كهنوت المرأة (1/3)

"الأرثوذكسيّون" الملحِدون

كهنوت المرأة (1/3)

"الأرثوذكسيّون" المُلحِدون

روني سعيد

 

هم "أرثوذكسيّون"، لا لشيءٍ، إلا لأنّهم ولدوا في عائلات أرثوذكسيّة، فصارت الأرثوذكسيّة لهم بمثابة هويّة عائليّة واجتماعيّة وطائفيّة؛ ولكنّهم ملحدون لأنَّ الأرثوذكسيّة لم تكن يومًا هويّتهم الفكريّة والإيمانيّة والإلهيّة، هي جزءٌ من صورتهم الخارجيّة، إلا أنّها لا تتماهى مع كيانهم العميق..

هم "أرثوذكسيّون" فقط لأنّ هناك من سامَهُم أساقفة وكهنة في كنيستنا الإلهيّة، أو لأنَّ هناك من أعطاهم وظيفةً مرموقة للتعليم الأكاديميّ في معاهدَ لاهوتيّة "أرثوذكسيّة"؛ ولكنّهم ملحِدون لأنّهم لا يؤمنون بأنَّ الكنيسة التي يعملون فيها هي ذاتها "كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أعمال الرّسل 20: 28)، وهي ذاتها "الكنيسة الجامعة المقدسّة الرسوليّة"، وهي ذاتها "عمود الحق وقاعدته" (1 تيموثاوس 3: 15)، تلك الكنيسة التي وعد المسيح بأنّه سيرسل لها المعزّي، ليمكث فيها إلى الأبد (يوحنا 14: 16) وليس إلى بعض الوقت، وبأنَّ "أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 16 : 18).

فالواقع، أنّهم لا يعتبرون كنيستنا المقدّسة، مهما أنكروا ذلك لفظيًّا، سوى مؤسّسة بشريّة معرّضة للضلال والسقوط، خاضعة لتقلّبات العصر، مؤسّسة تشيخ مع الزمن لتصبح بالية ومتعفّنة. وفي المقابل، يضعون أنفسهم أعلى من الكنيسة، ناظرين إلى ذواتهم المتشامخة والمتعجرِفة، كمُصلِحين ومجدِّدين ومثقّفين هبطوا علينا من عصر "العلم" المتطوّر، واقتحموا عصرنا البدائيّ والجاهل والمتخلّف، من أجل أن يرفعوننا نحن وكنيستنا "القديمة" إلى مستوى أعلى وأرقى، مستوى حضاريّ رفيع يشبههم. لهؤلاء يقول ربّ المجد: "تَضِلّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله" (متى 22: 29).

هم "أرثوذكسيّون" لأنّهم لا يريدون أن يتركوا كنيستنا بسلام، وأن ينتموا إلى جماعةٍ تشبه كبرياءهم وإلحادهم واستعلاء فكرهم؛ بل يصرّون على البقاء، لا في كنيسة الله وحسب، بل وفي مواقع المسؤوليّة أيضًا خاصّة الوعظ والتعليم والكتابة. رُبّما، لن يجدوا تلك الوظائف المرموقة خارج الكنيسة الأرثوذكسيّة، أو رُبّما أنّهم لن يتمكنوا من إشباع أهواء "محبة الذات" و"المجد الباطل" و"العُجب"، إذ لن يجدوا، خارج الكنيسة، هذا التبجيل والتصفيق الذي يجدونه داخلها من صغار النفوس أو الجهلة الذين يشبهونهم. خارج كنيستنا، هناك الفلاسفة العالميّون الذين يتفوّقون عليهم بأشواط، وهم بالتالي سيبدون صغارًا أمامهم، فلا هم فلاسفة كبار، ولا هم لاهوتيّون محترمون؛ ليس لديهم ما يضيفونه إلى الفلسفة العالميّة، ولكن لديهم ما يخرّبون به صرح كنيستنا العظيم.

لذلك، هم ملحدون وإن كانوا داخل الكنيسة، لأنّهم ينتمون، لا إلى روح المسيح، بل إلى روح العصر؛ فكما أنَّ أباءنا القديسين المجيدين عاشوا غرباء ونزلاء في وسط العالم، هكذا هؤلاء "الأرثوذكسيون"، مع أنّهم في وسط الكنيسة، إلا أنّهم يعيشون غرباء عنها، ونزلاء فيها. وهنا، دعونا نشرح ما هو المقصود بروح المسيح وروح العصر، ليفهم القارئ جيّدًا بعيدًا عن كلّ غموض وفلسفة.

