اِعتراف الإيمان الأرثوذكسي كمِعيار إكلزيولوجيّ أساسيّ، بحسب القديس مكسيموس المعترف

اِعتراف الإيمان الأرثوذكسي كمِعيار إكلزيولوجيّ أساسيّ، بحسب القديس مكسيموس المعترف

الأستاذ جان كلود لارشيه

نقله إلى العربيّة: الشمّاس باييسيوس مخّول

 

يشدّد القديس مكسيموس المعترف، على نَحوٍ مُتَكَرِّرٍ، على اعترافَ الإيمان الأرثوذكسيّ كمِعيارٌ إكلزيولوجيّ أساسيّ.

يُحَدِّد اعترافُ الإيمان الأرثوذكسيّ الانتماءَ إلى الكنيسة أو عَدَمِهِ، الخروج عنها أو استعادة الوحدة معها، وبالتالي الشَّرِكة أو عدم الشَّرِكة معها. ينطبق هذا المبدأ على علاقة الأشخاص بالكنيسة، كما على علاقة الكنائس المحليَّة بالكنيسة الجامعة.

إن كانت الشركةُ تشهد للوحدة، وتُجَسِّدُها، وتُظهِرُها في كمالها، إلَّا أنَّ الاتحاد بالكنيسة الجامعة غير محدَّد ولا مشروط بالشركة (التي هي الغاية لا الوسيلة)، بل بالاعتراف بالإيمان الحقّ.

إنَّ الشركة، بالنسبة لمكسيموس، هي شركة بالمسيح وفي المسيح، وهذه الوحدة تتمّ أوَّلًا عبر الاعتراف المشترَك بالإيمان الصحيح بالمسيح. إن كان الإيمانُ بالمسيح خاطئًا، تُصبح الشّركةُ معه، ومع الذين يؤمنون به إيمانًا مستقيمًا، مستحيلةً. نجد في أعمال مكسيموس تشديدًا مستمرًّا بأنَّ الاعتراف بالإيمان الصحيح هو شرطٌ مطلَقٌ للشركة1، لأنَّ الذي لا يؤمن بالمسيح إيمانًا صحيحًا، أيْ وفقًا للتقليد، يُفرَز خارجًا عنه2. إنَّ الشركة التي تكتمل وتظهر بأسمى درجات الحقيقة والكمال في الشركة الإفخارستيَّة بجسد المسيح ودمه، تفترض إيمانًا حقيقيًّا. وإلّا، فإنَّنا «نُسقِط ونُلغي السرَّ الكبير والمنير، وهو أكثر ما نَحتَفي به في العبادة الأرثوذكسيَّة عند المسيحيّين»3. وفي هذه الحال، يبقى استدعاء الرُّوح القدس في القداس الإلهيّ من دون استجابةٍ، بالتالي تبقى القُدُسات دون تَقديسٍ، وهكذا تستحيل إمكانيَّة وجود أي شركة حقيقيَّة4.
 

الانسجام مع التقليد كمِعيار لأرثوذكسيَّة الإيمان

إنَّ الإيمان الأرثوذكسيّ، كَمِعيارٍ للانتماء إلى الكنيسة، لم تحدّده أيُّ كنيسة محليَّة بمفردها، بإكليريكِيّيها وبابواتِها وبطاركتِها ومؤمنيها، بل حدَّده مُجمَل تقليد الكنيسة الجامعة. إنَّ معيار أرثوذكسيَّة الإيمان، كما يؤكّد القدّيس مكسيموس مِرارًا5، هو انسجامُه مع التّقليد، كما حدّده الكتاب المقدَّس والرُّسل والمجامع والآباء. ليست مواقف الباباوات والبطاركة والأساقفة العقائديَّة وحدها التي يجب التصديق عليها وفقًا للعقيدة الأرثوذكسيَّة، المُعَبَّر عنها بكافَّة عناصر التقليد، إنَّما المجامع ذاتها أيضًا6.

يؤكّد القديس مكسيموس أنَّنا في الكنيسة، «نتعلَّم من الكتاب المقدَّس، العهد القديم والعهد الجديد، ومن القدّيسين المعلِّمين، ومن المجامع»7.

