهم الشيخات) الدخول إلى مذبح التقدمة (الهيكل)"11.

وبدوره، يعلّق بلسامون على القانون نفسه، موضّحًا كيف أنَّ الشيخات، ومعهن الشماسات، لم يقمن أبدًا بدور التعليم في الكنيسة لجمهور من النساء والرجال، موضّحًا بأنَّ ذلك شر لا يليق ولا يجوز أن يُسمح بمثله في الكنيسة12 .

وهذا ما يؤكّده القانون 70 من المجمع المسكوني الخامس-السادس (تروللو 692): "لا يجوز للنساء أن يتكلّمن أثناء القداس الإلهي بل يجب كما قال الرسول بولس: ’أن تصمت نساؤكم في الكنائس لأنّه لا يُباح لهن أن يتكلّمن بل عليهنّ أن يخضعن كما قال الناموس أيضًا. فإذا ابتغين أن يتعلّمن شيئًا فليسألن رجالهم في البيت، فإنّه عارٌ على النساء أن يتكلّمن في الكنيسة‘ (1 كورنثوس 13: 34-35)، ’لتتعلّم المرأة وهي ساكتة بكلّ خضوع. ولستُ أبيح للمرأة أن تعلّم ولا أن تتسلّط على رجالها بل عليها أن تكون ساكتة‘ (1 تيموثاوس 2: 11).

وعلى المنوال نفسه، يقول القديس نيقوديموس الآثوسي (القرن 18-19)، في شرحه لقوانين المجامع المسكونيَّة المتعلِّقة بالشماسات، إنَّ الشماسة لا تأخذ دور الشماس في الخدمة الليتورجيَّة في الهيكل والمنبر بل خدمتها تكون خارجهما. ويتابع أنَّه بحسب القوانين لا نسمح للنساء أن يعلِّمن في الكنيسة (لأنَّ القديس بولس يقول صراحة في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: "لستُ آذَنُ للمرأة أن تُعلِّم" (1 تيموثاوس 2: 12)، فكيف يمكن لأحد أن يسمح لهنَّ بأن يكنَّ كاهنات؟

وقد حاول دُعاة كهنوت المرأة، التأثير على سامعيهم، عن طريق الإشارة إلى أنَّ تعيين الشماسات يصير بوضع اليد. ولكن، من الواضح أنَّ وضع اليد هنا، مختلف عن وضع اليد في سيامة الشماس أو الكاهن أو الأسقف، فهو مجرد علامة خارجية لحلول نعمة روحية خاصة عليهن، وليس علامة على تقبّلهم لسرّ الكهنوت. فإنَّ "واجبات الشماسات ذُكرت في عدة كتابات قديمة كالقانون الثاني عشر من مجمع قرطاجة الرابع سنة 398"13، ولم يذكر أيّ مصدرٍ صفةً كهنوتيّة لهن.

على أيّة حال، ألغت كنيستنا المقدّسة هذه الخدمة، لأسباب عديدة لن ندخل في تفصيلها الآن. وأهم هذه الأسباب هو انتفاء الحاجة لوجودهن. ففي الكنيسة الأولى، كَثُرَ عدد النساء المهتدين من الوثنيّة إلى المسيحيّة، فكان من الصعب على الأسقف وحده (أو كاهن الرعيّة) أن يعتني بكل هذه النساء. فضلًا عن ذلك، كان يُمسح جسد المعمّد بالزيت المقدّس بشكلٍ شبه كامل، وهو ما قد يسبّب عثرة للكاهن بلمسه جسد المرأة كلّه؛ من هنا، تم الاستعانة بشمّاسات فقط ليساعدن الكاهن أو الأسقف، وهذه المساعدة كما سبق وشرحنا لم تكن جزءًا من الخدمة الليتوجيّة والكهنوتيّة.

وهناك سبب آخر ألمح إليه شرّاح القانون 11 من مجمع اللاذقيّة، كبلسامون وهيفيله وغيرهما، وهو محاولة تجاوز الشيخات والشماسات لدورهن، وأحيانًا، إساءة استعمال وظيفتهن "إما عن غطرسة أو جرًّا لمغانم دنيئة فكن سببًا للعثرات"14. وليس الدعوة إلى شموسيّة المرأة اليوم، إلا عودة لتجاوز الحدود المُعطاة للمرأة، وهو السبب الذي جعل الكنيسة تلغي هذه الخدمة بوحيٍ من الروح القدس.

وإذا ما أراد الله عودة هذه الخدمة، فهو بالطبع سيعلن ذلك بروحه القدوس، لأولئك المجاهِدين بالروح، الذين تنقّوا من أهوائهم، فاستناروا بالنعمة الإلهيّة؛ ولن يعلن ذلك طبعًا، لأولئك المتكبّرين المزدَرين بالتقليد المقدّس، والذين ينكرون السلطة التعليميّة الحصريّة للآباء القديسين، الواضعِين أنفسهم أعلى من القديسين. ومن يضع نفسه، باستعلاءٍ فكريّ، فوق قديسي الكنيسة، إنّما يضع نفسه فوق الروح القدس الذي فيهم، أي فوق الله ذاته؛ هكذا إنسان، لا يكون متشبّهًا بالمسيح، الوديع والمتواضع القلب، بل يتشبّه فقط بكوكب الصبح لوسيفوروس الذي أراد أن يكون مكان الله، فسقط وكان سقوطه عظيمًا.