روح المسيح هو نفسه روح الكنيسة، الينبوع الذي يستقي منه المؤمنون الماءَ الحيّ، "لأنَّ من عندكَ ينبوع الحياة، وبنورِكَ نعاين النور." (مزمور 35: 9). إنّه الروح الذي سلّمه المسيح لتلاميذه يوم العنصرة، وهو يكفي ليعرف الإنسان كلَّ ما يتعلّق بالله، ولهذا السبب، يقول القديس مكسيموس المعترف: "تسلّم التلاميذ الحقيقة كاملة يوم العنصرة"، تسلّموها كاملة وليس جزئيّة، لأنَّ الحقيقة إما أن تكون كاملة، إما أن لا تكون؛ ليس هناك نسبيّة في الحقيقة اللاهوتيّة كما تدّعي معاهد وجامعات هذا العالم. وهذا عينه ما يقوله الكتاب المقدس: "لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟ هكذا أيضا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1 كورنثوس 2: 11).

ولكن، لا يقتني المرء هذا الروح القدس، بمجرّد الانتماء إلى الكنيسة، لأنَّ الله لا يسكن في الخطأة غير التائبين وغير المتواضِعين، إنّما يستريح في القديسين. هؤلاء القديسون هم وحدهم الذين شُفوا من أهوائهم، بعد جهادٍ روحيّ قائم على الحياة الأرثوذكسيّة النسكيّة، فاستنارَ ذهنهم بقوّة الروح القدس، فتألّهوا وعاينوا الله. هؤلاء وحدهم من لديهم الحقيقة، لأنّهم عرفوا الله الذي هو الحقيقة؛ وكونهم عرفوه، أحبّوه، وفهموه، وعلّموا بأمانة ما سلّمه للكنيسة، وفصّلوا باستقامة كلمة الحق، وكلمة الكذب. لقد كتب الرسل والآباء القديسون، انطلاقًا من خبرتهم الحيّة مع الله، الحقيقة الإلهيّة التي فهموها وعاشوها؛ تلك الحقيقة هي نفسها "اللاهوت الأرثوذكسي" وهي نفسها "التقليد" أي "الإيمان المسلّم (المُقَلَّد) مرّة للقديسين" (يهوذا 1: 3).

من هنا، تُسمّى كنيسة الله، بكنيسة الآباء القديسين، ولأجل ذلك، لا نتكّل نحن الخطأة على ما يوحي إلينا أيُّ روحٍ مجهولٍ يهبّ علينا، إنّما على الروح الناطق "حصرًا" في آبائنا القديسين، هاتفين مع القديس يوحنا الدمشقي: "نحن لا نتخطّى الحدود القديمة (الأزليّة) التي وضعها آباؤنا، بل نحافظ على التقاليد كما تسلّمناها، وذلك لأنّنا إذا ما شرعنا في تخريب صرح كنيستنا ولو قليلًا، لانهار بجملته".

وأما روح العصر، فهو الروح الذي يعمل ضد المسيح؛ إنّه الروح الذي يحرّك ويسيطر على كلّ من يجحد روح المسيح، لا سيّما "الأرثوذكسيّين" الذي وُلدوا في المعموديّة بالماء والروح، ثم عادوا وجحدوا إيمان معموديّتهم بتنيّهم لفلسفات هذا الدهر الملحِدة. لقد زرع هذا الروح الغريب في عقولهم، شتّى أنواع الهرطقات، التي علّمنا الآباء القديسون أنّها "إيمان جديد"، حول "إله غريب"1؛ وهذا الإله الغريب ليس إلهًا حقيقيًّا موجودًا في الواقع، بل في خيال العقل المريض والمتكبّر؛ فمن لم يعرف الله، أو بالأحرى من لا يريد بتمرّده أن يعرفه، يخلق إلهًا جديدًا، مدّعيًا أنّه الخالق الحقيقي، وجاحِدًا الإله المتجسّد لخلاصنا.

لقد تعلّموا من هذا الروح المضلّ، أنَّ الكلام في اللاهوت ممكنٌ بالاعتماد على شهادات جامعيّة أكاديميّة؛ لقد انتفخوا بالعلم، واعتمدوا على أفكارهم الخاصّة، أو على معلّمين كذبة من دون تمييز، فانطبق عليهم قول الرب على لسان أرميا النبيّ: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشقّقة لا تضبط ماءً" (إرميا 2: 13). هذا اللاهوت الذي لا يعتمد على الخبرة الإلهيّة الواحدة، يسمّيه القديس مكسيموس المعترف "لاهوت الشياطين"، لأنّه ليس نتائج ذهنٍ مستنير بالروح القدس، ولا نفسٍ تنقّت من الأهواء، بل نفسٍ مريضة رازحة تحت أهوائها المقيتة.