بالرَّغم من أنَّ مكسيموس يؤكّد على أنَّ كلَّ تحديدٍ عقائديٍّ، بغية أن يكون على انسجامٍ مع الإيمان الأرثوذكسيّ، يجب أن يكون مُنسَجِمًا مع تعليم «أحد المجامِع، أو أحد الآباء، أو الكتاب المقدَّس»8، إلَّا أنَّه ليس لواحدةٍ من عناصر التقليد هذه سلطةٌ مطلَقةٌ ومنعزلةٌ، إنّما سلطتُها تكون بالتوافق مع العناصر الأخرى، ومع كلِّ ما يُشَكِّلُ التَّقليد9.

 

ما هي الكنيسة الجامعة؟

بالنسبة للقدّيس مكسيموس، لا تتماثل الكنيسة الجامعة مُسبَقًا مع الكنيسة المحليَّة ولا مع الكنيسة العالميَّة10؛ إنَّ إشكاليَّة الإكلزيولوجيا الحديثة حول العلاقات بين الكنيسة المحليَّة والكنيسة الجامعة هي غريبة عنه، تمامًا كالمفهوم اللَّاتيني الذي يُماهي بين الكنيسة الجامعة والكنيسة العالميَّة كمجموعة الكنائس المحليَّة. الكنيسة الجامعة بالنسبة للقدّيس مكسيموس هي الكنيسة التي أسَّسها الله11، كنيسة المسيح، حيث هو حجر الزاوية (أفسس 2: 2012)، وحيث هو الرأس وهي جسده أيضًا (كولوسي 1: 18-2413)، وهي الكنيسة التي أسَّسها بنفسه على أساس الاعتراف المستقيم للإيمان به14، والتي هي واحدة وفريدة15. تتميَّز الكنيسة16 بشكلٍ أساسيّ، باعتبارها جامعة، بحقيقة اعترافها بالإيمان الأرثوذكسي17. «الكنيسة الجامعة هي اعتراف الإيمان المستقيم والخَلاصيّ بإله الكون»18. يضع القديسُ مكسيموس مُصطَلحَ «الكنيسة الجامعة» في أغلب نُصوصِه، حين يَستخدِمُه، ضمن سياقٍ يسلّط الضوء على الإيمان الأرثوذكسيّ بمواجهة الأفكار الهرطوقيَّة19.

إنَّ الآباء الذين يعترفون بالإيمان الأرثوذكسيّ ويدافعون عنه، يقومون بذلك باسم الكنيسة الجامعة، ولبقائها20. لقد جاهد الرُّسل والآباء القدّيسون والمعلّمون والشّهداء من أجل الكنيسة الجامعة والرَّسوليَّة، مكرَّسين بأعمالهم وأقوالهم وجهادهم وعرقهم وأوجاعهم ودمائهم، وموتهم الجائر21. على عكس ذلك، أولئك الذين يعترفون بعقائد هرطوقيَّة يعارِضون الكنيسة الجامعة ويعملون لتدميرها22، فَمِن دون عقائد القديسين، لا يمكن للكنيسة حتى أن توجد23. يمكننا إذًا أن نؤكّد وجودَ تَماثُلٍ لدى القديس مكسيموس بين الكنيسة الجامعة واعتراف الإيمان المستقيم24، فبالنسبة له، إنَّ اعتراف الإيمان الأرثوذكسيّ هو الذي يؤسّسها ويشكّلها25.

إذًا، إنَّ مصطلح ’جامعة’ καθολικός لا يعني ’عالميَّة’ οἰκουμενῐκός: يميّز مكسيموس، كغيره من الآباء القدماء، بين المفهومَين، ويُظهر توافقًا مع استخدامهما القديم26. على الرَّغم من تميُّز الجامعيَّة عن العالميَّة، إلَّا أنَّها تشتملها بمعنى معيَّن. إذا كانت الكنيسةُ الجامعةُ عالميَّةً، فعالمِيَّتُها ليست جغرافيَّة ولا سُلطَوِيَّة، بل عالميَّةٌ تشمل كلَّ حقائق الإيمان الأرثوذكسيّ في كلّ زمانٍ ومكان، وكلَّ الذين اعترفوا وما زالوا يعترفون بهذا الإيمان. فبهذا الاعتراف المشترك بهذا الإيمانِ عَينِه بالثالوث نفسه، وبالمسيح نفسه، تتّحدُ الكنائس المحليَّةُ ومؤمِنوها بالكنيسة الجامعة عَينِها27؛ بهذا الإيمان الذي يوحّد المسيحيّين المنتشرين في كلّ أنحاء العالم وفي كلّ القرون، «تجمع الكنيسةُ الجامعة كلَّ ما هو تحت السماء، وتستمرُّ بِجَمعِ كلِّ ما تبقّى إلى ما قد سبق وجمعته، ناشرةً، بقوّة الرُّوح القدس، روحًا واحدةً ولغةً واحدة، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، باتّفاق الإيمان وائتلاف التعبير عنه»28.

