مختارات عن النّور المقدّس

مختارات عن النّور المقدّس

هاريس سكارلاكيديس، من كتاب "النّور المقدّس، عجيبة نور القيامة عند قبر يسوع"

نقلته إلى العربية: فيرنا جدعون
 

نرى في الصّورة أدناه، فتاة صغيرة تَقودُ والدَها الأعمى عبر زقاقٍ ضيّقٍ في أورشليم عام ١٩٣٩. يعكُس وجهُ الفلسطينيّ الأعمى أمرًا يعجَز هو نفسُه عن رؤيته: تواضُع نَفسِه. هل يستطيع إنسانٌ أعمى يا تُرى أن "يرى" النّور المقدّس؟ لقد لمس توما الرّسول جِراح المسيح القائم وآمن، فأجابه حينئذٍ المسيح: "لأنّكَ رأيتَني يا توما آمنت! طوبى لمن آمنوا ولَم يَرَوا" (يوحنا ٢۰: ٢٩). إنّ معاينة النّور المقدّس غير محصورة بعَينَي الجسد فقط، بل قبل كلِّ شيء بالإيمان وبعَينيِّ قلبٍ نقيٍّ ونفسٍ فاضلة. لقد قال المسيح في العظة على الجبل: «طوبى لأنقياء القلوب، لأنّهم يعاينون الله» (متى ٥: ٨).

في تموز عام ٢۰١٢، راسلتني الطّبيبة النّفسيّة "كورنيليا شرادر" من هامبورغ، ألمانيا، بعد قراءتها لهذا الكتاب، مُعَبِّرةً عن رغبتها في حضور خدمة النّور المقدّس يوم السبت العظيم في سنة ٢۰١٣، برفقة زوجها وبعض الأصدقاء – الكاتب والمؤرّخ الألمانيّ الشّهير "بول باد" وزوجته. إلتقيتُ بالحُجّاج الألمان الأربعة يوم الأربعاء المقدّس ٢۰١٣ في مقهى في أورشليم. لقد كانوا أشخاصًا مميّزين وكانت صُحبَتُهم ممتعة. بعد ثلاثة أيّام، بعد انتهاء خدمة النّور المقدّس بوقتٍ قصير، التقيتُ بـ"كورنيليا" بالصّدفة. لقد كانت متأثِّرةً جدًّا. كانت تحمل في يدها شمعةً مُضاءة بالنّور المقدّس والدّموعُ في عينيها. لقد كانت امرأةً مختلفةً عن تلك التي التقيتُ بها منذ ثلاثة أيّام. فعلمتُ بأنّها عاينت النّور المقدّس. أوّل ما قلتُه لها: "كورنيليا، إنّ الدّموع تملأ عينيكِ"، فأومأت برأسها. سألتها: "هل رأيتِ النّور المقدّس؟" أجابت: "نعم، ولكن لا بِعَيْناي، بل بالحَريّ بِنَفسي. لقد شعرتُ بالنّورِ يعبرُ داخلي ويُنيرُ نفسي وقلبي. أضأتُ بعد ذلك شمعتي، ووضعتُ يدي فوق الشّعلةِ دون أن أحرّكها. لم أشعر بأيّة حرارة."

بعد أسبوعٍ من عودة "كورنيليا" إلى هامبورغ، راسَلَتْني قائلةً: "لقد غيّرَتْني كثيرًا تجربتي مع النّور المقدّس. بدأت مشاكلي الصحيّة تتحسّن منذ ذلك اليوم، وقد اختفت تمامًا الآن."

بعد ثلاثة أشهر، راسلتني مجددًّا: "لا أزال أتغيّر بعد اختباري للنّورالمقدّس. لقد كتبتُ البارحة مقالًا عن النّور المقدّس في صحيفة محلّيّة في هامبورغ، وفي كلّ مرّةٍ أفكّر بالأمر، أتمزّقُ."
 

لا ينزل النّور المقدّس لإشعال فتيلة قنديل الزيت، بل لإشعال قلوب النّاس بشعلة الصَّلاح الإلهيّ. لقد عاينَت "كورنيليا" النّور المقدّس، لكن لا بعينيها. بالتّالي، نعتقد بأنّه قد تمّت الإجابة على السّؤال الذي طرحناهُ آنفًا عمّا إذا كان بإمكان إنسانٍ أعمى رؤية النّور المقدّس. وللسّؤال عينهِ، يقدّم لنا الجوابَ أبرزُ لاهوتيّي الكنيسة الأرثوذكسيّة، القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الحديث: "أولئكَ الذين يكشف لهم المسيحُ القائمُ ذاته، يتراءى روحيًّا لأعيُنِ نفوسِهم."

شهادة شخصية

خلال خدمة النّور المقدّس يوم السّبت العظيم عام ٢۰۰٨، كنتُ حاضرًا لأوّل مرّةٍ لا في كنيسة القبر المقدّس كما اعتدت، بل في كنيسة القدّيسَين قسطنطين وهيلانة في البطريركيّة اليونانيّة. تقع هذه الكنيسة قرب القبّة العظيمة لكنيسة القبر المقدّس، وتُشرِف نوافذُها على منطقة القبر المقدّس.