فهل بقي نوعٌ من التجديف لم يلقوه على مسامع الكنيسة، بدءًا من نكران "التقليد" المقدّس كمصدرٍ "وحيد" للإيمان، والازدراء بالقوانين الإلهيّة للمجامع المسكونيّة، إلى نكران كنيستنا كحقيقة غير مستقلة عن المسيح، إلى تبنّي العولمة الدينيّة التي للحركة المسكونيّة، وصولًا إلى التمرّد على الترتيب الإلهي نفسه بدفاعهم عن حقوق المثليّين، وكهنوت المرأة وغيرها؟

لقد أعطانا الله الحريّة، أن نتبع كنيسته أو لا نتبعها؛ لذلك، هذا الإلحاد الذي يعمل داخل الكنيسة، هو تمرّد على الحريّة نفسها؛ وذلك لأنَّ أصحابه لا يقدّمون التجديف على أنّه رفضٌ لله، بل يعرضونه على الإخوة البسطاء، باعتباره لاهوتًا أرثوذكسيًّا، صادحين به بأصواتٍ أرثوذكسيّة ولباسٍ أرثوذكسيّ. تُرى هل يعلمون أنَّهم باتوا أسوأ من المجرِمين أنفسهم، فأولئك يقتلون الأجساد، أما هم فيقتلون الأرواح ويتهلّلون بذلك! فليعلم الذين يهمّهم يوم الدينونة الرهيب، أنَّ الله، مثلما علّمنا قديسوه الذين عاينوه، هكذا يرى المحارِبين للإيمان الأرثوذكسي من داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة؛ يراهم مجرمين، ذئاب خاطفة، ملحِدين، محارِبين لله؛ فلا فرق بين أن تحارب الله، وبين أن تحارب كنيسته وتعاليمها المقدّسة.

يقول القديس كبريانوس القرطاجي (القرن الثاني): "لا يستطيع أن يدّعي أبًا له، من لم يأخذ الكنيسة أمًّا له". هذا يعني أنَّ كلّ من يتمرّد على تقليد الكنيسة، أي التعليم المسلّم لها من الرسل والآباء القديسين، ومن يزدري بمجامعها المقدّسة "الموحى بها"، يكون محارِبًا للروح القدس، وخصمًا شخصيًّا لله. وإن كان المسيح قد قال للذين حكموا عليه بالصلب: "سامحهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"؛ فإنّه لن يقول الشيء نفسه للذين يصلبون اليوم جسده – الكنيسة – بغية تحويله إلى مسيحٍ من هذا العالم، فإنَّ الذي نالَ سرَّ المعموديّة المقدّس، لا حجّة له بعد في جحوده.

لم يتعلّم الأرثوذكسيّون الملحدون – ولا يريدون أن يتعلّموا – في مدرسة آبائهم القديسين، بل اكتفوا بالتعلّم في صروح المعاهد والجامعات الأكاديميّة، لا سيّما الألمانيّة والفرنسيّة منها، والتي هي نموذج معاصر لروح هذا العالم. في هذه الجامعات، يدرس الطالب كلَّ شيء، باعتباره حقيقة نسبيّة، وبشريّة؛ الحقائق الكاملة، والمطلقة، و"الإلهيّة" هي مرفوضة في هذا النظام العالميّ الموَجَّه للتعليم. فالكتاب المقدّس نفسه، يدرسونه باعتباره نتاجًا بشريًّا تاريخيًّا لا إلهيًّا معصومًا.

لقد أُعجبوا بفلاسفة الغرب ولاهوتييهم أكثر من إعجباهم بالآباء القديسين، أو على الأقل أعجبوا بمعلّمين "أرثوذكسيّين" بنوا تعاليمهم على فلاسفة الغرب. لذلك، لا يقبل هؤلاء، في منهجيّتهم "الأكاديميّة" ومنظومة أفكارهم الجاحدة، أيّ تعليمٍ لا يُبنى على "العقل" العلمي وحده، أو على الأقّل على جزءٍ منه؛ في نهاية المطاف، ليس هذا العقل العلمي – في حقيقته – سوى فتافيت أفكارٍ بائسة، لأنّه كما يقول القديس ذياذوخوس الفوتيكي: "ليس أعجز من الفكر الذي يتفلسف خارج الله في أمور الله"2.

لقد ظنَّ أولئك "اللاهوتيّون" الفلاسفة، أي الأرثوذكسيون الملحدون، أنّهم بحكمتهم قادرون أن يفهموا اللاهوت أكثر من الآباء الأولّين ومن بولس الرسول نفسه، إلا أنّهم لا يعرفون أنَّهم يقدّمون فلسفةً من دون حكمة، ولاهوتًا من دون إله، وعنصرة من دون روح قدس، بل ومسيحيّةً من دون المسيح يسوع!