لكن، علينا أن ندرك أنه، في لحظة تاريخيَّة معيَّنة، عندما انتشرت الهرطقة في جميع الكنائس، أو في مُعظَمِها، تقلَّص عددُ المؤمنين في الكنيسة الجامعة، حتى أنَّه وصل إلى مؤمن واحد فقط29. فيما كان القديس مكسيموس يعترف ويدافع عن الإيمان الأرثوذكسيّ، شبه منفردٍ، كان على يَقينٍ بأنّه يعترف «بالعقيدة المشتركة في الكنيسة الجامعة»30 ويدافع عنها، أي عن الإيمان الذي اعترف به الرُّسل والآباء والمجامع والإكليريكيّون والعلمانيّون الأرثوذكسيّون في كلّ زمانٍ ومكان. من يعترف بالإيمان الأرثوذكسيّ، يكون في شركةٍ مع الكنيسة الجامعة أو يعود إلى الشركة معها؛ الذي يعترف بعقيدةٍ لا تتوافق مع الإيمان الأرثوذكسيّ، يَفرُزُ نفسَه عن الكنيسة، ويجب أن يُفرَز عنها. هذا المبدأ ينطبق على الأفراد كما على الكنائس المحليَّة أيضًا. تنتمي الكنائس المحليَّة إلى الكنيسة الجامعة، أو بالأحرى تكون الكنيسة الجامعة، طالما تؤمن إيمانًا أرثوذكسيًّا، إلَّا أنَّها تُقصى عنها عندما تعترف بعقائد غريبة عن الإيمان الأرثوذكسيّ كما حدَّده الرّسل والآباء والمجامع (حتّى ولو بقيت مؤسّساتيًّا بشكلِ كنائس وحملت تسمية كنيسة). عرَّف القديس مكسيموس كنيسة روما ككنيسة جامعة لسببٍ واحد، وهو أنَّها حافظَت وحدها على الإيمان الأرثوذكسيّ خلال فترة الجدال المونوثيليتي31. وعلى عكس ذلك، يعتبر كنائس القسطنطينيَّة وأنطاكية والإسكندريَّة وأورشليم خارج ولو كانت في شركةٍ مع بعضها البعض) بسبب تمسّكهم بالهرطقة32. على عكس ذلك، طالما تؤمن الكنائس إيمانًا أرثوذكسيًّا، فهي تُعتَبَر كنائس مقدَّسة وجامعة.

إن كانت أبواب الجحيم لا تقوى على الكنيسة التي أسَّسها المسيح، فهذا ليس لأنَّ كنيسةً محليَّةً معيَّنةً تمثّلها، وهي معصومة عن الانحراف نحو الهرطقة بسبب موهبةٍ أو حقٍّ أو قدرةٍ خاصَّة. كلُّ الكنائسِ كانت في زمنٍ معيَّنٍ واقعةً في هرطقةٍ ما، وبقيت الكنيسة الجامعة في جماعةٍ صغيرةٍ من المؤمنين يعترفون بالإيمان الأرثوذكسيّ. إذًا، إن كانت أبواب الجحيم لا تقوى على الكنيسة، فهذا يكون بنعمة الله التي تتلقّاها كونها جسد المسيح، لِنَنجو من هجمات الأعداء33. لا يُمكن للكنيسة الجامعة أن تفقد استقامتها وجامعيّتها لأنَّها، جوهريًّا، حقيقة مستيكيَّة، إنّها جسد المسيح.

 

Larchet, Jean-Claude. Saint Maxime le Confesseur. Paris, 2011. P. 205-210.

 

1 Voir Relatio. motionis., VI, Corpus Christinaorum. Series Graeca 39, p. 31-33; Disputatio Bizyae, IV, CCSG 39, p. 83; XXV, CCSG 39, p. 131-133.

2 Voir Dis. Biz., IX, CCSG 39, p. 91.

3 Cf. Th. Pol., Patrologiae Graeca 91, 140B.

4 Rel. mot., VI, CCSG 39, p. 31-33.

5 Opuscula Theologica et Polemica., 10, 136A ; Epistula Anastasii discipuli ad monachos Calaritanos, CCSG 39, p. 169 ; Dis. Biz., IX, CCSG 39, J. PELIKAN, «”Council or Father or Scripture”: The Concept of Authority in the Theology of Maximus the Confessor», p. 277-288, partiellement repris dans La Tradition chrétienne, t. II, L’Ésprit du christianisme oriental, 600-1700, p. 9-39; V. CROCE, Tradizione e ricerca. Il metodo teologico di san Massimo il Confessore, passim.