نزَلَ النّور المقدّس كالمعتاد عند الظّهيرة وانتقل خلال بضع دقائق من شمعةٍ إلى أخرى داخل الكنيسة الصّغيرة حيثُ كنتُ أَقِف. بعدَ حوالي العشرِ دقائق، بعد أن أُشعِلَت شموع الحاضرين وفَرغَت الكنيسة، إذ بشعاع نورٍ أبيضَ مُزرَقّ يدخل من أحد نوافذ الكنيسة، كان أشبه بشحنةٍ كهربائيّةٍ أو بالبرق. كان الشّعاع السّاطع مستقيمًا وقد تحرّكَ بسرعةِ البرقِ نحو إيقونةٍ لوالدة الإله والمسيح تقعُ بالضبط مقابل النّافذة، من ثمّ ارتدَّ إلى مكانٍ آخر في الكنيسة. في الوقت عينه، سُمِعَ صوتُ صفيرٍ عالٍ، وكأنّ شيئًا ما كان يخترقُ الهواء. إنتهى هذا الحدث بِرُمَّتِه بظرفِ أجزاءٍ من الثّانية. كانت تقفُ تحت الإيقونةِ مباشرَةً امرأتان كانتا في تلك اللّحظة مستديرتان نحو النّافذة. عندما عاينتا الشُّعاع الأبيض المُزرَقّ وصوت الصّفير العالي، أخفضتا رأسيهما وصرختا وركضتا بضعة أمتارٍ بعيدًا عن المكان. لقد عبر النّور السّاطع فوق رأسيهما ببضعة سنتيمترات. من ثمّ استدارتا نحو الإيقونة ووضعتا يديهما على قلبهما في رهبةٍ وعَجَب.

كنتُ واقفًا على بُعد خمسة أمتار مع صديقي "جون كوتسيكيديس" الذي رأى الحادثة برمّتها هو وحوالي عشرة أشخاص كانوا متواجدين في المكان. حاولنا لبضع دقائق أن نفهم ماذا حدث. عندما توجّهنا إلى إيقونة والدة الإله، ذُهِلنا إذ رأينا أنّ قنديل الزّيت المعلَّق امامها قد أُشعِلَ بالشّعاع الأبيض المُزرَقّ. كان ذلك القنديل قد أُطفئ في وقتٍ سابق، حالُه حالُ كلّ القناديل الأخرى داخل الكنيسة.

يُشيرُ هذا الحدث بالذّات إلى أنّ النّور المقدّس لا يَستعلن ذاتهُ حصريًّا داخل كنيسة القبر المقدّس، ولكن في كنائس (أرثوذكسيّة) أخرى، أو حتّى في أماكن خارجيّة.

نرى، في الصّورة أعلاه، إيقونة والدة الإله وقنديل الزّيت الذي أُشعِل امامها بالشّعاع الأبيض المُزرقّ، إضافةً إلى امرأتين إحداهما تأخذ صورةً للإيقونة والقنديل، والأخرى تُشعِل شموعها منه بعد أن اشتعل بثوانٍ. جودةُ الصّورتان ضعيفة ذلك لأنّهما أُخِذَتا بهاتف "جون كوتسيكيديس".

 

نزول المسيح إلى الجحيم

حالما وصلتْ نفسُ المسيح إلى الجحيم، تبدّد ظلامُها، وفاض عالمُ الأموات بنور المسيح القائم. لذلك، إنَّ حدثَ القيامة والاحتفال بها قد حصلا في اللّحظة التي لفظَ فيها المسيح أنفاسه الأخيرة على الصّليب وصرخ: "قد تمّ". لأنّه في تلك اللّحظة بالذات، هُزِمَ الموت.

لقد أفرعَ فرحُ القيامة لأوّل مرّة من عود الصّليب وتناثر كالنّور في عالم الأموات عندما نزلَ المسيح إلى الجحيم كغالبٍ للموت. وقد نزَلَتْ معه أجواقٌ من الملائكة أيضًا.

"تمرمرت الجحيم لمّا رأتْكَ"، هكذا تنبّأ النبي إشعياء قبل سبعة قرونٍ من نزول المسيح إلى الجحيم. وبالطّبع ذاك الذي تمرمر بالأكثر هو لوسيفر السّاقط. وقد تمرمرت معه نفوسٌ مسجونةٌ عديدةٌ أيضًا. لقد أعلن المسيح الخبرَ السارَّ للنّفوسِ المسجونة وحرّرها من قيودها. لا كلّ النّفوس، بل فقط تلك الصّالحة والتّقيّة والفاضلة.

لقد عرفت نفوس الأموات تعليم المسيح ورأتهُ قائمًا. وأوّل ما رأوه، كما هو مكتوبٌ في قانون السبت العظيم، كانت الجِراح التي حمَلَها: الثّقوب من المسامير، آثار الضّرب، وجنبهُ المطعون بالحربة.

بعد قيامتِه، حَفِظَ المسيح، في جَسَدِهِ القائم، على كلّ الجراح التي لَحِقَت به خلال آلامه. وهو الآن يجلس على عرشه عن يمين الله، بهذه الجراح. وبهذا الجسد سوف يعود ثانيةً في مجيئه الثّاني. وبما أنّ هذا الجسد عادم الفساد، كذلك سوف تبقى هذه الجراح عادمة الفساد إلى الأبد.

يبدو غريبًا أنّ ذاك الذي شفى الجراح الجسديّة والنفسيّة لعددٍ لا يُحصى من النّاس، قد أبقى على جراحه الخاصّة دون شفاء. ولكن كيف له أن يشفيها فيما هي التي جعلت جسدَه القائم بهذا الجمال؟ فَخَلْفَ هذه الجراح تقبعُ آلامُه، وطاعته لمشيئة الآب، وتضحيته، ومحبّته اللّامتناهية تجاه الجنس البشريّ. يقول القدّيس غريغوريوس النزينزي: "لقد جُمِّلَ جسد المسيح المُجرَّح، بمعاناته"، خلال التّعذيب "لدرجة أنّه لم يوجَد ما هو أجمل منه". وكذلك الأمر، جميع من تألّموا أو استشهدوا من أجل اسم المسيح، حملوا وسيحملون جراحاتهم معهم إلى الفردوس كزينةٍ أبديّة.