فالذين يدعون اليوم لشموسيّة المرأة، لا يقومون بذلك انطلاقًا من خبرتهم الإلهيّة وقداستهم، إنّما من تأثّرهم بروح العصر وفلسفاته كالعقلانيّة والنسويّة ولاهوت التحرير وغيرها... هؤلاء جعلوا من أنفسهم، مصدرًا لتعليمٍ جديد، لم يأتِ به أيٌّ من القديسين من قبل، فصاروا محارِبين للروح القدس، ومجدّفين عليه..

أخيرًا، سيحاسبُنا الله، في يوم الدينونة العظيم، على إيمانِنا أوّلًا؛ وإن كنا نخدم في مجال التعليم الأرثوذكسي بصفتنا "أرثوذكسيّين" لا بروتستانت، أكان وعظًا أو كتابةً أو ضمن النطاق الأكاديمي، فإنَّ الله سيحاسبنا على كلّ كلمة ننطق بها. هكذا نختم مع القديس الشهيد دانييل سيسوييف القائل: "لم يتبقَّ لي سوى أن أتمنّى على الذين يكتبون عن الأمور اللاهوتية، بأن يتذكّروا بأن حياة القُرّاء الأبدية ومصيرهم الأبدي يعتمدان على الكلام الذي يكتبونه"15.


 

1 " يعلّم القديس يوحنا الدمشقي بوضوح: "الذي لا يعتقد بتقليد الكنيسة هو غير مؤمن" (القديس يوحنا الدمشقي، المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، تعريب الأرشمندريت أدريانوس شكور، "سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم"، "5"، بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، 1984، ط1، الكتاب الرابع، الرأس العاشر، ص228)

ويقول القديس غريغوريوس بالاماس:

"عندما يتبدل تقليد الكنيسة، ينحرف الإيمان الأرثوذكسي وتتلف إمكانية شفاءنا".

والقديس نكتاريوس العجائبي يتكلم عن العلاقة بين التقليد والكتاب المقدس قائلاً:

"التقليد المقدس هو الكنيسة عينها. وبدون التقليد المقدس لا توجد كنيسة. إن من ينكر التقليد، إنما ينكر الكنيسة وتعليم الرسل. قبل كتابة الكتاب المقدس، أي قبل خط الأناجيل وأعمال الرسل والرسائل، وقبل انتشارها بين كنائس العالم، كانت الكنيسة قائمة على التقليد المقدس. إن النصوص المقدسة هي بالنسبة للتقليد كما هو الجزء بالنسبة للكل".

2 القديس باسيليوس الكبير، الروح القدس، تعريب د. جورج حبيب بباوي، ط2، 2014، ص66-67.

3 المرجع نفسه، ص70.

4 المرجع نفسه، ص74.

5 مجموعة الشرع الكنسي، جمع وترجمة الأرشمندريت حنانيا كسّاب، بيروت، منشورات النور، 1998، ط2، ص 422.

6 المرجع نفسه، ص94-95؛ تعاليم الآباء الرسل المعروفة بالدسقولية، تعريب القمص صليب سوريال، الجيزة، مطبعة الكلمة، 1992، ص162.

7 المرجع نفسه، ص132؛ أنظر أيضًا:

Ante-Nicene Fathers, Ed. By Philip Schaff, Christian Classics Ethereal Library, vol. 7, pp. 950-951.

8 ANF, vol. 1, pp. 219.

9 مجموعة الشرع الكنسي، ص202.

10 المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

11 المرجع نفسه، ص230.

في ردّه على الهراطقة الذين ينادون بكهنوت المرأة السرائري، يقول القديس إبيفانيوس (أسقف سالاميس): "من الأزمنة الأولى لا نجد إمرأة خدمت خدمة كهنوتية ، بالرغم من اننا نرى في العهد الجديد نساء نبيات أو من الأنبياء ( أنظر لو 36:2.أع9:21 ) ، ولا إمرأة واحدة نجدها من الرسل ، ومن الكهنة . كان يوجد في الكنيسة طقس الشماسات ، هذا مؤكد . لكن هذه الوظيفة تختلف عن وظيفة الكاهن . بالإضافة إلى الشماسات ، لدى الكنيسة الأرامل والعذارى لكن أبدا لا نجد نساء في رتبة الكهنوت . بعد هذه الأجيال الكثيرة التي حملت هذا التقليد لا نستطيع نحن أن نرسم نساء للكهنوت" (Επιφανιου , Παναριον lxxix,3).

12 مجموعة الشرع الكنسي، ص201.

13 المرجع نفسه، ص95.

14 المرجع نفسه، ص201.

15 pr-daniil.livejournal.com، Опубликовано: 2009-06-12,«По ком звонит колокол»