6 Dis. Biz., XII, CCSG 39, p. 95, 97.

7 Rel. mot., IX, CCSG 39, p. 37. Ces différents éléments tels que les conçoit Maxime sont longuement analysés dans la très bonne étude de V. CROCE, Tradizione e ricerca. Il metodo teologico di san Massimo il Confessore.

8 Th. Pol., XV PG 91, 180C.

9 Cf. J. PELIKAN, «”Council or Father or Scripture”: The Concept of Authority in the Theology of Maximus the Confessor», p. 287.

10 يميّز القديس مكسيموس، من حيث طريقة التعبير، بين الكنيسة الجامعة والكنائس المحليَّة.

11 Ep. Cal., CCSG 39, 9. 169.

12 Cf. Quaestiones ad Thalassium, 53, CCSG 7, p. 431.

13 Voir Thal., 63, CCSG 22, p. 155.

14 Voir Epistula ad Anastasium monachum discipulum, CCSG 39, p. 161.

15 Voir Thal., 63 PG 90, 685C, CCSG 22, p. 177.

16

17 Th. pol., 12, 144AB ; Th. pol., 11, PG 91, 140B ; Ep., 12, PG 91, 464AD ; Rel. mot., VI, CCSG 39, p. 31 ; Ep. Cal., CCSG 39, p. 169 ; Ep. An., CCSG 39, p. 161.

18 Ep. An., CCSG 39, p. 161.

19 Voir Th. pol., 11, PG 91, 14 AB ; 7, PG 91, 84 A, 88C ; 8, PG 91, 89CD, 92D ; 9, PG 91, 116B, 128B ; 12 PG 91, 141A, 143CD, 144A ; 15, PG 91, 160C ; 17, PG 91, 209D ; Ep., 11, PG 91, 461BC ; PG 91, 461BC, 464D, 465AB ; 13, PG 91, 532CD ; 17, PG 91, 580C, 581CD ; 18, PG 91, 584D-584A ; Ep. Cal., CCSG 39, 9. 169 ; Rel. mot., VI, CCSG 39, 9.31.

20 Voir Th. pol., 7, PG 91, 84A ; 9, PG 91, 128B ; 15, PG 91, 160C.

21 Th. pol., 11, PG 91, 140AB.

22 Voir Th. pol., 8, PG 91, 89CD ; 12, PG 91, 143D.

23 Rel. mot., V, CCSG 39, p. 29.

24 V. CROCE, Tradizione e ricerca. Il metodo teologico di san Massimo il Confessore, p. 70 ; voir aussi p. 71-72, 79-80.

25 Ibid., p. 80.

26 Voir G. FLOROVSKY, «Le Corps du Christ vivant», Cahiers théologiques de l’actualité protestante, HS 4, 1948, p. 24. Voir aussi V. LOSSKY, A l’image et à la resemblance de Dieu, chap. IX, «Du troisième attribut de l’Église», p. 170-173.

27 Sur la confession de la foi orthodoxe comme principe d’unité dans l’Église, voir Myst., 1, éd. Sotiropoulos, p. 130-132. Thal., 53, CCSG 7, p. 431. بالنسبة لمكسيموس، إنَّ اعتراف الإيمان هو مبدأ الوحدة فبل الشركة، بما أنَّه شرطٌ لها. (cf. Rel. Mot., CCSG 39, p. 31-33 ; Dis. Biz., CCSG 39, p.83, 131-133). Voir V. CROCE, Tradizione e ricerca. Il metodo reologico di san Massimo il Confessore, p. 69. J. –Cl. LARCHET, Maxime le Confesseur, médiateur entre l’Orient et l’Occident, Paris, 1998, p. 186-201.

28 Epistulae XVIII, PG 91, 584A.

29 Voir V. LOSSKY, A l’image et a la ressemblance de Dieu, p. 173.

30 Rel. mot., VI, CCSG 39, p. 31.

31. المُتَعَلِّق بهرطقة المشيئة الواحدة (المُتَرجِم)

32 Voir Ep. An., CCSG 39, p. 161.

33 Cf. Th. Pol., 8, PG 91, 92D.