هم أرثوذكسيّون بين مزدوِجَيْن، وملحدون من غير مزدوجَيْن، أرثوذكسيّون بالمعنى المجازيّ أو الاجتماعي لا فرق، وملحدون بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى؛ إن كانت الأرثوذكسيّة قناعهم الإسميّ، فإنَّ الإلحاد وجههم الحقيقيّ، وإن كان الإصلاح دعوتهم الظاهريّة، فإنَّ الهدم والتخريب وظيفتهم الأصيلة. هم يدّعون الشجاعة والجرأة، إلا أنّهم نماذج للجبن والخبث، لأنّهم غالبًا ما لا يعبّرون عن أفكارهم بوضوح، إنّما يدسّون السمّ مع العسل، ويلفّون ويدورون بكلماتهم المنمّقة، بغية تشكيك المؤمنين الذين يخافون الله، بعقائد كنيستنا الموحى بها من فوق؛ فتراهم كلّما شكّكوا أبناء الكنيسة بتعليمٍ إلهيّ من هنا، عادوا وشكّكوهم بتعليمٍ من هناك، حتى يصطادوا الناس – رويدًا رويدًا – جاعلين إيّاهم على صورة أفكارهم التجديفيّة التي لا يجرأون على كتابتها بشكلٍ دقيقٍ وغير قابل للتأويل، كما نفعل نحن، أي كما تعلّمنا من آبائنا. إلههم إله التشويش والغموض والمكر، وإلهنا إله السلام والوضوح والصدق.

إذًا، ليس على سبيل المبالغة أو القسوة، بل على سبيل الوصف الدقيق والمتجرّد للحقيقة أن نقول عنهم ملحدون، لأنَّ من حقّ أبناء كنيستنا أن تعرف مصدر الأفكار المعروضة عليهم، حتى يسهل عليهم العمل بالوصيّة الإلهيّة: "امتحنوا كل شيء، وتمسكوا بالحسن." (1 تسالونيكي 5: 21). فلا يمكن فصل الأفكار عن مصدرها، فكما أنَّ فهم الله وقديسيه، يجعلنا قادرين على فهم الأرثوذكسيّة، كذلك، فَهْمُ "الأرثوذكسيّين الملحدين" مقدّمة ضروريّة لفهم الهرطقات التي يروّجون لها.

وكهنوت المرأة – كما ذكرنا – واحدة من تلك الهرطقات الكثيرة التي يروّج لها هؤلاء المتمرّدون على الله. وفي هذه الهرطقة الخطيرة، يعيدون إحياء "هرطقات قديمة" غنوصيّة، متأثّرين بما يُسمّى "الفلسفة النسويّة" والتي هي نتائج الفلسفة الإنسانويّة الإلحاديّة التي تضع الإنسان وأهوائه، مكان الله وعلاجه الروحي، وتضع نتائج السقوط أي الحالة المشوّهة بالخطيئة، مكان الحالة الأصليّة التي خلقنا عليها الله.

لقد أعلنوا الحربَ على مسيحيّتنا، التي نراها أرثوذكسيّة، ويرونها هم "متخلّفة"؛ ونحن بدورنا نعلن الحربَ على مسيحيّتهم، التي يرونها "إنسانيّة"، ونراها نحن "شيطانيّة" ومهيّئة لضدّ المسيح، وشاهدة على عصر الارتداد. هم ينظرون إلينا كجهلة ومرتزقة ومجانين ومتعصّبين، ونحن ننظر إليهم باعتبارهم جنود متشامخة في جيش الملاك الساقط لوسيفوروس.

في المقال القادم، سوف نشرح ما هو "سرّ" الكهنوت، لأنَّ أغلبيّة المروّجين لكهنوت المرأة لا يؤمنون بالكهنوت كسرّ إلهيّ معتبرين إيّاه مجرّد وظيفة كنسيّة. ثم سنشرح لماذا كهنوت المرأة هرطقة كبرى. ثم بعد ذلك، سنناقش المزيد من الحجج المزيّفة التي يتوسّلونها سبيلًا لتضليل المؤمنين الأتقياء والبسطاء. ولأجل هؤلاء الأتقياء وحدهم الذين يخافون الله ويحبّونه، نكتب هذه المقالات، طالبين صلواتهم.

يتبع...

 

1 القدّيس نيكيفوروس، (Antirr. 1, 43, PG. 100, 309)

2 القديس ذياذوخس أسقف فوتيكي، مائة مقالة في المعرفة الروحية، ط2، تعريب دير مار جرجس الحرف، منشورات التراث الآبائي، 2007، ص16.